60- واذكر - أيها النبي - حين قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس ، فهم في قبضة قدرته ، فبلِّغهم ولا تخف أحداً فهو يعصمك منهم ، وما جعلنا ما عاينته ليلة الإسراء من العجائب إلا امتحاناً واختباراً للناس ، يزداد به إيمان المؤمن وكفر الكافر ، وما جعلنا الشجرة المذمومة في القرآن - وهي شجرة الزَّقوم التي تنبت في أصل الجحيم - إلا اختباراً لهم أيضاً ، إذ قالوا : النار تحرق الشجر ، فكيف تنبته ؟ ونخوفهم بها ، فما يزيدهم تخويفنا إلا تجاوزا للحد الكبير .
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } علما وقدرة فليس لهم ملجأ يلجأون إليه ولا ملاذ يلوذون به عنه ، وهذا كاف لمن له عقل في الانكفاف عما يكرهه الله الذي أحاط بالناس .
{ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً } أكثر المفسرين على أنها ليلة الإسراء .
{ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ } التي ذكرت { فِي الْقُرْآنِ } وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم .
والمعنى إذا كان هذان الأمران قد صارا فتنة للناس حتى استلج الكفار بكفرهم وازداد شرهم وبعض من كان إيمانه ضعيفا رجع عنه بسبب أن ما أخبرهم به من الأمور التي كانت ليلة الإسراء ومن الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان خارقا للعادة .
والإخبار بوجود شجرة تنبت في أصل الجحيم أيضا من الخوارق فهذا الذي أوجب لهم التكذيب . فكيف لو شاهدوا الآيات العظيمة والخوارق الجسيمة ؟ "
أليس ذلك أولى أن يزداد بسببه شرهم ؟ ! فلذلك رحمهم الله وصرفها عنهم ، ومن هنا تعلم أن عدم التصريح في الكتاب والسنة بذكر الأمور العظيمة التي حدثت في الأزمنة المتأخرة أولى وأحسن لأن الأمور التي لم يشاهد الناس لها نظيرا ربما لا تقبلها عقولهم لو أخبروا بها قبل وقوعها ، فيكون ذلك ريبا في قلوب بعض المؤمنين ومانعا يمنع من لم يدخل الإسلام ومنفرا عنه .
بل ذكر الله ألفاظا عامة تتناول جميع ما يكون .
{ وَنُخَوِّفُهُمْ } بالآيات { فَمَا يَزِيدُهُمْ } التخويف { إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا } وهذا أبلغ ما يكون في التملي بالشر ومحبته وبغض الخير وعدم الانقياد له .
ثم ذكر - سبحانه - ما يزيد النبى صلى الله عليه وسلم ثباتًا على ثباته ، ويقينًا على يقينه ، وما يدل على شمول علمه - تعالى - ونفاذ قدرته ، وبليغ حكمته فقال : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس . . . } .
أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - وقت أن قلنا لك على لسان وحينا . إن ربك - عز وجل - قد أحاط بالناس علمًا وقدرة . فهم فى قبضته ، وتحت تصرفه ، وقد عصمك منهم ، فامض فى طريقك . وبلغ رسالة ربك ، دون أن تخشى من كفار مكة أو من غيرهم ، عدوانًا على حياتك ، فقد عصمك - سبحانه - منهم .
وفى هذه الجملة ما فيها من التسلية للنبى صلى الله عليه وسلم ، ومن التبشير له ولأصحابه ، بأن العاقبة ستكون لهم ، ومن الحض لهم على المضى فى طريقهم دون أن يخشوا أحدًا إلا الله .
والمراد بالرؤيا فى قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } : ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم وعاينه بعينيه من عجائب ، ليلة الإِسراء والمعراج .
أى : وما جعلنا ما رأيته وعاينته ليلة إسرائنا بك من غرائب ، إلا فتنة للناس . ليتميز قوى الإِيمان من ضعيفه ، وسليم القلب من مريضه .
وأطلق - سبحانه - على ما أراه لنبيه ليلة الإِسراء لفظ الرؤيا مع أنه كان يقظة " لأن هذا اللفظ يطلق حقيقة على رؤيا المنام ، وعلى رؤية اليقظة ليلاً فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، كما فى قول الشاعر يصف صائدا : وكبر للرؤيا وهش فؤاده . . أى : وسر لرؤيته للصيد الذى سيصيده . أو أطلق عليه لفظ الرؤيا على سبيل التشبيه بالرؤيا المنامية ، نظرًا لما رآه فى تلك الليلة من عجائب سماوية وأرضية ، أو أطلق عليه ذلك بسبب أن ما رآه قد كان ليلاً . وقد كان فى سرعته كأنه رؤيا منامية .
وكان ما رآه صلى الله عليه وسلم فى تلك الليلة فتنة للناس ، لأنه لما قص عليهم ما رآه ، ارتد بعضهم عن الإِسلام ، وتردد البعض الآخر فى قبوله ، وضاقت عقولهم عن تصديقه ، زاعمة أنه لا يمكن أن يذهب صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم يعرج إلى السموات العلا . . ثم يعود إلى مكة ، كل ذلك فى ليلة واحدة .
وبعضهم يرى أن المراد بالرؤيا هنا : ما رآه النبى صلى الله عليه وسلم من أنه سيدخل مكة هو وأصحابه .
وبعضهم يرى أن المراد بها هنا : ما أراه الله - تعالى - لنبيه فى منامه ، من مصارع المشركين قبل غزوة بدر ؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم قبل بدء المعركة : والله لكأنى أنظر إلى مصارع القوم . ثم أومأ إلى الأرض وقال : هذا مصرع فلان . وهذا مصرع فلان .
والذى نرجحه هو الرأى الأول ، لأنه هو الظاهر من معنى الآية الكريمة ، ولأنه على الرأيين الثانى والثالث يترجح أن الآية مدنية ، لأن غزوة بدر وفتح مكة كانا بعد الهجرة ، والتحقيق أن هذه الآية مكية .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ . . } لما بين أن إنزال آيات القرآن تتضمن التخويف ، ضم إليه ذكر آية الإِسراء ، وهى المذكورة فى صدر السورة . وفى البخارى والترمذى عن ابن عباس فى قوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } قال : هى رؤيا عين أريها النبى صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به إلى بيت المقدس . . .
وكانت الفتنة ارتداد قوم كانوا أسلموا حين أخبرهم النبى صلى الله عليه وسلم أنه أسرى به .
وقيل : كانت رؤيا نوم . وهذه الآية تقض بفساده ، وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها ، وما كان أحد لينكرها .
وعن ابن عباس قال : الرؤيا التى فى هذه الآية ، رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يدخل مكة فى سنة الحديبية - فرده المشركون عن دخولها فى تلك السنة - ، فافتتن بعض المسلمين لذلك ، فنزلت هذه الآية . . وفى هذا التأويل ضعف . لأن السورة مكية ، وتلك الرؤيا كانت بالمدينة . . . " .
وقوله - سبحانه - : { والشجرة الملعونة فِي القرآن } معطوف على الرؤيا .
أى : وما جعلنا الرؤيا التى أريناك والشجرة الملعونة فى القرآن إلا فتنة للناس .
والمراد بالشجرة الملعونة هنا : شجرة الزقوم ، المذكورة فى قوله - تعالى - : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } والمراد بلعنها : لعن الآكلين منها وهم المشركون ، أو هى ملعونة لأنها تخرج فى أصل الجحيم . أو هى ملعونة لأن طعامها مؤذ وضار ، والعرب تقول لكل طعام ضار : إنه ملعون .
قال الآلوسى : وروى فى جعلها فتنة لهم : أنه لما نزل فى شأنها فى سورة الصافات وغيرها ما نزل ، قال أبو جهل وغيره : هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ، ثم يقول ينبت فيها الشجر . وما نعرف الزقوم إلا بالتمر والزبد ، ثم أمر جارية له فأحضرت تمرًا وزبدًا ، وقال لأصحابه : تزقموا .
وافتتن بهذه الآية أيضًا بعض الضعفاء ، ولقد ضلوا فى ذلك ضلالا بعيدًا . . . .
وقوله - تعالى - : { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } تذييل قصد به بيان ما جبل عليه هؤلاء المشركون من جحود ، وقسوة قلب .
أما الخوارق التي وقعت للرسول [ ص ] وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة . إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء .
( وإذ قلنا لك : إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ، والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) .
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول [ ص ] بعد حادثة الإسراء ، كما ثبت بعضهم وازداد يقينا . ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة " فتنة للناس " وابتلاء لإيمانهم . أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدا من الله لرسوله بالنصر ، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه .
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة . ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين . فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكما : هاتوا لنا تمرا وزبدا ، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا !
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين ? وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانا كبيرا ?
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده . ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة . فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق . أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب . . ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين . ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين . وظل القرآن - معجزة الإسلام - كتابا مفتوحا لجيل محمد [ ص ] وللأجيال بعده ، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته . إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه . وسيبقى القرآن كتابا مفتوحا للأجيال ، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب ، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانا وأصلح عملا ، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً } .
وهذا حضّ من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، على تبليغ رسالته ، وإعلام منه أنه قد تقدّم منه إليه القول بأنه سيمنعه من كلّ من بغاه سوءا وهلاكا ، يقول جلّ ثناؤه : واذكر يا محمد إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس قدرة ، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته ، ونحن مانعوك منهم ، فلا تتهيّب منهم أحدا ، وامض لما أمرناك به من تبليغ رسالتنا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول : أحاط بالناس ، عصمك من الناس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو بكر الهُذلي ، عن الحسن وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّكَ أحاطَ بالنّاسِ قال : يقول : أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك ، فعرف أنه لا يُقتل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أحاطَ بالنّاسِ قال : فهم في قبضته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير قوله أحاطَ بالنّاسِ قال : منعك من الناس . قال معمر ، قال قتادة ، مثله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّك أحاطَ بالنّاسِ قال : منعك من الناس .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإذْ قُلْنا لَكَ إنّ رَبّكَ أحاطَ بالنّاسِ أي منعك من الناس حتى تبلّغ رسالة ربك .
وقوله : وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : هو رؤيا عين ، وهي ما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أُسري به من مكة إلى بيت المقدس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به ، وليست برؤيا منام .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، سُئِل عن قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فتْنَةً للنّاسِ قال : هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أُسري به .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن فرات القزاز ، عن سعيد بن جبير وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : كان ذلك ليلة أُسري به إلى بيت المقدس ، فرأى ما رأى فكذّبه المشركون حين أخبرهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : أسري به عشاء إلى بيت المقدس ، فصلى فيه ، وأراه الله ما أراه من الاَيات ، ثم أصبح بمكة ، فأخبرهم أنه أُسري به إلى بيت المقدس ، فقالوا له : يا محمد ما شأنك ، أمسيت فيه ، ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس ، فعجبوا من ذلك حتى ارتدّ بعضهم عن الإسلام .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أريْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : قال كفار أهل مكة : أليس من كذب ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة شهرين في ليلة .
حدثني أبو حصين ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الاَية وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : مسيره إلى بيت المقدس .
حدثني أبو السائب ويعقوب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبد الله ، عن أبي الضحى ، عن مسروق في قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : حين أُسري به .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : ليلة أُسري به .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فتْنَةً للنّاس قال : الرؤيا التي أريناك في بيت المقدس حين أُسري به ، فكانت تلك فتنة الكافر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ يقول : الله أراه من الاَيات والعبر في مسيره إلى بيت المقدس .
ذُكر لنا أن ناسا ارتدّوا بعد إسلامهم حين حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيره ، أنكروا ذلك وكذّبوا له ، وعجبوا منه ، وقالوا : تحدّثنا أنك سرت مسيرة شهرين في ليلة واحدة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : هو ما أُري في بيت المقدس ليلة أُسري به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ قال : أراه الله من الاَيات في طريق بيت المقدس حين أُسري به ، نزلت فريضة الصلاة ليلة أُسري به قبل أن يهاجر بسنة وتسع سنين من العشر التي مكثها بمكة ، ثم رجع من ليلته ، فقالت قريش : تعشى فينا وأصبح فينا ، ثم زعم أنه جاء الشام في ليلة ثم رجع ، وايم الله إن الحدأة لتجيئها شهرين : شهرا مقبلة ، وشهرا مُدبرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا الّتي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : هذا حين أُسري به إلى بيت المقدس ، افتتن فيها ناس ، فقالوا : يذهب إلى بيت المقدس ويرجع في ليلة وقال : «لَمّا أتاني جَبْرائيلُ عَلَيْهِ السّلامُ بالبُرَاقِ لِيَحْمِلَني عَلَيْها صَرّتْ بأذُنَيْها ، وَانْقَبَض بَعْضُها إلى بَعْضٍ ، فَنَظَرَ إلَيْها جَبْرائيلُ ، فقالَ : وَالّذِي بَعَثَنِي بالحَقّ منْ عِنْدِهِ ما رَكِبَكَ أحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ خَيْرٌ مِنْهُ » ، قالَ : «فَصرّتْ بأُذُنَيْها وَارْفَضّتْ عَرَقا حتى سالَ ما تَحْتَها ، وكانَ مُنْتَهَى خَطْوها عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفها » فلما أتاهم بذلك ، قالوا : ما كان محمد لينتهي حتى يأتي بكذبة تخرج من أقطارها ، فأتوا أبا بكر رضي الله عنه ، فقالوا : هذا صاحبك يقول كذا وكذا ، فقال : وقد قال ذلك ؟ قالوا : نعم ، فقال : إن كان قد قال ذلك فقد صدق ، فقالوا : تصدّقه إن قال ذهب إلى بيت المقدس ورجع في ليلة ؟ فقال أبو بكر : إي ، نزع الله عقولكم ، أصدّقه بخبر السماء ، والسماء أبعد من بيت المقدس ، ولا أصدّقه بخبر بيت المقدس ؟ قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا قد جئنا بيت المقدس فصفه لنا ، فلما قالوا ذلك ، رفعه الله تبارك وتعالى ومثله بين عينيه ، فجعل يقول : «هو كذا ، وفيه كذا » ، فقال بعضهم : وأبيكم إن أخطأ منه حرفا ، فقالوا : هذا رجل ساحر .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ يعني ليلة أُسري به إلى بيت المقدس ، ثم رجع من ليلته ، فكانت فتنة لهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله الرّؤحيا التي أرَيْناكَ قال : حين أُسري بمحمد صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
وقال آخرون : هي رؤياه التي رأى أنه يدخل مكة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ قال : يقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُري أنه دخل مكة هو وأصحابه ، وهو يومئذٍ بالمدينة ، فعجّل رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى مكة قبل الأجل ، فردّه المشركون ، فقالت أناس : قد ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان حدثنا أنه سيدخلها ، فكانت رجعته فتنتهم .
وقال آخرون ممن قال : هي رؤيا منام : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه قوما يعلون منبره . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة ، قال : حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد ، قال : ثني أبي ، عن جدّي ، قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة ، فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكا حتى مات . قال : وأنزل الله عزّ وجلّ في ذلك وَما جَعَلْنا الرّؤْيا التي أرَيْناكَ إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ » . . . الاَية .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : عنى به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الاَيات والعبر في طريقه إلى بيت المقدس ، وبيت المقدس ليلة أُسري به ، وقد ذكرنا بعض ذلك في أوّل هذه السورة .
وإنما قُلنا ذلك أولى بالصواب ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن هذه الاَية إنما نزلت في ذلك ، وإياه عنى الله عزّ وجلّ بها ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الكلام : وما جعلنا رؤياك التي أريناك ليلة أسرينا بك من مكة إلى بيت المقدس ، إلاّ فتنة للناس : يقول : إلا بَلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام ، لمّا أُخبروا بالرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام ، وللمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تماديا في غيهم ، وكفرا إلى كفرهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إلاّ فِتْنَةً للنّاسِ .
وأما قوله : والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ فإن أهل التأويل اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : هي شجرة الزّقّوم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، قال : حدثنا أبو عبيدة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : شجرة الزّقوم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : هي شجرة الزقوم . قال أبو جهل : أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزّقوم ، ثم دعا بتمر وزُبد ، فجعل يقول : زقمني ، فأنزل الله تعالى طَلْعُها كأنّهُ رُءُوسُ الشّياطِين وأنزل ونُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيانا كَبِيرا .
حدثني أبو السائب ويعقوب ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن مسروق والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : شجرة الزّقوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الحسن بن عبيد الله ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ فإن قريشا كانوا يأكلون التمر والزبد ، ويقولون : تزقموا هذا الزقوم . قال أبو رجاء : فحدثني عبد القدّوس ، عن الحسن ، قال : فوصفها الله لهم في الصافات .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قال : قال أبو جهل وكفار أهل مكة : أليس من كذب ابن أبي كبَشة أنه يوعدكم بنار تحترق فيها الحجارة ، ويزعم أنه ينبت فيها شجرة ؟ والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : هي شجرة الزّقوم .
حدثني عن عبد الله بن أحمد بن يونس ، قال : حدثنا عبثر ، قال : حدثنا حصين ، عن أبي مالك في هذه الاَية والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : شجرة الزقوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين ، عن أبي مالك ، قال في قوله والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : هي شجرة الزقوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن رجل يقال له بدر ، عن عكرمة ، قال : شجرة الزقوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن فرات القزّار ، قال : سُئل سعيد بن جبير عن الشجرة الملعونة ، قال : شجرة الزقوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الملك العَزْرميّ ، عن سعيد بن جبير وَالشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ قال : شجرة الزقوم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، بمثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : الزقوم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن أبي المَحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، أنه كان يحلف ما يستثني ، أن الشجرة الملعونة : شجرة الزقوم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن فُرات القزاز ، قال : سألت سعيد بن جبير ، عن الشجرة الملعونة في القرآن ، قال : شجرة الزّقوم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : هي الزقوم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ ونُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيانا كَبِيرا وهي شجرة الزقوم ، خوّف الله بها عباده ، فافتتنوا بذلك ، حتى قال قائلهم أبو جهل بن هشام : زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر ، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلاّ التمر والزبد ، فتزقموا ، فأنزل الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة : إِنّها شَجَرَةٌ تخْرُجُ في أصْلِ الجَحِيمِ طَلْعُها كأنّهُ رُءُوسُ الشّياطِينِ ، إني خلقتها من النار ، وعذّبت بها من شئت من عبادي .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : الزقوم وذلك أن المشركين قالوا : يخبرنا هذا أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجر حتى لا تدع منه شيئا ، وذلك فتنة .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ قال : شجرة الزقوم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ الزقوم التي سألوا الله أن يملأ بيوتهم منها . وقال : هي الصّرَفان بالزبد تتزقمه ، والصرفان : صنف من التمر . قال : وقال أبو جهل : هي الصرفان بالزبد ، وافتتنوا بها .
وقال آخرون : هي الكَشُوث . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن مولى بني هاشم حدثه ، أن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، أرسله إلى ابن عباس ، يسأله عن الشجرة الملعونة في القرآن ؟ قال : هي هذه الشجرة التي تلوي على الشجرة ، وتجعل في الماء ، يعني الكشوثي .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا قول من قال : عنى بها شجرة الزقوم ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك . ونصبت الشجرة الملعونة عطفا بها على الرؤيا . فتأويل الكلام إذن : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ، والشجرة الملعونة في القرآن إلاّ فتنة للناس ، فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ ، وتمادِي أهل الشرك في شركهم ، حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أراه الله في مسيره إلى بيت المقدس ليلة أُسريَ به . وكانت فتنتهم في الشجرة الملعونة ما ذكرنا من قول أبي جهل والمشركين معه : يخبرنا محمد أن في النار شجرة نابتة ، والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها ؟
وقوله : ونُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ إلاّ طُغْيانا كَبِيرا يقول : ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من العقوبات والنكال ، فما يزيدهم تخويفنا إلاّ طغيانا كبيرا ، يقول : إلاّ تماديا وغيا كبيرا في كفرهم وذلك أنهم لما خُوّفوا بالنار التي طعامهم فيها الزقوم دعوا بالتمر والزبد ، وقالوا : تزقموا من هذا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك وقد تقدّم ذكر بعض من قال ذلك ، ونذكر بعض من بقي :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال قال ابن جريج وَالشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ قال : طلعها كأنه رءوس الشياطين ، والشياطين ملعونون . قال والشّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرآنِ لما ذكرها زادهم افتتانا وطغيانا ، قال الله تبارك وتعالى ، ونخوّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيانا كَبِيرا .
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس }
هذه تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم على حزنه من تكذيب قومه إياه ، ومن إمهال عتاة أعداء الدين الذين فتنوا المؤمنين ، فذكره الله بوعده نصرَه .
وقد أومأ جَعْلُ المسند إليه لفظ الرب مضافاً إلى ضمير الرسول أن هذا القول مسوق مساق التكرمة للنبيء وتصبيره ، وأنه بمحل عناية الله به إذ هو ربه وهو ناصره ؛ قال تعالى : { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
فجملة { وإذ قلنا لك } الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات } [ الإسراء : 59 ] ويجوز أن تكون معترضة .
و ( إذ ) متعلقة بفعل محذوف ، أي اذكُرْ إذ قلنا لك كلاماً هو وعد بالصبر ، أي اذكر لهم ذلك وأعدهُ على أسماعهم ، أو هو فعل { اذكر } على أنه مشتق من الذُّكر بضم الذال وهو إعادة الخبر إلى القوة العقلية الذاكرة .
والإحاطة لما عدي فعلها هنا إلى ذاتتِ الناس لا إلى حال من أحوالهم تعين أنها مستعملة في معنى الغلبة ، كما في قوله تعالى : { وظنوا أنهم أحيط بهم } في سورة [ يونس : 22 ] . وعُبِّرَ بصيغة المضي للتنبيه على تحقيق وقوع إحاطة الله بالناس في المستقبل القريب . ولعل هذا إشارة إلى قوله تعالى : { أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } [ الرعد : 41 ] .
والمعنى : فلا تحزن لافترائهم وتطاولهم فسننتقم منهم .
{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس }
عطف على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات } [ الإسراء : 59 ] وما بينهما معترضات .
والرؤيا أشهر استعمالها في رؤيا النوم ، وتستعمل في رؤية العين كما نقل عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : هي رؤيا عَيْن أريها النبي ليلة أسري به إلى بيت المقدس ، رواه الترمذي وقال : إنه قول عائشة ومعاوية وسبعة من التابعين ، سماهم الترمذي . وتأولها جماعة أنها ما رآه ليلة أسري به إذ رأى بيت المقدس وجعل يصفه للمشركين ، ورأى عِيرَهم واردة في مكان معين من الطريق ووصف لهم حال رجال فيها فكان كما وصف . ويؤيد هذا الوجه قوله : { التي أريناك } فإنه وصف للرؤيا ليُعلم أنها رؤية عين . وقيل : رأى أنه يدخل مكة في سنة الحديبية فرده المشركون فلم يدخلها فافتتن بعض من أسلموا فلما كان العام المقبل دخلها .
وقيل : هي رؤيا مصارع صناديد قريش في بَدر أريها النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أي بمكة . وعى هذين القولين فهي رؤيا نوم ورؤيا الأنبياء وحي .
والفتنة : اضطراب الرأي واختلال نظام العيش ، وتطلق على العذاب المكرر الذي لا يطاق ، قال تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [ البروج : 10 ] ، وقال : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] . فيكون المعنى على أول القولين في الرؤيا أنها سبب فتنة المشركين بازدياد بعدهم عن الإيمان ، ويكون على القول الثاني أن المرئي وهو عذابهم بالسيف فتنة لهم .
{ والشجرة الملعونة في القرءان }
{ والشجرة } عطف على الرؤيا ، أي ما جعلنا ذكر الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس . وهذا إشارة إلى قوله تعالى : { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون } في سورة [ الصافات : 64 ، 66 ] ، وقوله : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } الآية في سورة [ الدخان : 43 ، 44 ) ، وقوله : { إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم } في سورة [ الواقعة : 51 ، 52 ] .
روي أن أبا جهل قال : زعم صاحبكم أن نار جهنم تحرق الحجر ؛ ثم يقول بأن في النار شجرة لا تحرقها النار . وجهلوا أن الله يخلق في النار شجرة لا تأكلها النار . وهذا مروي عن ابن عباس وأصحابه في « أسباب النزول » للواحدي و « تفسير الطبري » . وروي أن ابن الزبعرى قال : الزقوم التمر بالزبد بلغة اليمن ، وأن أبا جهل أمر جارية فأحضرت تمراً وزبداً وقال لأصحابه : تمزقوا . فعلى هذا التأويل فالمعنى : أن شجرة الزقوم سبب فتنة مكفرهم وانصرافهم عن الإيمان . ويتعين أن يكون معنى جعل شجرة الزّقوم فتنة على هذا الوجه أن ذكرها كان سببَ فتنة بحذف مضاف وهو ذكر بقرينة قوله : { الملعونة في القرآن } لأن ما وصفت به في آيات القرآن لعْن لها .
ويجوز أن يكون المعنى : أن إيجادها فتنة . أي عذاب مكرر ، كما قال : { إنا جعلناها فتنة للظالمين } [ الصافّات : 63 ] .
والملعونة أي المذمومة في القرآن في قوله : طعام الأثيم [ الدخان : 44 ] وقوله : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] وقوله : { كالمهل تغلي في البطون كغلي الحميم } [ الدخان : 45 46 ] . وقيل معنى الملعونة : أنها موضوعة في مكان اللعنة وهي الإبعاد من الرحمة ، لأنها مخلوقة في موضع العذاب . وفي الكشاف } : قيل تقول العرب لكل طعام ضار : ملعون .
{ ونخوفهم فما يزيده إلا طغيانا كبيرا }
عطف على جملة { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } [ الإسراء : 59 ] الدال على أنهم متصلبون في كفرهم مكابرون معاندون . وهذه زيادة في تسلية النبي حتى لا يأسف من أن الله لم يرهم آيات ، لأن النبي حريص على إيمانهم ، كما قال موسى عليه السلام { فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .
ويوجد في بعض التفاسير أن ابن عباس قال : في الشجرة الملعونة بنو أمية . وهذا من الأخبار المختلقة عن ابن عباس ، ولا إخالها إلا مما وضعه الوضاعون في زمن الدعوة العباسية لإكثار المنفرات من بني أمية ، وأن وصف الشجرة بأنها الملعونة في القرآن صريح في وجود آيات في القرآن ذكرت فيها شجرة ملعونة وهي شجرة الزقوم كما علمت . ومثل هذا الاختلاق خروج عن وصايا القرآن في قوله : { ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } [ الحجرات : 11 ] .
وجيء بصيغة المضارع في { نُخوِّفهم } للإشارة إلى تخويف حاضر ، فإن الله خوفهم بالقحط والجوع حتى رأوا الدخان بين السماء والأرض وسألوا الله كشفه فقال تعالى : { إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون } [ الدخان : 15 ] فذلك وغيره من التخويف الذي سبق فلم يزدهم إلا طغياناً . فالظاهر أن هذه الآية نزلت في مدة حصول بعض المخوفات .
وقد اختير الفعل المضارع في { نخوفهم } و { يزيدهم } لاقتضائه تكرر التخويف وتجدده ، وأنه كلما تجدد التخويف تجدد طغيانهم وعظم .
والكبير : مستعار لِمعنى الشديد القوى في نوع الطغيان . وقد تقدم عند قوله تعالى : { قل قتال فيه كبير } في سورة [ البقرة : 217 ] .