ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال : { الله ولي الذين آمنوا } وهذا يشمل ولايتهم لربهم ، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا ، قد اتخذوه حبيبا ووليا ، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه ، فتولاهم بلطفه ومنَّ عليهم بإحسانه ، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم ، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة والسرور { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } فتولوا الشيطان وحزبه ، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم ، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا ، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا ، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي ، فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات ، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات ، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة ، فلهذا قال تعالى : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة الكافرين فقال - تعالى - :
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 257 )
{ وَلِيُّ } : الناصر والمعين الحليف . مأخوذ من الولاية بمعنى النصرة .
والمعنى : الله الذي بيده ملكوت كل شيء { وَلِيُّ الذين آمَنُواْ } أي معينهم وناصرهم ومتولي أمورهم ، فهو - سبحانه - الذي يخرجهم من ظلمات الكفر ، ومن ضلالات الشرك والفسوق والعصيان إلى نور الحق والهداية والتحرر من الأوهام . أما الذين كفروا فأولياؤهم ونصراؤهم الطاغوت الذي يتمثل في الشيطاطين والأصنام والأوهام المورثة والكبرياء والمضلين ، وهؤلاء يخرجونهم بسبب انطماس بصيرتهم وانتكاسهم في المعاصي من نور الإِيمان والهداية إلى ظلمات الكفر والضلالة . أولئك الموصوفون بتلك الصفات القبيحة أصحاب النار هم فيها خالدون خلودا مؤبداً .
وأفرد - سبحانه - النور وجمع الظلمات ، لأن الحق واحد أما الظلمات فقد تعددت فنونها وألوانها وأسبابها . وفي تقديم { والذين كفروا } في قوله :
{ والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت } إشارة إلى أنهم هم الذين ارتضوا سأن يكون الطغيان مسيطراً على قلوبهم لأن كفرهم بالله - تعالى - هو الذي جعل الشيطان ينفذ إلى أقطار نفوسهم بسهولة ويسر .
وقوله : { والذين كفروا } مبتدأ { أَوْلِيَآؤُهُمُ } مبتدأ ثان ، و { الطاغوت } خبره والجملة خبر المبتدأ الأول .
ولم يقل - سبحانه - والطاغوت ولي الذين كفروا للاحتراز عن وضع اسم الطاغوت في مقابل لفظ الجلالة .
فإن قيل : وهل كان الكافرون في نور ثم أخرجوا منه ؟ فالجواب أن المراد يخرجونهم من النور الفطري الذي جعل عليه الناس كافة أو من نور الحجج الواضحات التي من شأنها أن تحمل كل عاقل على الدخول في الإِسلام . وقيل المراد بهؤلاء المخرجين من النور إلى الظلمات أولئك الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ثم كفروا به بعدها والإِشارة في قوله : { أولئك } تعود إلى الذين كفروا . وفي التعبير " بأصحاب النار " إشعار بأنهم ملازمون لها كما يلازم المالك ما يملكه والرفيق رفيقه . وقوله { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } تأكيد لبقائهم فيها واختصاصهم بها .
وبذلك تكون الآية الكريمة قد ساقت أحسن البشارات للمؤمنين ، وأشد العقوبات للكافرين الذين استحبوا العمى على الهدى .
( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )
ثم يمضي السياق يصور في مشهد حسي حي متحرك طريق الهدى وطريق الضلال ؛ وكيف يكون الهدى وكيف يكون الضلال . . يصور كيف يأخذ الله - ولي الذين آمنوا - بأيديهم ، فيخرجهم من الظلمات إلى النور . بينما الطواغيت - أولياء الذين كفروا - تأخذ بأيدهم فتخرجهم من النور إلى الظلمات !
إنه مشهد عجيب حي موح . والخيال يتبع هؤلاء وهؤلاء ، جيئة من هنا وذهابا من هناك . بدلا من التعبير الذهني المجرد ، الذي لا يحرك خيالا ، ولا يلمس حسا ، ولا يستجيش وجدانا ، ولا يخاطب إلا الذهن بالمعاني والألفاظ .
فإذا أردنا أن ندرك فضل طريقة التصوير القرآنية ، فلنحاول أن نضع في مكان هذا المشهد الحي تعبيرا
ذهنيا أيا كان . لنقل مثلا : الله ولي الذين آمنوا يهديهم إلى الإيمان . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يقودونهم إلى الكفران . . إن التعبير يموت بين أيدينا ، ويفقد ما فيه من حرارة وحركة وإيقاع !
وإلى جانب التعبير المصور الحي الموحي نلتقي بدقة التعبير عن الحقيقة :
( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور . والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) . .
إن الإيمان نور . . نور واحد في طبيعته وحقيقته . . وإن الكفر ظلمات . . ظلمات متعددة متنوعة . ولكنها كلها ظلمات .
وما من حقيقة أصدق ولا أدق من التعبير عن الإيمان بالنور ، والتعبير عن الكفر بالظلمة .
إن الإيمان نور يشرق به كيان المؤمن أول ما ينبثق في ضميره . تشرق به روحه فتشف وتصفو وتشع من حولها نورا ووضاءة ووضوحا . . نور يكشف حقائق الأشياء وحقائق القيم وحقائق التصورات ، فيراها قلب المؤمن واضحة بغير غبش ، بينة بغير لبس ، مستقرة في مواضعها بغير أرجحة ؛ فيأخذ منها ما يأخذ ويدع منها ما يدع في هوادة وطمأنينة وثقة وقرار لا أرجحة فيه . . نور يكشف الطريق إلى الناموس الكوني فيطابق المؤمن بين حركته وحركة الناموس الكوني من حوله ومن خلاله ؛ ويمضي في طريقه إلى الله هينا لينا لا يعتسف ولا يصطدم بالنتوءات ، ولا يخبط هنا وهناك . فالطريق في فطرته مكشوف معروف .
وهو نور واحد يهدي إلى طريق واحد . فأما ضلال الكفر فظلمات شتى منوعة . . ظلمة الهوى والشهوة . وظلمة الشرود والتيه . وظلمة الكبر والطغيان . وظلمة الضعف والذلة . وظلمة الرياء والنفاق . وظلمة الطمع والسعر . وظلمة الشك والقلق . . . وظلمات شتى لا يأخذها الحصر تتجمع كلها عند الشرود عن طريق الله ، والتلقي من غير الله ، والاحتكام لغير منهج الله . . وما يترك الإنسان نور الله الواحد الذي لا يتعدد . نور الحق الواحد الذي لا يتلبس . حتى يدخل في الظلمات من شتى الأنواع وشتى الأصناف . . وكلها ظلمات . . !
والعاقبة هي اللائقة بأصحاب الظلمات :
( أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) . . وإذ لم يهتدوا بالنور ، فليخلدوا إذن في النار !
إن الحق واحد لا يتعدد والضلال ألوان وأنماط . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سُبُل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير ، وأن الكافرين إنما وليهم الشياطين تزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ، ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات ؛ لأن الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] وقال تعالى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور } [ الأنعام : 1 ] وقال تعالى : { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [ النحل : 48 ] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق ، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال : يبعث أهل الأهواء{[4382]} - أو قال : يبعث أهل الفتن - فمن كان هواه الإيمان كانت فتنته بيضاء مضيئة ، ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة ، ثم قرأ هذه الآية : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظّلُمَاتِ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
القول في تأويل قوله : { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } يعني تعالى ذكره بقوله { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا } نصيرهم وظهيرهم ، يتولاهم بعونه وتوفيقه ، { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمات } يعني بذلك : يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وإنما عني بالظلمات في هذا الموضع : الكفر ، وإنما جعل الظلمات للكفر مثلاً ، لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها ، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان ، والعلم بصحته وصحة أسبابه ، فأخبر تعالى ذكره عباده أنه وليّ المؤمنين ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه ، وهاديهم ؛ فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر ، وظلم سواتر أبصار القلوب .
ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به ، فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا } يعني الجاحدين وحدانيته أولياؤهم يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم الطاغوت ، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله { يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } يعني بالنور : والإيمان على نحو ما بينا إلى الظلمات ، ويعنى بالظلمات : ظلمات الكفر وشكوكه ، الحائلة دون أبصار القلوب ، ورؤية ضياء الإيمان ، وحقائق أدلته وسبله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ } يقول : من الضلالة إلى الهدى { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ } الشيطان { يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } يقول : من الهدى إلى الضلالة .
حدثني المثنى ، قال : ثنا إسحاق ، قال : ثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ } الظلمات : الكفر ، والنور : الإيمان { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر . حدثت عن عمار ، قال : ثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله تعالى ذكره { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ } يقول : من الكفر إلى الإيمان { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } يقول : من الإيمان إلى الكفر .
حدثنا ابن حميد ، قال ثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الله بن أبي لبابة ، عن مجاهد أو مقسم في قول الله { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } قال : كان قوم آمنوا بعيسى ، وقوم كفروا به ؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى ، وكفر به الذين آمنوا بعيسى ، أي يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، قال : يخرجونهم من النور إلى الظلمات .
حدثنا المثنى ، قال : ثنا الحجاج بن المنهال ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت منصوراً ، عن رجل ، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ } إلى { أُولَئِكَ أصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } قال : هم الذين كانوا آمنوا بعيسى بن مريم ، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به ، وأنزلت فيهم هذه الآية .
وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة يدل على أن الآية معناها الخصوص ، وأنها إن كان الأمر كما وصفنا نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وفيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى وسائر الملل التي كان أهلها تكذب بعيسى .
فإن قال قائل : أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذبوا به ؟ قيل : من كان منهم على ملة عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم فكان على حق وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله :
{ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنوا آمِنُوا باللهِ ورَسُولِهِ }
فإن قال قائل : فهل يحتمل أن يكون قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } أن يكون معنياً به غير الذين ذكر مجاهد وغيره أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى أو غير أهل الردة والاسلام ؟ قيل : نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان ، ويضلونهم فيكفرون ، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجاً منهم لهم من الإيمان يعني صدهم إياهم عنه وحرمانهم إياهم خيره ، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل كقول الرجل : أخرجني والدي من ميراثه : إذا ملك ذلك في حياته غيره ، فحرمه منه خطيئة ، ولم يملك ذلك القائل هذا الميراث قط فيخرج منه ، ولكنه لما حرمه ، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه ، قيل : أخرجه منه ، وكقول القائل : أخرجني فلان من كتيبته ، يعني لم يجعلني من أهلها ، ولم يكن فيها قط قبل ذلك ، فكذلك قوله : { يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } يحتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى ، وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية .
فإن قال لنا قائل : وكيف قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُهُمْ مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ } فجمع خبر الطاغوت بقوله يخرجونهم ، والطاغوت واحد . قيل : ان الطاغوت اسم لجمع وواحد وقد يجمع طواغيت ، وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد كان نظير قولهم : رجل عدل ، وقوم عدل ، ورجل فطر ، وقوم فطر ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدة في اللفظ واحدها وجمعها وكما قال العباس بن مرداس :
فَقُلْنا أسْلِمُوا أنا أخُوكُمُ-***-فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإحَنِ الصُّدُورُ
القول في تأويل قوله { أُولَئِكَ أصحَابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُون } يعني تعالى ذكره بذلك : هؤلاء الذين كفروا أصحاب النار ، أهل النار الذين يخلدون فيها ، يعني في نار جهنم دون غيرهم من أهل الإيمان إلى غير غاية ولا نهاية أبداً .
{ الله ولي الذين آمنوا } محبهم ، أو متولي أمورهم ، والمراد بهم من أراد إيمانه وثبت في علمه أنه يؤمن . { يخرجهم } بهدايته وتوفيقه . { من الظلمات } ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر . { إلى النور } إلى الهدى الموصل إلى الإيمان ، والجملة خبر بعد خبر ، أو حال من المستكن في الخبر ، أو من الموصول ، أو منهما ، أو استئناف مبين ، أو مقرر للولاية . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } أي الشياطين ، أو المضلات من الهوى والشيطان وغيرهما . { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } من النور الذي منحوه بالفطرة ، إلى الكفر وفساد الاستعداد والانهماك في الشهوات ، أو من نور البينات إلى ظلمات الشكوك والشبهات . وقيل : نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام ، وإسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار التسبب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته بها . { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وعيد وتحذير ، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم .