ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل الله ويستعينون بها على إطفاء نور الله ، بأنها تبطل وتضمحل ، كمن زرع زرعا يرجو نتيجته ويؤمل إدراك ريعه ، فبينما هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر ، أي : برد شديد محرق ، فأهلكت زرعه ، ولم يحصل له إلا التعب والعناء وزيادة الأسف ، فكذلك هؤلاء الكفار الذين قال الله فيهم : { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } { وما ظلمهم الله } بإبطال أعمالهم { ولكن } كانوا { أنفسهم يظلمون } حيث كفروا بآيات الله وكذبوا رسوله وحرصوا على إطفاء نور الله ، هذه الأمور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت بأموالهم .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لبطلان ما كان ينفقه هؤلاء الكافرون من أموال في الدنيا فقال : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا } أى من أموال فى وجوه الخير المختلفة ، كمواساة البائسين ، ودفع حاجة المحتاجين .
و { مَا } موصولة ، والعائد محذوف ، والتقدير ، مثل ما ينفقونه .
{ كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أى كمثل ريح فيها برد شديد قاتل للنبات . وقيل : الصر . الحر الشديدن وقيل الصر : صوت لهيب النار التى تحرق الثمار .
وذكر - سبحانه - الصر على أنه فى الريح ، وأنها مشتملة عليه ، وهى له ظرف وهو مظروف ، للاشعار بأنها ريح لا تحمل عوامل النماء للزرع ، وإنما هى تحمل معها ما يهلكه .
وقوله : { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أى أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم بالكفر وارتكاب المعاصى فدمرته وأهلكت ما فيه من ثمار وهم أحوج ما يكونون إلى هذا الزرع وتلك الثمار .
والحرث هنا مصدر بمعنى المحروث ، وأصل كلمة حرث : فلح الأرض وإلقاء البذر فيها ، ثم أطلقت على ما هو نتيجة لذلك وهو الزرع .
وفى التعبير بقوله : { ظلموا أَنْفُسَهُمْ } تذكير للسامعين ، وبعث لهم على ترك الظلم ، حتى لا يصابوا بمثل ما أصيب به أولئك الذين ظلموا أنفسهم من عقوبات رادعة ، وأضرار فادحة .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أى أن الله - تعالى - ما ظلمهم حين لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بإيثارهم الكفر على الإيمان ، ومن كان كذلك فلن يقبل الله منه شيئاً ؛ لأن الله تعالى ، إنما يتقبل من المتقين .
والضمائر فى هذه الجملة الكريمة تعود على أولئك الكافرين الذين ينفقون أموالهم مقرونة بالوجوه المانعة من قبولها .
وفى هذه الآية الكريمة تشبيه بليغ ، فقد شبه - سبحانه - حال ما ينفقه الكفار فى الدنيا - على سبيل القربة أو المفاخرة - شبه ذلك فى ضياعه وذهابه وقت الحاجة إليه فى الآخرة من غير أن يعود عليهم بفائدة ، بحال زرع لقوم ظالمين ، أصابته ريح مهلكة فاستأصلته ، ولم ينتفع أصحابه منه بشىء ، وهم أحوج ما يكونون إليه .
قال صاحب الانتصاف : أصل الكلام - والله أعلم - مثل ما ينفقون فى هذه الحياة الدنيا ، كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم ، فأصابته ريح فيها صر فأهلكته .
ولكن خولف هذا النظم فى المثل المذكور لفائدة جليلة . وهى تقديم ما هو أهم لأن الريح التى هى مثل العذاب ، ذكرها فى سياق الوعيد والتهديد أهم من ذكر الحرث .
فقدمت عناية بذكرها ، واعتماداً على أن الأفهام الصحيحة تستخرج المطابقة برد الكلام إلى أصله على أيسر وجه ومثل هذا فى تحويل النظم لمثل هذه الفائدة قوله - تعالى - : { فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } ومثله - أيضا - . اعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه . والأصل أن تذكر إحداهما الأخرى وإن ضلت . وأن أدعم بها الحائط إذا مال ، وأمثال ذلك كثيرة "
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب . فهو حرث . ثم إذا العاصفة تهب . إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة ! تحرق هذا الحرث بما فيها من صر . واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف ، فيصور معناه بجرسه النفاذ . وإذا الحرث كله مدمر خراب !
إنها لحظة يتم فيها كل شيء . يتم فيها الدمار والهلاك . وإذا الحرث كله يباب ! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال . . كلها إلى هلاك وفناء . . دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء . .
( وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) .
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر ، فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا . له هدف مرسوم ، وله دافع مفهوم ، وله طريق معلوم . . فلا يترك للنزوة العارضة ، والرغبة الغامضة ، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم . .
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود . فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار ، فلم يغن عنهم مال ولا ولد . . فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم . إنما هو ظلمهم لأنفسهم ، بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود .
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان . . يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان ؛ ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
ثم ضرب مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار ، قاله مجاهد والحسن ، والسُّدِّي ، فقال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي : بَرْد شديد ، قاله ابن عباس ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير وقتادة والحسن ، والضّحّاك ، والرَّبِيع بن أنس ، وغيرهم . وقال عطاء : بَرْد وجَلِيد . وعن ابن عباس أيضًا ومجاهد { فِيهَا صِرٌّ } أي : نار . وهو يرجع إلى الأول ، فإن البرد الشديد - سيّما{[5585]} الجليد{[5586]} - يحرق الزروع والثمار ، كما يحرق الشيء بالنار { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أي : أحرقته ، يعني بذلك السَّفْعة إذا نزلت على حَرْث قد آن جدَادُه أو حَصَاده فدمَّرَتْه وأعدَمَتْ ما فيه من ثمر أو زرع ، فذهبت به وأفسدته ، فعَدمَه صاحبه أحوج ما كان إليه . فكذلك الكفار يمحق الله ثوابَ أعمالهم في هذه الدنيا وثمرتها كما أذهب ثمرةَ هذا الحرث بذنوب صاحبه . وكذلك هؤلاء بَنَوْهَا على غير أصْل وعلى غير أساس { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
استئناف بياني لأن قوله : { لن تغني عنهم أموالهم . . . } الخ يثير سؤال سائل عن إنفاقهم الأموال في الخير من إغاثة الملهوف وإعطاء الديات في الصلح عن القتلى .
ضَرَبَ لأعمالهم المتعلّقة بالأموال مثلاً ، فشبّه هيئة إنفاقهم المعجب ظاهرُها ، المخيِّبِ آخِرُها ، حين يحبطها الكفر ، بهيئة زرع أصابته ريح باردة فأهلكته ، تشبيه المعقول بالمحسوس . ولمَّا كان التَّشبيه تمثيلياً لم يُتَوخ فيه مُوالاةُ ما شبّه به إنفاقهم لأداةِ التَّمثيل ، فقيل : كمثل ريح ، ولم يُقل : كمثل حَرْث قوم .
والكلام على الريح تقدّم عند قوله تعالى { إنّ في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } في سورة [ البقرة : 164 ] .
( والصّر : البرْد الشّديد المميت لكلّ زرع أو ورق يهبّ عليه فيتركه كالمحترق ، ولم يعرف في كلام العرب إطلاق الصرّ على الرّيح الشّديد البرْد وإنَّما الصرّ اسم البرد . وأمّا الصرصر فهو الرسح الشديدة وقد تكون باردة . ومعنى الآية غني عن التأويل ، وجوز في > أن يكون الصرّ هنا اسماً للريح الباردة وجعله مرادف الصرصر . وقد أقره الكاتبون عليه ولم يذكر هذا الاطلاق في الأساس ولا ذكره الراغب .
وفي قوله { فيها صرّ } إفادة شدّة برد هذه الريح ، حتَّى كأنّ جنس الصر مظروف فيها ، وهي تحمله إلى الحرث .
والحرث هنا مصدر بمعنى المفعول : أي محروثَ قوم أي أرضاً محروثة والمراد أصابت زرعَ حرث . وتقدّم الكلام على معاني الحرث عند قوله تعالى { والأنعام والحرث } [ آل عمران : 14 ] في أول السورة .
وقوله { ظلموا أنفسهم } إدماج في خلال التمثيل يكسب التمثيل تفظيعاً وتشويهاً وليس جُزءاً من الهيئة المشبّه بها . وقد يذكر البلغاء مع المُشَبَّه به صفات لا يقصدون منها غير التحسين أو التقبيح كقول كعب بن زهير :
شُجَّت بذي شبم من ماء مَحْنيَة *** صافٍ بأبطحَ أضحى وهو مشمول
تنفي الرّياحُ القذى عنه وأفرطهُ *** من صَوْب سَارِيَةٍ بيــض يعاليل
فأجرى على الماء الذي هو جزء المشبّه به صفات لا أثر لها في التشبيه .
والسامعون عالمون بأن عقاب الأقوام الذين ظلموا أنفسهم غاية في الشدّة ، فذكر وصفهم بظلم أنفسهم لتذكير السامعين بذلك على سبيل الموعظة ، وجيء بقوله { مثل ما ينفقون } غير معطوف على ما قبله لأنّه كالبيان لقوله { لن تغني عنهم أموالهم } .
وقوله { وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون } الضمائر فيه عائدة على الذين كفروا . والمعنى أنّ الله لم يظلمهم حين لم يتقبل نفقاتهم بل هم تسبّبوا في ذلك ، إذ لم يؤمنوا لأن الإيمان جعله الله شرطاً في قبول الأعمال ، فلما أعلمهم بذلك وأنذرهم لم يكن عقابه بعد ذلك ظلماً لهم ، وفيه إيذان بأنّ الله لا يخالف وعده من نفي الظلم عن نفسه .