{ 104 - 105 } { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }
يخبر تعالى أنه يوم القيامة يطوي السماوات - على عظمها واتساعها - كما يطوي الكاتب للسجل أي : الورقة المكتوب فيها ، فتنثر نجومها ، ويكور شمسها وقمرها ، وتزول عن أماكنها { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } أي : إعادتنا للخلق ، مثل ابتدائنا لخلقهم ، فكما ابتدأنا خلقهم ، ولم يكونوا شيئا ، كذلك نعيدهم بعد موتهم .
{ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } ننفذ ما وعدنا ، لكمال قدرته ، وأنه لا تمتنع منه الأشياء .
ثم ختم - سبحانه - سورة الأنبياء ببيان جانب من أحوال هذا الكون يوم القيامة ، وببيان سننه فى خلقه ، وببيان نعمه على عباده ، وببيان ما أمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال - تعالى - : { يَوْمَ نَطْوِي . . . } .
قوله - سبحانه - : { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ . . } الظرف فيه منصوب بقوله - تعالى - قبل ذلك { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } أو بقوله - سحبانه - : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة } وقوله : { نَطْوِي } من الطى وهو ضد النشر . والسجل : الصحيفة التى يكتب فيها .
والمراد بالكتب : ما كتب فيها من الألفاظ والمعانى ، فالكتب بمعنى المكتوبات . واللام بمعنى على .
والمعنى : إن الملائكة تتلقى هؤلاء الأخيار الذين سبقت لهم من الله - تعالى - الحسنى بالفرح والسرور ، يوم يطوى - سبحانه - السماء طيا مثل طى الصحيفة على ما فيها من كتابات .
وفى هذا التشبيه إشعار بأن هذا الطى بالنسبة لقدرته - تعالى - فى منتهى السهولة واليسر ، حيث شبه طيه السماء بطى الصحيفة على ما فيها .
وقيل : إن لفظ { السجل } اسم لملك من الملائكة ، وهو الذى يطوى كتب أعمال الناس بعد موتهم .
والإضافة فى قوله { كَطَيِّ السجل } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والجار والمجرور صفة لمصدر مقدر . أى : نطوى السماء طيا كطى الرجل أو الملك الصحيفة على ما كتب فيها .
وقرأ أكثر القراء السبعة : ( للكتاب ) بالإفراد . ومعنى القراءتين واحد لأن المراد به الجنس فيشمل كل الكتب .
وقوله - تعالى - : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } بيان لصحة الإعادة قياسا على البدء ، إذ الكل داخل تحت قدرته - عز وجل - .
أى : نعيد أول خلق إعادة مثل بدئنا إياه ، دون أن ينالنا تعب أو يمسنا لغوب ، لأن قدرتنا لا يعجزها شىء : قال - تعالى - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . } قال صاحب الكشاف : " وما أول الخلق حت يعيده كما بدأه ؟ قلت : أوله إيجاده من العدم ، فكما أوجده أولا عن عدم . يعيده ثانيا عن عدم " .
وقوله - تالى - : { وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } تأكيد للإعادة . ولفظ " وعدا " منصوب بفعل محذوف . و " علينا " فى موضع الصفة له .
أى : هذه الإعادة وعدنا بها وعدا كائنا علينا باختيارنا وإرادتنا ، إنا كنا محققين هذا الوعد ، وقادرين عليه ، والعاقل من يقدم فى دنياه العلم الصالح الذى ينفعه عند بعثه للحساب .
ويختم المشهد بمنظر الكون الذي آل إليه . وهو يشارك في تصوير الهول الآخذ بزمام القلوب ، وبزمام الكائنات كلها في ذلك اليوم العصيب :
( يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) . .
فإذا السماء مطوية كما يطوي خازن الصحائف صحائفه ؛ وقد قضي الأمر ، وانتهى العرض ، وطوي الكون الذي كان يألفه الإنسان . . وإذا عالم جديد وكون جديد :
( كما بدأنا أول خلق نعيده ) . . ( وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) . .
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة ، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } كما قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] وقد قال البخاري :
حدثنا مُقَدم بن محمد ، حدثني عمي القاسم بن يحيى ، عن عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضَين ، وتكون السموات بيمينه " {[19897]} .
انفرد به من هذا الوجه البخاري ، رحمه الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي الواصل{[19898]} ، عن أبي المليح الأزدي{[19899]} ، عن أبي الجوزاء الأزدي ، عن ابن عباس قال : يطوي الله{[19900]} السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة ، يطوي ذلك كله{[19901]} بيمينه ، يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة .
وقوله : { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قيل : المراد بالسجل [ الكتاب . وقيل : المراد بالسجل ]{[19902]} هاهنا : مَلَك من الملائكة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي ، عن أبيه ، عن ابن عمر في قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : السجل : مَلَك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورًا .
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن يمان ، به .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي جعفر{[19903]} محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك .
وقال السدي في هذه الآية : السجل : مَلَك موكل بالصحف ، فإذا مات الإنسان رفع{[19904]} كتابُه إلى السجل فطواه ، ورفعه إلى يوم القيامة .
وقيل : المراد به اسم رجل صحابي ، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ ، حدثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : [ { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ] {[19905]} ، قال : السجل : هو الرجل .
قال نوح : وأخبرني يزيد بن كعب - هو العَوْذي - عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل كاتب{[19906]} للنبي صلى الله عليه وسلم .
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد{[19907]} عن نوح بن قيس ، عن يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجل كاتب{[19908]} للنبي صلى الله عليه وسلم{[19909]} .
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي ، كما تقدم . ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كان للنبي{[19910]} صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى{[19911]} السجل وهو قوله : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : كما يطوى السجل الكتاب ، كذلك نطوي السماء ، ثم قال : وهو غير محفوظ{[19912]} .
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني ، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي ، أن حمدان بن سعيد حدثهم ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : السجلّ : كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم{[19913]} .
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس ، من رواية أبي داود وغيره ، لا يصح أيضًا . وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه - وإن كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي ، فَسَح الله في عمره ، ونَسَأ في أجله ، وختم له بصالح عمله ، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة{[19914]} ، ولله الحمد . وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ، ورده أتم رد ، وقال : لا يُعَرف في الصحابة أحد{[19915]} اسمه السجِل ، وكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون ، وليس فيهم أحد اسمه السجل ، وصَدَق رحمه الله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث . وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا ، فإنما اعتمد على هذا الحديث ، لا على غيره ، والله أعلم . والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي ، عنه . ونص على ذلك مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد . واختاره ابن جرير ؛ لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أي : على [ هذا ]{[19916]} الكتاب ، بمعنى المكتوب ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] ، أي : على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله أعلم .
وقوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني : هذا كائن لا محالة ، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا جديدًا ، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم{[19917]} ، وذلك واجب الوقوع ، لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل ، وهو القادر على ذلك . ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى{[19918]} ، قالا{[19919]} : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين " ؛ وذكر تمام الحديث ، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة . ورواه{[19920]} البخاري عند هذه الآية في كتابه{[19921]} .
وقد روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن عائشة عن النبي{[19922]} صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } قال : نهلك كل شيء ، كما كان أول مرة .
قرأت فرقة «نطوي » بنون العظمة ، وقرأت فرقة «يَطوي السماء » بياء مفتوحة على معنى يطوي الله تعالى ، وقرأ فرقة «تُطوى السماءُ » بتاء مضمومة ورفع «السماءُ » على ما لم يسم فاعله ، واختلف الناس في { السجل } فقالت فرقة هو ملك يطوي الصحف ، وقالت فرقة { السجل } رجل كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ع وهذا كله وما شاكله ضعيف ، وقالت فرقة { السجل } الصحيفة التي يكتب فيها ، والمعنى { كطي السجل } أي كما يطوي السجل من أجل الكتاب الذي فيه ، فالمصدر مضاف إلى المفعول ويحتمل أن يكون المصدر مضافاً إلى الفاعل ، أي كما يطوي السجل الكتاب الذي فيه ، فكأنه قال { يوم نطوي السماء } كالهيئة التي فيها طي السجل للكتاب ، ففي التشبيه تجوز ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «السّجْل » بشد السين وسكون الجيم وتخفيف اللام وفتح أبو السمال السين فقرأ «السَّجل » وقرأ أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السُّجُل » بضم السين وشدها وضم الجيم ، وقرأ الجمهور «للكتاب » ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتب » وقوله تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده } يحتمل معنيين : أحدهما أن يكون خبراً عن البعث أي كما اخترعنا الخلق أولاً على غير مثال ذلك كذلك ننشئهم تارة أخرى فنبعثهم من القبور ، والثاني أن يكون خبراً عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها إلى الدنيا ، ويؤيد هذا التأويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده »{[8285]} وقوله تعالى : { كما بدأنا } الكاف متعلقة بقوله { نعيده } ، وقوله { إنا كنا فاعلين } تأكيد للأمر بمعنى أن الأمر واجب في ذلك .
جملة مستأنفة قصد منها إعادة ذكر البعث والاستدلال على وقوعه وإمكانِه إبطالاً لإحالة المشركين وقوعه بعلة أن الأجساد التي يدّعي بعثها قد انتابها الفناء العظيم { وقالوا أإذا كنا تراباً وعظاماً أإنا لفي خلق جديد } [ السجدة : 10 ] والمناسبة في هذا الانتقال هو ما جرى من ذكر الحشر والعقاب والثواب من قوله تعالى { لهم فيها زفير } [ الأنبياء : 100 ] وقوله تعالى : { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] الآية .
وقد رُتّب نظم الجملة على التقديم والتأخير لأغراض بليغة . وأصل الجملة : نعيد الخلق كما بدأنا أولَ خلق يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب وعْداً علينا . فحُوّل النظم فقدم الظرف بادىء ذي بَدء للتشويق إلى متعلقه ، ولما في الجملة التي أضيف إليها الظرف من الغرابة والطباققِ إذ جعل ابتداءُ خلق جديد وهو البعث مؤقتاً بوقت نقض خَلق قديم وهو طي السماء .
وقدم { كما بدأنا أول خلق } وهو حال من الضمير المنصوب في { نعيده } للتعجيل بإيراد الدليل قبل الدعوى لتتمكن في النفس فضلَ تمكّن . وكل ذلك وجوه للاهتمام بتحقيق وقوع البعث ، فليس قوله { يوم نطوي السماء } متعلقاً بما قبله من قوله تعالى : { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] .
وعقب ذلك بما يفيد تحقق حصول البعث من كونه وعداً على الله بتضمين الوعد معنى الإيجاب ، فعدي بحرف ( على ) في قوله تعالى : { وعداً علينا } أي حقاً واجباً .
وجملة { إنا كنا فاعلين } مؤكّدة بحرف التوكيد لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر قدرة الله لأنهم لما نَفَوا البعث بعلة تعذر إعادة الأجسام بعد فنائها فقد لزمهم إحالتهم ذلك في جانب قدرة الله .
والمراد بقوله { فاعلين } أنه الفاعل لِما وُعد به ، أي القادر . والمعنى : إنا كنا قادرين على ذلك .
وفي ذكر فعل الكون إفادة أن قدرته قد تحققت بما دل عليه دليل قوله { كما بدأنا أول خلق نعيده } .
والطّيُّ : رَدُّ بعض أجزاء الجسم الليِّن المطلوق على بعْضه الآخر ، وضدّه النشر .
والسجل : بكسر السين وكسر الجيم هنا ، وفيه لغات . يطلق على الورقة التي يكتب فيها ، ويُطلق على كاتب الصحيفة ، ولعله تسمية على تقدير مضاف محذوف ، أي صاحب السجل ، وقيل سجل : اسم ملك في السماء ترفع إليه صحائف أعمال العباد فيحفظها .
ولا يحسن حملهُ هنا على معنى الصحيفة لأنه لا يلائم إضافة الطيّ إليه ولا إردافه لقوله { للكتاب } أو { للكتب ، } ولا حملهُ على معنى المَلَك الموكَل بصحائف الأعمال لأنه لم يكن مشهوراً فكيف يشبه بفعله . فالوجه : أن يراد بالسجل الكاتب الذي يكتب الصحيفة ثم يطويها عند انتهاء كتابتها ، وذلك عمل معروف . فالتشبيه بعمله رشيق .
وقرأ الجمهور { للكتاب } بصيغة الإفراد ، وقرأه حفص وحمزة والكسائي وخلف { للكُتب } بضم الكاف وضم التاء بصيغة الجمع . ولما كان تعريف السجل وتعريفُ الكتاب تعريفَ جنس استوى في المعرّف الإفرادُ والجمعُ . فأما قراءتهما بصيغة الإفراد ففيها محسن مراعاة النظير في الصيغة ، وأما قراءة الكتب بصيغة الجمع مع كون السِجل مفرداً ففيها حسن التفنن بالتضاد .
ورسمُها في المصحف بدون ألف يحتمل القراءتين لأن الألف قد يُحذف في مثله .
واللام في قوله { للكتاب } لتقوية العامل فهي داخلة على مفعول { طَيّ } .
ومعنى طي السماء تغييرُ أجرامها من موقع إلى موقع أو اقترابُ بعضها من بعض كما تتغير أطراف الورقة المنشورة حين تطوى ليَكتب الكاتب في إحدى صفحتيها ، وهذا مظهر من مظاهر انقراض النظام الحالي ، وهو انقراض له أحوال كثيرة وُصف بعضها في سُور من القرآن .
وليس في الآية دليل على اضمحلال السماوات بل على اختلال نظامها ، وفي [ سورة الزمر : 67 ] { والسماوات مطويات بيمينه } ومسألة دثور السماوات ( أي اضمحلالها ) فَرَضَها الحكماء المتقدمون ومال إلى القول باضمحلالها في آخر الأمر ( انكسمائس ) المَلْطي و ( فيثاغورس ) و ( أفلاطون ) .
وقرأ الجمهور { نطوي } بنون العظمة وكسر الواو ونصب { السماء } . وقرأه أبو جعفر بضم تاء مضارعة المؤنث وفتح الواو مبنياً للنائب وبرفع { السماء } .
والبَدء : الفعل الذي لم يُسبق مماثله بالنسبة إلى فاعللٍ أو إلى زماننٍ أو نحو ذلك . وبَدْء الخلق كونه لم يكن قبل ، أي كما جعلنا خلْقاً مبدوءاً غير مسبوق في نوعه .
ومعنى إعادة الخلق : إعادة مماثلة في صورته فإن الخلق أي المخلوق باعتبار أنه فرد من جنس إذَا اضمحل فقيل فإنما يعاد مثله لأن الأجناس لا تحقق لها في الخارج إلا في ضمن أفرادها كما قال تعالى : { سنعيدها سيرتها الأولى } أي مثل سيرتها في جنسها ، أي في أنها عصا من العصيّ .
وظاهر ما أفاده الكاف من التشبيه في قوله تعالى : { كما بدأنا أول خلق نعيده } أن إعادة خلق الأجسام شبّهت بابتداء خلقها . ووجه الشبه هو إمكان كليهما والقدرة عليهما وهو الذي سيق له الكلام على أن التشبيه صالح للمماثلة في غير ذلك . روى مسلم عن ابن عباس قال : « قام فينا رسول الله بموعظة فقال : يا أيها الناس إنكم تُحشرون إلى الله حُفاة عراة غُرْلاً { كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين } » الحديث . فهذا تفسير لبعض ما أفاده التشبيه وهو من طريق الوحي واللفظ لا يأباه فيجب أن يعتبر معنى للكاف مع المعنى الذي دلت عليه بظاهر السياق . وهذا من تفاريع المقدمة التاسعة من مقدمات تفسيرنا هذا .
وانتصب { وعداً } على أنه مفعول مطلق ل { نعيده } لأن الإخبار بالإعادة في معنى الوعد بذلك فانتصب على بيان النوع للإعادة . ويجوز كونه مفعولاً مطلقاً مؤكداً لمضمون جملة { كما بدأنا أول خلق نعيده } .