71- ولو كان الحق تابعاً لأهوائهم لشاع الفساد في الأرض ولتنازعت الأهواء ، ولكنا أرسلنا إليهم القرآن الذي يُذَكِّرهم بالحق الذي يجب أن يجتمع عليه الجميع ، ومع ذلك هم معرضون عنه{[144]} .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما كان سينزل بالعالم من فساد . فيما لو اتبع الحق - على سبيل الفرض - أهواء هؤلاء المشركين ، فقال - تعالى - : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ . . . } .
والمراد بالحق هنا - عند كثير من المفسرين - هو الله - عز وجل - إذ أن هذا اللفظ من أسمائه - تعالى - .
والمعنى : ولو أجاب الله - تعالى - هؤلاء المشركين إلى ما يهوونه ويشتهونه من باطل وقبيح . لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ؛ لأن أهواءهم الفاسدة من شرك . وظلم ، وحقد ، وعناد . . . ، لا يمكن أن يقوم عليها نظام هذا الكون البديع ، الذى أقمناه على الحق والعدل .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالحق هنا ما يقابل الباطل ويدل على ذلك قوله - تعالى - : { بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } .
فيكون المعنى : ولو اتبع الحق الذى جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم أهواء المشركين ، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بالتوحيد وهم يريدون الشرك ، وجاءهم بمكارم الأخلاق ، وهم يريدون ما ألفوه من شهوات ، وجاءهم بالتشريعات العادلة الحكيمة ، وهم يريدون التشريعات التى ترضى غرورهم وأوضاعهم الفاسدة ، والتى منها تفضيل الناس بحسب أحسابهم وغناهم ، لا بحسب إيمانهم وتقواهم . . . ومع وجاهة الرأيين ، إلا أننا نميل إلى الرأى الثانى ، لأنه أقرب إلى سياق الآيات ، كما يشير إلى ذلك قوله - تعالى - : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } انتقال من توبيخهم على كراهيتهم للحق ، إلى توبيخهم على نفورهم مما فيه عزهم وفخرهم .
والمراد بذكرهم : القرآن الذى هو شرف لهم ، كما قال - تعالى - : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أى : كيف يكرهون الحق الذى جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم مع أنه قد أتاهم بالقرآن الكريم الذى فيه شرفهم ومجدهم ؟ إن إعراضهم عن هذا القرآن ليدل دلالة قاطعة ، على غبائهم ، وجهلهم ، لأن العاقل لا يعرض عن شىء يرفع منزلته ، ويكرم ذاته .
والحق لا يمكن أن يدور مع الهوى ؛ وبالحق تقوم السماوات والأرض ، وبالحق يستقيم الناموس ، وتجري السنن في هذا الكون وما فيه ومن فيه :
( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) . .
فالحق واحد ثابت ، والأهواء كثيرة متقلبة . وبالحق الواحد يدبر الكون كله ، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض ، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة . ولو خضع الكون للأهواء العارضة ، والرغبات الطارئة لفسد كله ، ولفسد الناس معه ، ولفسدت القيم والأوضاع ، واختلت الموازين والمقاييس ؛ وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى ، والكره والبغض ، والرغبة والرهبة ، والنشاط والخمول . . وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات . . وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد ، على قاعدة ثابتة ، ونهج مرسوم ، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد .
ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره ، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءا من الناموس الكوني ، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله وتنسق أجزاءه جميعا . والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير ؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله ، ويدبره في تناسق عجيب . بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل : ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن )إنما يخضع للحق الكلي ، ولتدبير صاحب التدبير .
وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أولى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه . ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر . وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين :
( بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ) . .
وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام . وقد ظل ذكرها يدوي في آذان القرون طالما كانت به مستمسكة . وقد تضاءل ذكرها عندما تخلت عنه ، فلم تعد في العير ولا في النفير . ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير . . . !
وقوله : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ{[20611]} وَمَنْ فِيهِنَّ } قال مجاهد ، وأبو صالح والسدي : الحق هو الله عز وجل ، والمراد : لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ، وشرع الأمور على وفق ذلك { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ{[20612]} وَمَنْ فِيهِنَّ } أي : لفساد أهوائهم واختلافها ، كما أخبر عنهم في قولهم : { لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } ثم قال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 31 ، 32 ] وقال تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا } [ الإسراء : 100 ] وقال : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [ النساء : 53 ] ،
ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، وتدبيره لخلقه{[20613]} تعالى وتقدس ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه .
ثم قال : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } يعني : القرآن ، { فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مّعْرِضُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولو عمل الربّ تعالى ذكره بما يهوَى هؤلاء المشركون وأجرى التدبير على مشيئتهم وإرادتهم وترك الحقّ الذي هم له كارهون ، لفسدت السموات والأرض ومن فيهنّ وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيحَ من التدبير والفاسد . فلو كانت الأمور جارية على مشيئتهم وأهوائهم مع إيثار أكثرهم الباطل على الحقّ ، لم تقرّ السموات والأرض ومن فيهنّ من خلق الله ، لأن ذلك قام بالحقّ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا السديّ ، عن أبي صالح : وَلَوِ اتّبَعَ الحَقّ أهْوَاءَهُمْ قال : الله .
قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : وَلَوِ اتّبَعَ الحَقّ أهْوَاءَهُمْ قال : الحقّ : هو الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَلَوِ اتّبَعَ الحَقّ أهْوَاءَهُمْ قال : الحقّ : الله .
وقوله : بَلْ أتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ اختلف أهل التأويل في تأويل الذكر في هذا الموضع ، فقال بعضهم : هو بيان الحقّ لهم بما أنزل على رجل منهم من هذا القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بَلْ أتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ يقول : بيّنا لهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : بل أتيناهم بشَرَفهم وذلك أن هذا القرآن كان شَرَفا لهم ، لأنه نزل على رجل منهم ، فأعرضوا عنه وكفروا به . وقالوا : ذلك نظير قوله وَإنّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وهذان القولان متقاربا المعنى . وذلك أن الله جلّ ثناؤه أنزل هذا القرآن بيانا بيّن فيه ما لخلقه إليه الحاجة من أمر دينهم ، وهو مع ذلك ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم وقومه وشَرَف لهم .
وقوله تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم } قال ابن جريج وأبو صالح { الحق } الله تعالى ع وهذا ليس من نمط الآية ، وقال غيرهما { الحق } هنا الصواب والمستقيم
قال أبو محمد رحمه الله :وهذا هو الأحرى ، على أن يكون المذكور قبل{[8524]} الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، ويستقيم على هذا الفساد ، { السماوات والأرض ومن فيهن } لو كان بحكم هوى هؤلاء ، وذلك أنهم جعلوا لله شركاء وأولاداً ولو كان هذا حقاً لم تكن لله الصفات العالية ، ولو لم تكن له لم تكن الصنعة والقدرة كما هي ، وكان فساد { السماوات والأرض ومن فيهن } ، ومن قال إن { الحق } في الآية الله تعالى بشعت له لفظة { اتبع } وصعب عليه ترتيب الفساد المذكور في الآية لأن لفظة الاتباع على كلا الوجهين إنما هي استعارة بمعنى أن تكون أهواؤهم يصوبها الحق ويقررها فنحن نجد الله تعالى قد قرر كفر أمم وأهواءهم فليس في ذلك فساد سماوات ، وأما الحق نفسه الذي هو الصواب فلو كان طبق أهوائهم لفسد كل شيء فتأمله ، وقرأ ابن وثاب «ولوُ اتبع » بضم الواو وقال أبو الفتح : الضم في هذه الواو قليل والوجه تشبيههاً بواو الجمع كقوله { اشتروا الضلالة }{[8525]} [ البقرة : 16 ] وقوله { بذكرهم } يحتمل أن يريد بوعظهم والبيان لهم قاله ابن عباس ، وقرأ{[8526]} قتادة «نُذَكِّرهم » بنون مضمونة وذال مفتوحة وكسر الكاف مشددة{[8527]} ويحتمل أن يريد بشرفهم ، وهو مروي ، وقرأ عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق «بل أتيتُهم بذكرهم » بضم تاء المتكلم ، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً «بل أتيتَهم » خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الجمهور «بل أتينهم بذكرهم » وروي عن أبي عمرو و «آتيناهم » بالمد بمعنى أعطيناهم .