المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

23- وحكم ربك بألا تعبدوا إلا إياه ، وبأن تبروا الوالدين براً تاماً ، وإذا بلغ الوالدان أو أحدهما عندك - أيها المخاطب - حال الضعف وصارا في آخر العمر فلا تتأفف لما يصدر منهما بصوت يدل على الضجر ، ولا تزجرهما ، وقل لهما قولا جميلا ليِّنا فيه إحسان وتكريم لهما .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ 23-24 } { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }

لما نهى تعالى عن الشرك به أمر بالتوحيد فقال : { وَقَضَى رَبُّكَ } قضاء دينيا وأمر أمرا شرعيا { أَنْ لَا تَعْبُدُوا } أحدا من أهل الأرض والسماوات الأحياء والأموات .

{ إِلَّا إِيَّاهُ } لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي له كل صفة كمال ، وله من تلك الصفة أعظمها على وجه لا يشبهه أحد من خلقه ، وهو المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة الدافع لجميع النقم الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور فهو المتفرد بذلك كله وغيره ليس له من ذلك شيء .

ثم ذكر بعد حقه القيام بحق الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان القولي والفعلي لأنهما سبب وجود العبد ولهما من المحبة للولد والإحسان إليه والقرب ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر .

{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا } أي : إذا وصلا إلى هذا السن الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف . { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وهذا أدنى مراتب الأذى نبه به على ما سواه ، والمعنى لا تؤذهما أدنى أذية .

{ وَلَا تَنْهَرْهُمَا } أي : تزجرهما وتتكلم لهما كلاما خشنا ، { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } بلفظ يحبانه وتأدب وتلطف بكلام لين حسن يلذ على قلوبهما وتطمئن به نفوسهما ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والعوائد والأزمان .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

وبعد أن ذكر - سبحانه - الأساس فى قبول الأعمال ، وهو إخلاص العبادة له - عزَّ وجل - وحده ، أتبع ذلك بتأكيد هذا الأساس بما هو من شرائط الإِيمان الحق وشعائره فقال - تعالى - : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً . . } .

قال القرطبى ما ملخصه : { قضى } أى : أمر وألزم وأوجب . . .

والقضاء يستعمل فى اللغة على وجوه ، فالقضاء بمعنى الأمر ، كما فى هذه الآية والقضاء بمعنى الخلق كقوله { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } يعنى خلقهن ، والقضاء بمعنى الفراغ من الشئ ، كقوله { قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } أى فرغ منه .

والقضاء بمعنى الارادة . كقوله - تعالى - : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . . } والمعنى : لقد نهى ربك عن الاشراك به نهيا قاطعا ، وأمر أمرا محكما لا يحتمل النسخ ، بأن لا تعبدوا أحدا سواه ، إذ هو الخالق لكل شئ ، والقادر على كل شئ ، وغيره مخلوق وعاجز عن فعل شئ إلا بإذنه - سبحانه - .

فالجملة الكريمة أمر لازم لإِخلاص العبادة لله ، بعد النهى عن الإِشراك به فى قوله - تعالى - : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ . . } وقد جاء هذا الأمر بلفظ { قضى } زيادة فى التأكيد ، لأن هذا اللفظ هنا يفيد الوجوب القطعى الذى لا رجعة فيه ، كما أن اشتمال الجملة الكريمة على النفى والاستثناء - وهما أعلا مراتب القصر - يزيد هذا الأمر تأكيدا وتوثيقا .

ثم أتبع - سبحانه - الأمر بوحدانيته ، بالأمر بالإِحسان إلى الوالدين فقال : { وبالوالدين إحسانا } .

أى : وقضى - أيضا - بأن تحسنوا - أيها المخاطبون - إلى الوالدين إحسانا كاملا لا يشوبه سوء أو مكروه .

وقد جاء الأمر بالاحسان إلى الوالدين عقب الأمر بوجوب إخلاص العبادة لله ، فى آيات كثيرة . منها قوله - تعالى - : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً . . } وقوله - تعالى - : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً . . } ولعل السر فى ذلك هو الإِشعار للمخاطبين بأهمية هذا الأمر المقتضى لوجوب الإِحسان إلى الوالدين ، حيث إنهما هما السبب المباشر لوجود الإِنسان فى هذه الحياة ، وهما اللذان لقيا ما لقيا من متاعب من أجل راحة أولادهما ، فيجب أن يقابل ما فعلاه بالشكر والاعتراف بالجميل .

قال بعض العلماء : وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب ، وهو الإِحسان إلى الوالدين ، ولم تذكر بأسلوب النهى سموا بالإِنسان عن أن تظن به الإِساءة إلى الوالدين ، وكأن الاساءة إليهما ، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها . . .

ثم فصل - سبحانه - مظاهر هذا الإِحسان فقال : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً .

. } .

و { إما } حرف مركب من " إن " الشرطية ، ومن " ما " المزيدة عليها للتأكيد ، وقوله : { أحدهما } فاعل يبلغن . وقرأ حمزة والكسائى { إما يبلغان } فيكون قوله { أحدهما } بدل من ألف الاثنين فى { يبلغان } .

وقوله { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } جواب الشرط .

قال الآلوسى : و { أف } اسم صوت ينبئ عن التضجر ، أو اسم فعل مضارع هو أتضجر . .

وفيه نحو من أربعين لغة . والوارد من ذلك فى القراءات سبع ثلاث متواترة ، وأربعة شاذة .

فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين ، وهو للتنكير : فالمعنى : فلا تقل أتضجر تضجرًا ما .

وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين ، والباقون بالكسر بدون تنوين . . .

وقوله { ولا تنهرهما } من النهر بمعنى الزجر ، يقال نهر فلان فلانا إذا زجره بغلظة .

والمعنى : كن - أيها المخاطب - محسنا إحسانا تاما بأبويك .

فإذا ما بلغ { عندك } أى : فى رعايتك وكفالتك { أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } سن الكبر والضعف { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أى : قولا يدل على التضجر منهما والاستثقال لأى تصرف من تصرفاتهما .

قال البيضاوى : والنهى عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الايذاء قياسا بطريق الأولى ، وقيل عرفا كقولك : فلان لا يملك النقير والقطمير - فإن هذا القول يدل على أنه لايملك شيئا قليلا أو كثيرا .

وقوله { ولا تنهرهما } أى : ولا تزجرهما عما يتعاطيانه من الأفعال التى لا تعجبك .

فالمراد من النهى الأول : المنع من إظهار التضجر منهما مطلقا .

والمراد من النهى الثانى : المنع من إظهار المخالفة لهما على سبيل الرد والتكذيب والتغليظ فى القول .

والتعبير بقوله : { عندك } يشير إلى أن الوالدين قد صارا فى كنف الابن وتحت رعايته ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن أصبح مسئولا عنهما ، بعد أن كانا هما مسئولين عنه .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى { عندك } قلت هو أن يكبرا ويعجزا ، وكانا كلاًّ على ولدهما لا كافل لهما غيره ، فهما عنده فى بيته وكنفه ، وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا ، وربما تولى منهما ما كانا يتوليانه منه فى حالة الطفولة ، فهو مأمور بأن يستعمل معهما وطاءة الخلق ، ولين الجانب ، حتى لا يقول لهما إذا أضجره ما يستقذر منهما ، أو يستثقل من مؤنهما : أف ، فضلا عما يزيد عليه .

والتقييد بحالة الكبر فى قوله - تعالى - : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر } جرى مجرى الغالب ، إذ أنهما يحتاجان إلى الرعاية فى حالة الكبر ، أكثر من احتياجهما إلى ذلك فى حالة قوتهما وشبابهما ، وإلا فالإِحسان إليهما ، والعناية بشأنهما . واجب على الأبناء سواء كان الآباء فى سن الكبر أم فى سن الشباب أم فى غيرهما .

وقوله - سبحانه - : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } أمر بالكلام الطيب معهما . بعد النهى عن الكلام الذى يدل على الضجر والقلق من فعلهما .

أى : وقل لهما بدل التأفيف والزجر ، قولا كريما حسنا ، يقتضيه حسن الأدب معهما ، والاحترام لهما والعطف عليهما .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

22

( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) . .

فهو أمر بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك . أمر في صورة قضاء . فهو أمر حتمي حتمية القضاء . ولفظة( قضى ) تخلع على الأمر معنى التوكيد ، إلى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء ( ألا تعبدوا إلا إياه ) فتبدو في جو التعبير كله ظلال التوكيد والتشديد .

فإذا وضعت القاعدة ، وأقيم الأساس ، جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية ، ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والأهداف من التكاليف والأعمال .

والرابطة الأولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الأسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله ، إعلانا لقيمة هذا البر عند الله :

( وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما : أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) .

بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء . ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب ! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .

إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر ؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية - إن أمهلهما الأجل - وهما مع ذلك سعيدان !

فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدروهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .

ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف !

وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًاۚ إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} (23)

{ قضى } في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس ، وأقول إن المعنى { وقضى ربك } أمره { ألا تعبدوا إلا إياه } وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة ، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكماً ، والمقضي هنا هو الأمر{[7517]} ، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك » وهي قراءة أصحابه ، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب ، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى » حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف .

قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند ، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك ، وقال عن ميمون بن مهران : إنه قال إن على قول ابن عباس لنوراً ، قال الله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك }{[7518]} ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك ، وقال لو قلنا هذا لطعن الزنادقة في مصحفنا ، والضمير في { تعبدوا } لجميع الخلق ، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور ، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له : إنه طلق امرأته ثلاثاً فقال له الحسن : عصيت ربك وبانت منك امرأتك ، فقال له الرجل قضي ذلك علي ، فقال له الحسن وكان فصيحاً ، ما قضى الله أي ما أمر الله ، وقرأ هذه الآية ، فقال الناس : تكلم الحسن في القدر .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون { قضى } على مشهورها في الكلام ، ويكون الضمير في قوله { تعبدوا } للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة ، لكن على التأويل الأول يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } عطفاً على { أن } الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً ، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله { وبالوالدين إحساناً } مقطوعاً من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين ، و { إما } شرطية ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ » ، وروي عن ابن ذكوان «يبلغنَ » بتخفيف النون ، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان » وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري ، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله { أحدهما } فاعلاً ، وقوله { أو كلاهما } معطوفاً عليه ، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله { أحدهما } بدلاً من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر : [ الطويل ]

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . ورجل رمى فيها الزمان فشلَّت{[7519]}

ويجوز{[7520]} أن يكون { أحدهما } فاعلاً وقوله { أو كلاهما } عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث ، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلاً في القرآن ، وقرأ أبو عمرو «أفِّ » بكسر الفاء وترك التنوين ، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفَّ » بفتح الفاء ، وقرأ أبو السمال «أفٌّ » بضم الفاء{[7521]} ، وقرأ ابن عباس «أف » خفيفة ، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية ، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف » بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة ، «وأفّاً » بالنصب والتنوين «وأفي » بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير ، «وأفاً » بألف بعد الفتحة ، «وأفّْ » بسكون الفاء المشددة «وأَف » مثل رب ، ومن العرب من يميل «أفاً » ، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه » .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر{[7522]} أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة ، فتعطي معنى الفعل المذكور ، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالاً لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون ، فلم ترد هذه في نفسها ، وإنما هي مثال الأعظم منها ، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور ، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر ، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن ، و «الألف » وسخ الأظفار ، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله { ولا تقل لهما أف } معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ{[7523]} الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما{[7524]} . وتقول { أف } .

قال القاضي أبو محمد : والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه ، وقال أبو الهدَّاج النجيبي{[7525]} : قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله { وقل لهما قولاً كريماً } ما هذا القول الكريم ؟ قال ابن المسيب : قول العبد المذنب للسيد الفظّ .


[7517]:قال أبو حيان في البحر تعقيبا على كلام ابن عطية هذا: "كأنه رام أن يترك [قضى] على مشهور موضعها بمعنى: قدر، فجعل متعلقة الأمر بالعبادة لا العبادة نفسها؛ لأنه لا يستقيم أن يقضي شيئا بمعنى أن يقدر إلا ويقع، والذي فهم المفسرون غيره أن متعلق [قضى] هو {ألا تعبدوا} سواء كانت [أن] تفسيرية أم مصدرية". (البحر المحيط 6-25).
[7518]:من الآية (13) من سورة (الشورى).
[7519]:البيت لكثير عزة، وهو في الديوان، والكتاب لسيبويه، وخزانة الأدب، وشرح شواهد العيني، وابن يعيش، وقبله يقول: فليت قلوصي عند عزة قــــيدت بحبل ضعيف عز منها فضلت وغودر في الحي المقيمين رحلها وكان لها باغ سواي فبـلــــت تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وأن تضل ناقته فلا يرحل عنها، فيكون قوله: (وكنت كذي رجلين...) معطوفا على قوله: (قيدت) ليدخل في التمني. وقال ابن سيدة: لما خانت عزة العهد، وثبت هو عليه، صار كذي رجلين: رجل صحيحة وهي ثباته على العهد، ورجل مريضة وهي خيانتها وزللها عن العهد، وقال بعضهم: معنى البيت أنه بين الخوف والرجاء والقرب والتنائي. وقيل غير هذا في معنى البيت، وهذا البيت من شواهد النحويين، فيروى (رجل) بالجر على أنه بدل مع أخرى مفصل من (رجلين)، ويجوز أن يكون الجر على الصفة، ويروى بالرفع على القطع وأنه خبر مبتدإ محذوف، والتقدير: هما رجل صحيحة ورجل أخرى، أو إحداهما صحيحة والأخرى رجل... والبيت في هذا كقوله تعالى: {قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة}، أي: إحداهما فئة تقاتل ...الخ. هذا وقد علق أبو حيان الأندلسي على قول ابن عطية هنا: "وهو بدل مقسم" بقوله: "هذا ليس من بدل التقسيم ؛ لأن شرط ذلك العطف بالواو، وأيضا فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه، و [كلاهما] يصدق عليه الضمير، وهو المبدل منه، فليس من المقسم".
[7520]:أي على هذه القراءة الثالثة.
[7521]:قال في البحر المحيط: "بضم الفاء من غير تنوين".
[7522]:يتقذر منهما لما يجد في حال كبرهما من نزول لعاب، أو ظهور مخاط، وفي حال مرضهما من بول ونحوه.
[7523]:الشيخ: الشيخوخة، وهما مصدر "شاخ" إذا أسن وكبر.
[7524]:أي: لا تكرههما ولا تجتنبهما لقذر أو وساخة.
[7525]:في بعض النسخ: "أبو الهداج"، وهو موافق لما في الطبري، والدر المنثور. وفي القرطبي: أبو البداح.