المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

79- ففهمنا الفتوى سليمان ، وكلا منهما أعطيناه حكمة وعلماً بالحياة وشؤونها ، وسخرنا مع داود الجبال ينزهن الله كما ينزِّهه داود عن كل ما لا يليق به ، وسخرنا الطير كذلك يسبحن الله معه ، وكنا فاعلين ذلك بقدرتنا التي لا تعجز .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } أي : فهمناه هذه القضية ، ولا يدل ذلك ، أن داود لم يفهمه الله في غيرها ، ولهذا خصها بالذكر بدليل قوله : { وَكُلَا } من داود وسليمان { آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } وهذا دليل على أن الحاكم قد يصيب الحق والصواب وقد يخطئ ذلك ، وليس بمعلوم إذا أخطأ مع بذل اجتهاده .

ثم ذكر ما خص به كلا منهما فقال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } وذلك أنه كان من أعبد الناس وأكثرهم لله ذكرا وتسبيحا وتمجيدا ، وكان قد أعطاه [ الله ] من حسن الصوت ورقته ورخامته ، ما لم يؤته أحدا من الخلق ، فكان إذا سبح وأثنى على الله ، جاوبته الجبال الصم والطيور البهم ، وهذا فضل الله عليه وإحسانه فلهذا قال : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

والضمير المنصوب فى قوله - تعالى - : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } يعود إلى القضية أو المسألة التى عرضها الخصمان على داود وسليمان .

أى : ففهمنا سليمان الحكم النسب والأوفق فى هذه المسألة أو القضية ، وذلك لأن داود - كما يقول العلماء . قد اتجه فى حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث . وهذا عدل فحسب . أما حكم سليمان فقد تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير ، وهذا هو العدل الحى الإيجابى فى صورته البانية الدافعة ، وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء " .

وقوله - سبحانه - : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } ثناء من الله - تعالى - على داود وسليمان - عليهما السلام - والمقصود من هذا الثناء دفع ما قد يتبادر إلى بعض الأذهان من أن داود لم يكن مصيبا فى حكمه .

أى : وكلا من داود وسليمان قد أعطيناه من عندنا { حُكْماً } أى : نبوة وإصابة فى القول والعمل { وَعِلْماً } أى : فقها فى الدين ، وفهما سليما للأمور .

وقد توسع بعض المفسرين فى الحديث عن هذا الحكم الذى أصدره داود وسليمان فى قضية الحرث أكان بوحى من الله إليهما ، أم كان باجتهاد منهما ، وقد رجح بعض العلماء أنه كان باجتهاد منهما فقال : اعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان فى الحرث المذكور فى هذه الآية كان بوحى ، إلا أن ما أوحى إلى سليمان كان ناسخا لما أوحى إلى داود .

وفى الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحى ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما لعدم إصابته .

كما أثنى - سبحانه - على سليمان بالإصابة فى قوله { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وأثنى عليهما فى قوله : { وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } .

فدل قوله { إِذْ يَحْكُمَانِ } على أنهما حكما فيها معا ، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف . ثم قال : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحى لكان مفهما إياها كما نرى .

فقوله : { إِذْ يَحْكُمَانِ } مع قوله { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } قرينة على أن الحكم لم يكن بوحى بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفيهم الله إياه ذلك .

والقرينة الثانية : هى أن قوله - تعالى - { فَفَهَّمْنَاهَا } يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع ، لا أنه - تعالى - أنزل عليه فيها وحياً جديدا ناسخاً ، لأن قوله - تعالى - : { فَفَهَّمْنَاهَا } أليق بالأول من الثانى كما ترى . . .

ثم بين - سبحانه - نماذج من النعم التى أنعم بها على داود - عليه السلام - فقال : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير وَكُنَّا فَاعِلِينَ } .

والتسخير : التذليل أى : وجعلنا الجبال والطير يسبحن الله - تعالى - ويقدسنه مع داود ، امتثالا لأمره - سبحانه - .

قال ابن كثير : وذلك لطيب صوته ، بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا ترنم به تقف الطير فى الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويبا . ولهذا لما مر النبى - صلى الله عليه وسلم - على أبى موسى الأشعرى ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب ، فوقف واستمع إليه وقال : " لقد أوتى هذا من مزامير آل داود " .

وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : لم قدمت الجبال على الطير ؟ قلت : لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب ، وأدل على القدرة ، وأدخل فى الإعجاز ، لأنها جماد ، والطير حيوان ، إلا أنه غير ناطق ، روى أنه كان يمر بالجبال مسبحا وهى تجاوبه ، وقيل : كانت تسير معه حيث سار . . .

وتسبيح الجبال والطير مع داود - عليه السلام - هو تسبيح حقيقى ، ولكن بكيفية يعلمها الله - تعالى - كما قال - سبحانه - { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . . } وشبيه بالآية التى معنا قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } وقوله - سبحانه - : { اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق والطير مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } أى : وكنا فاعلين ذلك لداود من تسخير الجبال والطير معه يسبحن الله وينزهنه عن كل سوء ، على سبيل التكريم له . والتأييد لنبوته ، إذ أن قدرتنا لا يعجزها شىء ، سواء أكان هذا الشىء مألوفا للناس أم غير مألوف .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

48

فألهم سليمان حكما أحكم ، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب .

لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث . وهذا عدل فحسب . ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير ، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير . وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة . وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء .

ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) . . وليس في قضاء داود من خطأ ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب ، لأنه من نبع الإلهام .

ثم يعرض السياق ما اختص به كلا منهما . فيبدأ بالوالد :

( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير . وكنا فاعلين . وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ، فهل أنتم شاكرون ? ) .

وقد عرف داود - عليه السلام - بمزاميره . وهي تسابيح لله كان يرتلها بصوته الحنون ، فتتجاوب أصداؤها حوله ، وترجع معه الجبال والطير . .

وحينما يتصل قلب عبد بربه فإنه يحس الاتصال بالوجود كله ؛ وينبض قلب الوجود معه ؛ وتنزاح العوائق والحواجز الناشئة عن الشعور بالفوارق والفواصل التي تميز الأنواع والأجناس ، وتقيم بينها الحدود والحواجز ، وعندئذ تتلاقى ضمائرها وحقائقها في ضمير الكون وحقيقته .

وفي لحظات الإشراق تحس الروح باندماجها في الكل ، واحتوائها على الكل . . عندئذ لا تحس بأن هنالك ما هو خارج عن ذاتها ؛ ولا بأنها هي متميزة عما حولها . فكل ما حولها مندمج فيها وهي مندمجة فيه .

ومن النص القرآني نتصور داود وهو يرتل مزاميره ، فيسهو على نفسه المنفصلة المتميزة المتحيزة . وتهيم روحه في ظلال الله في هذا الكون ومجاليه ومخلوقاته الجوامد منها والأحياء . فيحس ترجيعها ، ويتجاوب معها كما تتجاوب معه . وإذا الكون كله فرقة مرتلة عازفة مسبحة بجلال الله وحمده . ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) . . إنما يفقهه من يتجرد من الحواجز والفواصل ، وينطلق مع أرواح الكائنات ، المتجهة كلها إلى الله .

( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) . . ( وكنا فاعلين )فما هنالك من شيء يعز على القدرة أو يتأبى حين تريد . يستوي أن يكون مألوفا للناس أو غير مألوف .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

وقوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن حميد ؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، قال{[19718]} ما يبكيك ؟ قال{[19719]} يا أبا سعيد ، بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ ، فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان ، عليهما السلام ، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود . ثم قال - يعني : الحسن - : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا : لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى ، ولا يخشون فيه أحدًا ، ثم تلا { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ{[19720]} ] } [ ص : 26 ] وقال : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44 ] ، وقال { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة : 44 ] .

قلت : أما الأنبياء ، عليهم السلام ، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل . وهذا مما لا خلاف{[19721]} فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف ، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ{[19722]} فله أجر " {[19723]} فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه " إياس " من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم .

وفي السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار{[19724]} .

وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال : حدثنا علي بن حَفْص ، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، جاء{[19725]} الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا . فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها ، لا تَشُقه ، فقضى به للصغرى " {[19726]} .

وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما{[19727]} وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء : ( باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق ){[19728]} .

وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة " سليمان عليه السلام " من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة{[19729]} ملخصها - : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على{[19730]} كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها ، فشهدوا عليها عند داود ، عليه السلام ، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها . فلما كان عشية ذلك اليوم ، جلس سليمان ، واجتمع معه وِلْدانٌ ، مثله ، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك ، وآخر بزيّ المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فقال لأولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود . فعزله ، واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر . وقال الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض . فأمر بقتلهم ، فحكي ذلك لداود ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة ، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم{[19731]}

وقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء ، فتجاوبه ، وتَرد عليه الجبال تأويبًا ؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب [ جدًا ]{[19732]} . فوقف واستمع لقراءته ، وقال : " لقد أوتي هذا مزامير آل داود " . قال يا رسول الله ، لو علمت أنك تسمع{[19733]} لحبرته لك تحبيرًا{[19734]} .

وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ، ومع هذا قال : لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود .


[19718]:- في ف ، أ : "فقال".
[19719]:- في ف ، أ : "فقال"
[19720]:- زيادة من ف ، أ.
[19721]:- في ف : "ما لا اختلاف فيه".
[19722]:- في ف : "وأخطأ".
[19723]:- صحيح البخاري برقم (7352).
[19724]:- سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم (2315)
[19725]:- في ف : "إذ جاء".
[19726]:- المسند (2/322)
[19727]:- في ف : "صحيحيهما".
[19728]:- صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم (5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين له الحق".
[19729]:- في ف : "طويلة".
[19730]:- في أ : "عن".
[19731]:- تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")
[19732]:- زيادة من ف ، أ.
[19733]:- في ف : "تستمع".
[19734]:- سبق الحديث في فضائل القرآن.
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

{ ففهمناها سليمان } الضمير للحكومة أو للفتوى وقرئ " فأفهمناها " . روي أن داود حكم بالغنم لصاحب الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة : غير هذا أرفق بهما فأمر بدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأشعارها والحرث إلى أرباب الغنم يقومون عليه حتى يعود إلى ما كان ثم يترادان . ولعلهما قالا اجتهادا والأول نظير قول أبي حنيفة في العبد الجاني والثاني مثل قول الشافعي بغرم الحيلولة في العبد المغصوب إذا أبق وحكمه في شرعنا عند الشافعي وجوب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا وهكذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم لما دخلت ناقة البراء حائطا وأفسدته فقال على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية حفظهما بالليل " . وعند أبي حنيفة لا ضمان إلا أن يكون معها حافظ لقوله صلى الله عليه وسلم " جرح العجماء جبار " . { وكلا آتينا حكما وعلما } دليل على أن خطأ المجتهد لا يقدح فيه . وقيل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لمفهوم قوله تعالى : { ففهمناها } ولولا النقل لاحتمل توافقهما على أن قوله ففهمناها لإظهار ما تفضل عليه في صغره { وسخرنا مع داود الجبال يسبحن } يقدسن الله معه إما بلسان الحال أو بصوت يتمثل له ، أو بخلق الله تعالى فيها الكلام . وقيل يسرن معه من السباحة وهو حال أو استئناف لبيان وجه التسخير و { مع } متعلقة ب { سخرنا } أو { يسبحن } { والطير } عطف على { الجبال } أو مفعول معه . وقرئ بالرفع على الابتداء أو العطف على الضمير على ضعف . { وكنا فاعلين } لأمثاله فليس ببدع منا وإن كان عجبا عندكم .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَفَهَّمۡنَٰهَا سُلَيۡمَٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَيۡنَا حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ يُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّيۡرَۚ وَكُنَّا فَٰعِلِينَ} (79)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ففهمناها سليمان} يعني: القضية ليس يعني به الحكم، ولو كان الحكم لقال ففهمناه، {وكلا} يعني: داود وسليمان {ءاتينا} يعني: أعطينا {حكما وعلما} يعني: الفهم والعلم، فصوب قضاء سليمان، ولم يعنف داود. {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن} يعني: يذكرن الله، عز وجل كلما ذكر داود ربه عز وجل، ذكرت الجبال ربها معه، {و} سخرنا له {الطير وكنا فاعلين} ذلك بداود.

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

سمعت زيد بن أسلم يقول: {وكلا آتينا حكما وعلما} إن الحكمة، العقل،

والذي يقع بقلبي أن الحكمة هي الفقه في دين الله، ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا بصر، وتجد آخر ضعيفا في دنياه، عالما في أمر دينه، بصيرا به، يؤتيه الله إياه ويحرم هذا، فهذه الحكمة الفقه في دين الله...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"فَفَهّمْناها": ففهّمنا القضية في ذلك "سُلَيْمانَ "دون داود.

"وكُلاّ آتَيْنا حُكْما وَعِلْما "يقول: وكلهم من داود وسليمان والرسل الذين ذكرهم في أوّل هذه السورة آتينا "حكما" وهو النبوة، "وعلما": يعني وعلما بأحكام الله...

"وَسَخّرْنا مَعَ دَاوُدَ الجِبالَ يُسَبّحْنَ والطّيْرَ" يقول تعالى ذكره: وسخرنا مع داود الجبال والطير يسبحن معه إذا سبح...

"وكُنّا فاعِلِينَ": وكنا قد قضينا أنا فاعلو ذلك، ومسخرو الجبال والطير في أمّ الكتاب مع داود عليه الصلاة والسلام.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 78]

قال بعض الناس: دل تخصيص سليمان بالتفهيم على أنه لم يفهم داوود ذلك. ويدل على ذلك وجوه:

أحدها: إشراكه عز وجل إياهما جميعا في الحكم والعلم وغيره حين قال: {إذ يحكمان في الحرث} وقال: {وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79] ذكر ما كانا مشتركين فيه، وخص سليمان بالتفهيم. فدل التخصيص بالشيء على أحدهما، والإشراك في الآخر على أنه كان مخصوصا به دون الآخر.

والثاني: أن هذه الأنباء إنما ذُكرت لنا لنستفيد بها علما لم يكن. فلو لم يكن سليمان مخصوصا بالفهم دون داود لكان يفيدنا سوى الحكم والعلم، وكنا نعلم أنهما قد أوتيا حكما وعلما، وكانا يحكمان بالعلم. فإذا كان كذلك فدل التخصيص بالتفهيم لأحدهما على أن الآخر لم يكن مُفَهَّمًا ذلك، والله أعلم.

والثالث: فيه دلالة أن المجتهد إذا حكم، وأصاب الحكم، أنه إنما أصاب بتفهيم الله إياه وبتوفيقه حين أخبر أنه قد آتاهما جميعا العلم، ثم خص سليمان بالتفهيم، والتفهيم هو فعل الله حين أضاف ذلك إلى نفسه...

استدلوا بهذه الآية على جواز العمل والقضاء باجتهاد الرأي.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

فإن قلت: لم قدمت الجبال على الطير؟ قلت: لأنّ تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدلّ على القدرة وأدخل في الإعجاز، لأنها جماد والطير حيوان، إلا أنه غير ناطق...

{وَكُنَّا فاعلين} أي قادرين على أن نفعل هذا وإن كان عجباً عندكم وقيل: وكنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك.

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 78]

فِي هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى رُجُوعِ الْقَاضِي عَمَّا حَكَمَ بِهِ، إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْحَقَّ فِي غَيْرِهِ، وَهَكَذَا فِي رِسَالَةِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى، فَأَمَّا أَنْ يَنْظُرَ قَاضٍ فِيمَا حَكَمَ بِهِ قَاضٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَدَاعَى إلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عُظْمَى من جِهَةِ نَقْضِ الْأَحْكَامِ، وَتَبْدِيلِ الْحَلَالِ بِالْحَرَامِ، وَعَدَمِ ضَبْطِ قَوَانِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ من الْخُلَفَاءِ إلَى نَقْضِ مَا رَآهُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِمَا يَظْهَرُ إلَيْهِ.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ففهمناها سليمان} والفاء للتعقيب، فوجب أن يكون ذلك الحكم سابقا على هذا التفهيم، وذلك الحكم السابق إما أن يقال: اتفقا فيه أو اختلفا فيه، فإن اتفقا فيه لم يبق لقوله: {ففهمناها سليمان} فائدة وإن اختلفا فيه فذلك هو المطلوب.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

{وكنا فاعلين} أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهنّ والطير لمن نخصه بكرامتنا.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

والآية تدل على أن الحكم ينقض بالاجتهاد إذا ظهر ما هو أقوى منه...

ولما كان ذلك ربما أوهم شيئاً في أمر داود عليه السلام، نفاه بقوله دالاً على أنهما على الصواب في الاجتهاد وإن كان المصيب في الحكم إنما هو أحدهما {وكلاًّ} أي منهما {ءاتينا} بما لنا من العظمة {حكماً} أي نبوة و عملاً مؤسساً على حكمة العلم، وهذا معنى ما قالوه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر حكماً -أي قولاً صادقاً مطابقاً للحق {وعلماً} مؤيداً بصالح العمل.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

والذي عندي أن حكْمَهما عليهما السلام كان بالاجتهاد فإن قولَ سليمان عليه الصلاة والسلام: غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين، ثم قولُه: أرى أن تُدفع الخ، صريحٌ في أنه ليس بطريق الوحي، وإلا لبتّ القولَ بذلك، ولما ناشده داودُ عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يُظهِره بدْأً وحرُم عليه كتمُه، ومن ضرورته أن يكون القضاءُ السابقُ أيضاً كذلك ضرورةَ استحالة نقضِ حكم النصِ بالاجتهاد، بل أقول: والله تعالى أعلم إن رأْيَ سليمان عليه السلام استحسانٌ، كما ينبئ عنه قوله: أرفقُ بالفريقين، ورأيَ داودَ عليه السلام قياسٌ.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

{وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً}... ومما يستفاد من ذلك: دفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان بالتفهيم، من عدم كون حكم داود حكماً شرعياً، أي وكل واحد منهما أعطيناه حكماً وعلماً كثيراً، لا سليمان وحده.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

فألهم سليمان حكما أحكم، وفهمه ذلك الوجه وهو أصوب. لقد اتجه داود في حكمه إلى مجرد التعويض لصاحب الحرث. وهذا عدل فحسب. ولكن حكم سليمان تضمن مع العدل البناء والتعمير، وجعل العدل دافعا إلى البناء والتعمير. وهذا هو العدل الحي الإيجابي في صورته البانية الدافعة. وهو فتح من الله وإلهام يهبه من يشاء. ولقد أوتي داود وسليمان كلاهما الحكمة والعلم: (وكلا آتينا حكما وعلما).. وليس في قضاء داود من خطأ، ولكن قضاء سليمان كان أصوب، لأنه من نبع الإلهام.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ففهمناها سليمان} أنه ألهمهُ وجهاً آخر في القضاء هو أرجح لما تقتضيه صيغة التفهيم من شدة حصول الفعل أكثر من صيغة الإفهام، فدل على أن فهم سليمان في القضية كان أعمق. وذلك أنه أرفقُ بهما، فكانت المسألة مما يتجاذبه دليلان فيصار إلى الترجيح، والمرجحات لا تنحصر، وقد لا تبدو للمجتهد، والله تعالى أراد أن يظهر علم سليمان عند أبيه ليزداد سروره به، وليتعزى على مَن فقده من أبنائه قبل ميلاد سليمان. وحسبك أنّه الموافق لقضاء النبي في قضية الزبير.

وللاجتهادات مجال في تعارض الأدلة. وهذه الآية أصل في اختلاف الاجتهاد، وفي العمل بالراجح، وفي مراتب الترجيح، وفي عذر المجتهد إذا أخطأ الاجتهاد أو لم يهتد إلى المُعارض لقوله تعالى: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً} في معرض الثناء عليهما. وفي بقية القصة ما يصلح لأن يكون أصلاً في رجوع الحاكم عن حكمه، كما قال ابن عطية وابن العربي؛ إلا أن ذلك لم تتضمنه الآية ولا جاءت به السنّة الصحيحة، فلا ينبغي أن يكون تأصيلاً وأن ما حَاولاه من ذلك غفلة...