ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام ، مرغبا فيه فقال : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } أي : لينالوا ببيت الله منافع دينية ، من العبادات الفاضلة ، والعبادات التي لا تكون إلا فيه ، ومنافع دنيوية ، من التكسب ، وحصول الأرباح الدنيوية ، وكل هذا أمر مشاهد كل يعرفه ، { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ } وهذا من المنافع الدينية والدنيوية ، أي : ليذكروا اسم الله عند ذبح الهدايا ، شكرا لله على ما رزقهم منها ، ويسرها لهم ، فإذا ذبحتموها { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } أي : شديد الفقر .
وقوله - سبحانه - : { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ } متعلق بقوله : { يَأْتُوكَ } .
أى : يأتيك الناس راجلين وراكبين من كل مكان بعيد ، ليشهدوا وليحصلوا منافع عظيمة فهم فى دينهم وفى دنياهم .
ومن مظاهر منافعهم الدينية : غفران ذنوبهم ، وإجابة دعائهم ، ورضا الله - تعالى - عنهم .
ومن مظاهر منافعهم الدنيوية : اجتماعهم فى هذا المكان الطاهر ، وتعارفهم وتعاونهم على البر والتقوى ، وتبادلهم المنافع فيما بينهم عن طريق البيع والشراء وغير ذلك من أنواع المعاملات التى أحلها الله - تعالى - .
وجاء لفظ " منافع " بصيغة التنكير ، للتعميم والتعظيم والتكثير . أى : منافع عظيمة وشاملة لأمور الدين والدنيا ، وليس فى الإمكان تحديدها لكثرتها ، وقوله { وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } معطوف على قوله { لِّيَشْهَدُواْ } .
والمراد بالأيام المعلومات : الأيام العشر الأولى من شهر ذى الحجة ، أو هى أيام النحر ، أو يوم العيد وأيام التشريق .
والمراد ببهمية الأنعام : الإبل والبقر والغنم .
أى : ليشهدوا منافع لهم ، وليكثروا من ذكر الله ومن طاعته فى تلك الأيام المباركة . وليشكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التى يتقربون إليه - سبحانه - عن طريق ذبحها وإراقة دمائها ، واستجابة لأمره - عز وجل - .
وقوله - سبحانه - : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير } إرشاد منه - تعالى - إلى كيفية التصرف فيها بعد ذبحها .
أى : فكلوا من هذه البهيمة بعد ذبحها ، وأطعموا منها الإنسان البائس ، أى : الذى أصابه بؤس ومكروه بجانب فقره واحتياجه .
قال الآلوسى : والأمر فى قوله { فَكُلُواْ مِنْهَا .
. . } للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا ، وقد قالوا : إن الأمر بعد المنع يقتضى الإباحة ويدل على سبق النهى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحى فكلوا منها وادخروا " .
وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه ، أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم فى الأكل منها .
ويقف السياق عند بعض معالم الحج وغاياته :
( ليشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير . ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) . .
والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير . فالحج موسم ومؤتمر . الحج موسم تجارة وموسم عبادة . والحج مؤتمر اجتماع وتعارف ، ومؤتمر تنسيق وتعاون . وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة . . أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج سوقا رائجة ، حيثتجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شيء . . من أطراف الأرض ؛ ويقدم الحجيج من كل فج ومن كل قطر ، ومعهم من خيرات بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم . يتجمع كله في البلد الحرام في موسم واحد . فهو موسم تجارة ومعرض نتاج ؛ وسوق عالمية تقام في كل عام .
وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح ، وهي تستشعر قربها من الله في بيته الحرام . وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف كالأطياف من قريب ومن بعيد . .
طيف إبراهيم الخليل - عليه السلام - وهو يودع البيت فلذة كبده إسماعيل وأمه ، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم . ربنا ليقيموا الصلاة . فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . .
وطيف هاجر وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة الملتهبة حول البيت ، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش ، وهدها الجهد وأضناها الإشفاق على الطفل . . ثم ترجع في الجولة السابعة وقد حطمها اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضيء . وإذا هي زمزم . ينبوع الرحمة فيي صحراء اليأس والجدب .
وطيف إبراهيم - عليه السلام - وهو يرى الرؤيا ، فلا يتردد في التضحية بفلذة كبده ، ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد : ( قال : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ? )فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل - عليه السلام - : ( قال : يا أبت افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) . . وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء : ( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم ) . .
وطيف إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - يرفعان القواعد من البيت ، في إنابة وخشوع : ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم ) . .
وتظل هذه الأطياف وتلك الذكريات ترف وتتتابع ، حتى يلوح طيف عبد المطلب ، وهو ينذر دم ابنه العاشر إن رزقه الله عشرة أبناء . وإذا هو عبد الله . وإذا عبد المطلب حريصا على الوفاء بالنذر . وإذا قومه من حوله يعرضون عليه فكرة الفداء وإذا هو يدير القداح حول الكعبة ويضاعف الفداء ، والقدح يخرج في كل مرة على عبد الله ، حتى يبلغ الفداء مائة ناقة بعد عشر هي الدية المعروفة . فيقبل منه الفداء ، فينحر مائة وينجو عبد الله . ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة وأكرم خلق الله على الله - محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] - ثم يموت ! فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير !
ثم تتواكب الأطياف والذكريات . من محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يدرج في طفولته وصباه فوق هذا الثرى ، حول هذا البيت . . وهو يرفع الحجر الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفى ء الفتنة التي كادت تنشب بين القبائل . . وهو يصلي . . وهو يطوف . . وهو يخطب . . وهو يعتكف . . وإن خطواته - عليه الصلاة والسلام - لتنبض حية في الخاطر ، وتتمثل شاخصة في الضمير ، يكاد الحاج هناك يلمحها وهو مستغرق في تلك الذكريات . . وخطوات الحشد من صحابته الكرام وأطيافهم ترف وتدف فوق هذا الثرى ، حول ذلك البيت ، تكاد تسمعها الأذن وتكاد تراها الأبصار !
والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة . مؤتمر يجدون فيه أصلهم العريق الضارب في أعماقالزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل : ( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ) . . ويجدون محورهم الذي يشدهم جميعا إليه : هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعا ويلتقون عليها جميعا . . ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها . راية العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان . . ويجدون قوتهم التي قد ينسونها حينا . قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين . الملايين التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعدد . . راية العقيدة والتوحيد .
وهو مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى ، وتبادل المنافع والسلع والمعارف والتجارب . وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام . في ظل الله . بالقرب من بيت الله . وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة ، والذكريات الغائبة والحاضرة . في أنسب مكان ، وأنسب جو ، وأنسب زمان . .
فذلك إذ يقول الله سبحانه : ( ليشهدوا منافع لهم ) . . كل جيل بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته .
وذلك بعض ما أراده الله بالحج يوم أن فرضه على المسلمين ، وأمر إبراهيم - عليه السلام - أن يؤذن به في الناس .
ويمضي السياق يشير إلى بعض مناسك الحج وشعائره وأهدافها :
( ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) . .
وهذه كناية عن نحر الذبائح في أيام العيد وأيام التشريق الثلاثة بعده . والقرآن يقدم ذكر اسم الله المصاحب لنحر الذبائح ، لأن الجو جو عبادة ولأن المقصود من النحر هو التقرب إلى الله . ومن ثم فإن أظهر ما يبرز في عملية النحر هو ذكر اسم الله على الذبيحة . وكأنما هو الهدف المقصود من النحر لا النحر ذاته . .
والنحر ذكرى لفداء إسماعيل - عليه السلام - فهو ذكرى لآية من آيات الله وطاعة من طاعات عبديه إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - فوق ما هو صدقة وقربى لله بإطعام الفقراء . وبهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز .
( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) . .
والأمر بالأكل من الذبيحة يوم النحر هو أمر للإباحة أو الاستحباب . أما الأمر بإطعام البائس الفقير منها فهو أمر للوجوب . ولعل المقصود من أكل صاحبها منها أن يشعر الفقراء أنها طيبة كريمة .
{ ليشهدوا } ليحضروا . { منافع لهم } دينية ودنيوية ، وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة . { ويذكروا اسم الله } عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها . وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيها على أنه المقصود مما يتقرب به إلى الله تعالى . { في أيام معلومات هي } عشر ذي الحجة ، وقيل أيام النحر . { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } علق الفعل بالمرزوق وبينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر . { فكلوا منها } من لحومها أمر بذلك إباحة وإزالة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه ، أو ندبا إلى مواساة الفقراء ومساواتهم ، وهذا في المتطوع به دون الواجب . { وأطعموا البائس } الذي أصابه بؤس أي شدة . { الفقير } المحتاج ، والمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول .
و «المنافع » في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين ابن عباس وغيره ، وقال أبو جعفر محمد بن علي : أراد الأجر و { منافع } الآخرة ، وقال مجاهد بعموم الوجهين وقوله تعالى : { اسم الله } ، يصح أن يريد بالاسم ها هنا المسمى بمعنى ويذكروا الله على تجوز في هذه العبارة إلا أن يقصد ذكر القلوب ، ويحتمل أن يريد بالاسم التسميات وذكر الله تعالى إنما هو بذكر أسمائه ثم بذكر القلب السلطان والصفات ، وهذا كله على أن يكون الذكر بمعنى حمده وتقديسه شكراً على نعمته في الرزق ويؤيده قوله عليه السلام
«إنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى »{[8359]} ، وذهب قوم إلى أن المراد ذكر اسم الله تعالى على النحو والذبح ، وقالوا إن في ذكر «الأيام » دليلاً على أن الذبح في الليل لا يجوز ، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وقال ابن عباس «الأيام المعلومات » هي أيام العشر ويوم النحر وأيام التشريق ، وقال ابن سيرين : بل أيام العشر فقط ، وقالت فرقة : أيام التشريق ، ذكره القتبي ، وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه : بل المعلومات يوم النحر ويومان بعده وأيام التشريق الثلاثة هي معدودات فيكون يوم النحر معلوماً لا معدوداً واليومان بعده معلومان معدودان والرابع معدود لا معلوم ع وحمل هؤلاء على هذا التفصيل أنهم أخذوا ذكر { اسم الله } هنا على الذبح للأضاحي والهدي وغيره ، فاليوم الرابع لا يضحى فيه عند مالك وجماعة وأخذوا التعجل والتأخر بالنفر في الأيام المعدودات فتأمل هذا ، يبين لك قصدهم ، ويظهر أن تكون المعدودات والمعلومات بمعنى أن تلك الأيام الفاضلة كلها ويبقى أمر الذبح وأمر الاستعجال لا يتعلق بمعدود ولا بمعلوم وتكون فائدة قوله { معلومات } و { معدودات } [ البقرة : 184 ، آل عمران : 24 ] التحريض على هذه الأيام وعلى اغتنام فضلها أي ليست كغيرها فكأنه قال : هي مخصوصات فلتغتنم . وقوله ، { فكلوا } ندب ، واستحب أهل العلم للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق{[8360]} بأكثرها مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل ، و { البائس } الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها ، يقال : بأس الرجل يبؤس{[8361]} وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم تكن فقراً ، ومنه قوله عليه السلام ، «لكن البائس سعد بن خولة »{[8362]} ، والمراد في هذه الآية أهل الحاجة .