المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

251- فهزموا عدوهم بإذن الله تعالى وقتل داود - وهو أحد جنود طالوت - جالوت قائد الكفار ، وأعطاه الله الحكم بعد طالوت والنبوة والعلم النافع وعلمه مما يشاء ، وسنة الله أن ينصر الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون ، ولولا أن الله يسلط جنوده على المفسدين لمحو فسادهم ، ويسلط الأشرار بعضهم على بعض ، ما عمرت الأرض ، ولكن الله دائم الإحسان والفضل على عباده .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك ، ونصرهم عليهم { فهزموهم بإذن الله وقتل داود } عليه السلام ، وكان مع جنود طالوت ، { جالوت } أي : باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره { وآتاه الله } أي : آتى الله داود { الملك والحكمة } أي : منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة ، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم ، ولهذا قال { وعلمه مما يشاء } من العلوم الشرعية والعلوم السياسية ، فجمع الله له الملك والنبوة ، وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم ، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض ، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله ، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } أي : لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى ، وإظهار دينه { ولكن الله ذو فضل على العالمين } حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها ، وأسباب لا يعلمونها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

فماذا كانت نتيجة هذا الدعاء الخاشع الخالص ؟ كانت نتيجته النصر المؤزر الذي حكاه القرآن في قوله : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله } .

وأصل الهزم في اللغة الكسر .

ومنه سقاء منهزم أي انثنى بعضه على بعض مع الجفاف . ويقال للسحاب هزيم ، لأنه يتشقق بالمطر . والفاء هنا فصيحة أو سببه أي أنهم بسبب دعائهم المخلص ، وإيمانهم القوى ، واستجابتهم لما أمرهم الله به ، استطاعوا أن يكسروا أعداءهم ويهزموهم ، وقوله ، { بِإِذْنِ الله } أي بتوفيقه وتيسيره وتأييده . والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة . ثم قال - تعالى - : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } أي : وقتل داود بن إيشا - وكان في جيش طالوت - جالوت الذي كان يقود جيش الكفر ، وبقتله مزق أتباعه شر ممزق ، ورزق الله طالوت ومن معه النصر والغلبة .

ثم بين - سبحانه - ما منحه لداود من نعم فقال : { وَآتَاهُ الله الملك والحكمة وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } والحكمة المراد بها هنا النبوة ، ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله في بني إسرائيل ، وورثه فيهما ابنه سليمان - عليه السلام - .

أي : وأعطى الله - تعالى - عبده داود ملك بني إسرائيل وأعطاه النبوة التي هي أشرف من الملك زيادة في ترقيته في درجات الشرف والكمال ، وعلمه - سبحانه - مما يشاء من فنون العلم ، ومن أمور الدين والدنيا كمعرفته لغة الطيور ، وكلام الدواب ، وصناعة آلات الحرب وغير ذلك من ألوان العلوم المختلفة التي لا تحدها إلا مشيئة الله وإرادته .

وفي قوله - تعالى - : { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } بعد الإِخبار بأنه - سبحانه - آتى داود الحكمة ، إشعار بأن الإِنسان لا يستغني عن التعلم سواء أكان نبيا أم لم يكن ، لأن داود - عليه السلام - مع حصولة على النبوة لم يستغن عن تعليم الله إياه ، وقد أمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يلتمس المزيد من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عباده فقال : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } .

أي : ولولا أن الله - تعالى - يدفع أهل الباطل بأهل الحق ، لفسدت الأرض ، وعمها الخراب لأن أهل الفساد إذا تركوا من غير أن يقاوموا استطارت شرورهم ، وتغلبوا على أهل الصلاح والاستقامة ، وتعطلت مصالح الناس ، وانتشر الفساد في الأرض .

فلولا في الجملة الكريمة حرف امتناع لوجود . أي : امتنع فساد الأرض لأجل وجود دفع الناس بعضهم ببعض .

فالجملة الكريمة تأمر في كل زمان ومكان أن يقفوا في وجوه الأشرار ، وأن يقاوموهم بكل وسيلة من شأنها أن تحول بينهم وبين الفساد والطغيان .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } .

أي : ولكن الله - تعالى - صاحب فضل عظيم ، وإنعام كبير على الناس أجمعين ، لأنه وضع لهم هذا التنظيم الحكيم الذي أوجب فيه على المصلحين أن يدافعوا المفسدين ، وأن يقاوموهم بالطريقة التي تمنع فسادهم حتى ولو أدى ذلك إلى رفع السلاح في وجوههم ، لأن السكوت عن فساد المفسدين سيؤدي إلى العقاب الذي يعمهم ويصيب معهم المصلحين .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

243

وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها : ( فهزموهم بإذن الله ) . . ويؤكد النص هذه الحقيقة : ( بإذن الله ) . . ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما . وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون ، ولطبيعة القوة التي تجريه . . إن المؤمنين ستار القدرة ؛ يفعل الله بهم ما يريد ، وينفذ بهم ما يختار . . بإذنه . . ليس لهم من الأمر شيء ، ولا حول لهم ولا قوة ، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته ، فيكون منهم ما يريده بإذنه . . وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين . . إنه عبد الله . اختاره الله لدوره . وهذه منة من الله وفضل . وهو يؤدي هذا الدور المختار ، ويحقق قدر الله النافذ . ثم يكرمه الله - بعد كرامة الاختيار - بفضل الثواب . . ولولا فضل الله ما فعل ، ولولا فضل الله ما أثيب . . ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق . . فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي ، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد . استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص .

ويبرز السياق دور داود :

( وقتل داود جالوت ) . .

وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل . وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا . . ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها ، إنما تجري بحقائقها . وحقائقها يعلمها هو . ومقاديرها في يده وحده . فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم ، ويفوا الله بعهدهم . ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده . وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير ، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم . . وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله . فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت ، ويرثه إبنه سليمان ، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل ؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود :

( وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ) . .

وكان داود ملكا نبيا ، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى . . أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا . . وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة ، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية ، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية . . حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى . . إنها ليست المغانم والأسلاب ، وليست الأمجاد والهالات . . إنما هو الصلاح في الأرض ، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر :

( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض . ولكن الله ذو فضل على العالمين )

وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار . وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس ، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات . . ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا ، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق ، إلى الخير والصلاح والنماء ، في نهاية المطاف . .

لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة ، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع ، فتنفض عنها الكسل والخمول ، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة ، وتظل أبدا يقظة عاملة ، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . . وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء . . يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة . تعرف الحق الذي بينه الله لها . وتعرف طريقها إليه واضحا . وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض . وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل ، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه . .

وهنا يمضي الله أمره ، وينفذ قدره ، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا ، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية ، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه . وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة .

ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر . ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض ، وتمكين الصلاح في الحياة . إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَآءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلََكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت ، وقتل داود جالوت . وفي هذا الكلام متروك ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه .

وذلك أن معنى الكلام : ولما برزوا لجالوت وجنوده ، قالوا : ربنا أفرغ علينا صبرا ، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فاستجاب لهم ربهم ، فأفرغ عليهم صبره ، وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين ، فهزموهم بإذن الله . ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله : فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّهِ على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به .

ومعنى قوله : فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّهِ قتلوهم بقضاء الله وقدره ، يقال منه : هزم القوم الجيش هزيمة وهِزّيمَى . وَقَتَل دَاوُدُ جالُوتَ وداود هذا هو داود بن إيشَا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .

وكان سبب قتله إياه كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا بكار بن عبد الله ، قال : سمعت وهب بن منبه يحدّث ، قال : لما خرج ، أو قال : لما برز طالوت لجالوت ، قال جالوت : أبرزوا لي من يقاتلني ، فإن قتلني ، فلكم ملكي ، وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت ، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكّمه في ماله . فألبسه طالوت سلاحا ، فكره داود أن يقاتله ، وقال : إن الله لم ينصرني عليه لم يغن السلاح . فخرج إليه بالمقلاع وبمخلاة فيها أحجار ، ثم برز له ، قال له جالوت : أنت تقاتلني ؟ قال داود : نعم . قال : ويلك أما تخرج إليّ إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة ؟ لأبددنّ لحمك ، ولأطعمنه اليوم الطير والسباع فقال له داود : بل أنت عدوّ الله شرّ من الكلب . فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع ، فأصابت بين عينيه حتى نفذت في دماغه ، فصرع جالوت ، وانهزم من معه ، واحتزّ داود رأسه . فلما رجعوا إلى طالوت ادّعى الناس قتل جالوت ، فمنهم من يأتي بالسيف وبالشيء من سلاحه أو جسده ، وخبأ داود رأسه ، فقال طالوت : من جاء برأسه فهو الذي قتله . فجاء به داود . ثم قال لطالوت : أعطني ما وعدتني فندم طالوت على ما كان شرط له ، وقال : إن بنات الملوك لا بد لهنّ من صداق ، وأنت رجل جريء شجاع ، فاحتمل صداقها ثلثمائة غلْفة من أعدائنا وكان يرجو بذلك أن يقتل داود . فغزا داود وأسر منهم ثلثمائة ، وقطع غُلَفهم وجاء بها ، فلم يجد طالوت بدّا من أن يزوّجه . ثم أدركته الندامة ، فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل ، فنهض إليه طالوت فحاصره . فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه ، فهبط إليهم داود ، فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هُدْب ثيابه ، ثم رجع داود إلى مكانه ، فناده أن . . . حرسك ، فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت ، فإنه هذا إبريقك وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك ، وبعث إليه . فعلم طالوت أنه لو شاء قتله ، فعطفه ذلك عليه فأمنه ، وعاهده بالله لا ير ى منه بأسا . ثم انصرف . ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدسّ لقتله ، وكان طالوت لا يقاتل عدوّا إلا هزم ، حتى مات .

قال بكار : وسئل وهب وأنا أسمع : أنبيا كان طالوت يُوحَى إليه ؟ فقال : لم يأته وحي ، ولكن كان معه نبيّ يقال له أشمويل ، يُوحَى إليه ، وهو الذي مَلّك طالوت .

4حدثنا ابن حميد ، قل : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان داود النبيّ وإخوة له أربعة ، معهم أبوهم شيخ كبير ، فتخلف أبوهم وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له ، وكان من أصغرهم وخرج إخوته الأربعة مع طالوت ، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بضع .

قال ابن إسحاق : وكان داود فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه رجلاً قصيرا أزرق قليل شعر الرأس ، وكان طاهر القلب نقيه ، فقال له أبوه : يا بنيّ إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوّون به على عدوّهم ، فاخرج به إليهم ، فإذا دفعته إليهم فأقبل إليّ سريعا فقال : أفعل . فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته ، ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه . حتى إذا فصل من عند أبيه ، فمرّ بحجر ، فقال : يا داود خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر يعقوب فأخذه فجعله في مخلاته ، ومشى . فبينا هو يمشي إذ مرّ بحجر آخر ، فقال : يا داود خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر إسحاق فأخذه فجعله في مخلاته ، ثم مضى . فبينا هو يمشي إذ مرّ بحجر ، فقال : يا داود خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت ، فإني حجر إبراهيم فأخذه فجعله في مخلاته . ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم ، فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه . وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت ، وعظم شأنه فيهم ، وبهيبة الناس إياه ، ومما يعظمون من أمره ، فقال لهم : والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدوّ شيئا ما أدري ما هو ، والله إني لو أراه لقتله ، فأدخلوني على الملك فأدخل على الملك طالوت ، فقال : أيها الملك إنى أراكم تعظمون شأن هذا العدوّ ، والله إنى لو أراه لقتله فقال : يا بنيّ ما عندك من القوّة على ذلك ؟ وما جرّبت من نفسك ؟ قال : قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي ، فأدركه فآخذ برأسه ، فأُفكّ لحييه عنها ، فآخذها من فيه ، فادع لي بدرع حتى ألقيها عليّ فأتي بدرع ، فقذفها في عنقه ومثل فيها فملأ عين طالوت ونفسه ومن حضر من بني إسرائيل ، فقال طالوت : والله لعسى الله أن يهلكه به فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت ، فلما التقى الناس قال داود : أروني جالوت فأروه إياه على فرس عليه لأمته فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته ، فيقول هذا : خذني ويقول هذا : خذني ويقول هذا : خذني فأخذ أحدها فجعله في مقذافه ، ثم قتله به ، ثم أرسله فصَكّ بين عيني جالوت فدمغه ، وتنكس عن دابته فقتله . ثم انهزم جنده ، وقال الناس : قتل داود جالوت ، وخلع طالوت . وأقبل الناس على داود مكانه ، حتى لم يسمع لطالوت بذكر إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود ، همّ بأن يغتال داود وأراد قتله فصرف الله ذلك عنه وعن داود وعرف خطيئته ، والتمس التوبة منها إلى الله .

وقد روى عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل ، وهو ما :

4حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه ، قال : لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت أوحى إلى نبيّ بني إسرائيل أن قل لطالوت : فليغز أهل مدين ، فلا يترك فيها حيا إلا قتله ، فإني سأظهره عليهم فخرج بالناس حتى أتى مدين ، فقتل من كان فيها إلا ملكهم ، فإنه أسره ، وساق مواشيهم . فأوحى الله إلى أشمويل : ألا تعجب من طالوت إذ أمرته فاختان فيه ، فجاء بملكهم أسيرا ، وساق مواشيهم ، فالقه فقل له : لأنزعنّ الملك من بيته ، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة ، فإنى إنما أكرم من أطاعني ، وأهين من هان عليه أمري فلقيه ، فقال ما صنعت ؟ لم جئت بملكهم أسيرا ، ولم سقت مواشيهم ؟ قال : إنما سقت المواشي لأقرّبها . قال له أشمويل : إن الله قد نزع من بيتك الملك ، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة . فأوحى الله إلى أشمويل أن انطلق إلى إيشا ، فيعرض عليك بنيه ، فادهن الذي آمرك بدهن القدس يكن ملكا على بني إسرائيل فانطلق حتى أتى إيشا ، فقال : اعرض عليّ بنيك فدعا إيشا أكبر ولده ، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر ، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه ، فقال : الحمد لله إن الله لبصير بالعباد فأوحى الله إليه : إن عينيك تبصران ما ظهر ، وإني أطلع على ما في القلوب ليس بهذا ، اعرض عليّ غيره ، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول : ليس بهذا ، فقال : هل لك من ولد غيرهم ؟ فقال : بنيّ لي غلام وهو راع في الغنم . فقال : أرسل إليه فلما أن جاء داود جاء غلام أمعر ، فدهنه بدهن القدس ، وقال لأبيه : اكتم هذا ، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل ، فعسكر وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر ، وتهيئوا للقتال ، فأرسل جالوت إلى طالوت : لم تقتل قومي وأقتل قومك ؟ ابرز لي أو أبرز لي من شئت ، فإن قتلتك كان الملك لي ، وإن قتلتني كان الملك لك فأرسل طالوت في عسكر صائحا من يبرز لجالوت ، فإن قتله ، فإن الملك ينكحه ابنته ، ويشركه في ملكه . فأرسل إيشا داود إلى إخوته وكانوا في العسكر ، فقال : اذهب فردّ إخوتك ، وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا . فجاء إلى إخوته ، وسمع صوتا : إن الملك يقول : من يبرز لجالوت فإن قتله أنكحه الملك ابنته . فقال داود لإخوته : ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله ، وينكح ابنة الملك ؟ فقالوا : إنك غلام أحمق ، ومن يطيق جالوت وهو من بقية الجبارين ؟ فلما لم يرهم رغبوا في ذلك ، قال : فأنا أذهب فأقتله فانتهروه وغضبوا عليه . فلما غفلوا عنه ، ذهب حتى جاء الصائح ، فقال : أنا أبرز لجالوت . فذهب به إلى الملك ، فقال له : لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل هو هذا ؟ قال : يا بنيّ أنت تبرز لجالوت فتقاتله ؟ قال : نعم . قال : وهل آنست من نفسك شيئا ؟ قال : نعم ، كنت راعيا في الغنم ، فأغار عليّ الأسد ، فأخذت بلَحييه ففككتهما . فدعا له بقوس وأداة كاملة ، فلبسها وركب الفرس ، ثم سار منهم قريبا . ثم صرف فرسه ، فرجع إلى الملك ، فقال الملك ومن حوله : جبن الغلام فجاء فوقف على الملك ، فقال : ما شأنك ؟ قال داود : إن لم يقتله الله لي لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح ، فدعني فأقاتل كما أريد . فقال : نعم يا بنيّ . فأخذ داود مخلاته ، فتقلدها وألقى فيها أحجارا ، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به . ثم مضى نحو جالوت فلما دنا من عسكره ، قال : أين جالوت يبرز لي ؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله ، فلما رآه جالوت قال : إليك أبرز ؟ قال نعم . قال : فأتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى إلى الكلب ؟ قال : هو ذاك . قال : لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض . قال داود : أو يقسم الله لحمك . فوضع داود حجرا في مقلاعه ، ثم دوّره فأرسله نحو جالوت ، فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه ، فوقع من فرسه ، فمضى داود إليه ، فقطع رأسه بسيفه ، فأقبل به في مخلاته ، وبسلبه يجرّه ، حتى ألقاه بين يدي طالوت ، ففرحوا فرحا شديدا ، وانصرف طالوت . فلما كان داخل المدينة ، سمع الناس يذكرون داود ، فوجد في نفسه ، فجاءه داود ، فقال : أعطني امرأتي فقال : أتريد ابنة الملك بغير صداق ؟ فقال داود : ما اشترطت عليّ صداقا ، ومالي من شيء . قال : لا أكلفك إلا ما تطيق ، أنت رجل جريء ، وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس وهم غلف ، فإذا قتلت منهم مائتي رجل ، فأتني بغُلَفهم . فجعل كلما قتل منهم رجلاً نظم غلفته في خيط ، حتى نظم مائتي غلفة ، ثم جاء بهم إلى طالوت ، فألقى إليه ، فقال : ادفع لي امرأتي قد جئت بما اشترطت فزوّجه ابنته . وأكثر الناس ذكر داود ، وزاده عند الناس عجبا ، فقال طالوت لابنه : لتقتلنّ داود قال : سبحان الله ليس بأهل ذلك منك قال : إنك غلام أحمق ، ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك . فلما سمع ذلك من أبيه ، انطلق إلى أخته ، فقال لها : إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود ، فمريه أن يأخذ حذره ، ويتغيب منه . فقالت له امرأته ذلك فتغيب . فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود ، وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته . فلما جاء رسول طالوت قال : أين داود ؟ ليجب الملك فقالت له : بات شاكيا ونام الاَن ترونه على الفراش . فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك ، فمكث ساعة ثم أرسل إليه ، فقالت : هو نائم لم يستيقظ بعد . فرجعوا إلى الملك فقال : ائتوني به وإن كان نائما فجاءوا إلى الفراش ، فلم يجدوا عليه أحدا . فجاءوا الملك فأخبروه ، فأرسل إلى ابنته فقال : ما حملك على أن تكذبيني ؟ قالت : هو أمرني بذلك ، وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني . وكان داود فارّا في الجبل حتى قتل طالوت ، وملك داود بعده .

4حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كان طالوت أميرا على الجيش ، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فقال داود لطالوت : ماذا لي فأقتل جالوت ؟ قال : لك ثلث مالي ، وأنكحك ابنتي . فأخذ مخلاته ، فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سمى حجارته تلك إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ثم أدخل يده فقال : باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب فخرج على إبراهيم ، فجعله في مرجمته ، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه .

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : عبر يومئذٍ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر مع ثلاثة عشر ابنا له ، وكان داود أصغر بنيه . فأتاه ذات يوم فقال : يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته . فقال : أبشر يا بنيّ ، فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك ثم أتاه مرة أخرى قال : يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال ، فوجدت أسدا رابضا ، فركبت عليه ، فأخذت بأذنيه ، فلم يَهِجْنِي . قال : أبشر يا بنيّ ، فإن هذا خير يعطيكه الله ثم أتاه يوما آخر فقال : يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال ، فأسبح ، فما يبقى جبل إلا سبح معي . فقال : أبشر يا بنيّ ، فإن هذا خير أعطاكه الله .

وكان داود راعيا ، وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام . فأتى النبيّ بقرن فيه دهن وبثوب من حديد ، فبعث به إلى طالوت ، فقال : إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه ولا يسيل على وجهه ، يكون على رأسه كهيئة الإكليل ، ويدخل في هذا الثوب فيملؤه . فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم ، فلم يوافقه منهم أحد . فلما فرغوا ، قال طالوت لأبي داود : هل بقي لك من ولد لم يشهدنا ؟ قال : نعم ، بقي ابني داود ، وهو يأتينا بطعامنا . فلما أتاه داود مرّ في الطريق بثلاثة أحجار ، فكلمنه ، وقلن له : خذنا يا داود تقتل بنا جالوت قال : فأخذهن فجعلهن في مخلاته . وكان طالوت قال : من قتل جالوت زوّجته ابنتي ، وأجريت خاتمه في ملكي . فلما جاء داود وضعوا القَرْن على رأسه ، فغلى حتى ادهن منه ، ولبس الثوب فملأه ، وكان رجلاً مِسقاما مصفارّا ، ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه . فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تَنَقضّ . ثم مشى إلى جالوت ، وكان جالوت من أجسم الناس وأشدّهم فلما نظر إلى داود قُذِف في قلبه الرعبُ منه ، فقال له : يا فتى ارجع فإني أرحمك أن أقتلك قال داود : لا ، بل أنا أقتلك . فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة ، كلما رفع حجرا سماه ، فقال : هذا باسم أبي إبراهيم ، والثاني باسم أبي إسحاق ، والثالث باسم أبي إسرائيل . ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا ، ثم أرسله فصكّ به بين عيني جالوت ، فنقب رأسه فقتله . ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه تنفذ منه ، حتى لم يكن بحيالها أحد . فهزموهم عند ذلك ، وقتل داود جالوت . ورجع طالوت ، فأنكح داود ابنته ، وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود فأحبوه . فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده ، فأراد قتله . فعلم به داود أنه يريد به ذلك ، فسَجّى له زقّ خمر في مضجعه ، فدخل طالوت إلى منام داود ، وقد هرب داود فضرب الزقّ ضربة فخرقه ، فسالت الخمر منه ، فوقعت قطرة من خمر في فيه ، فقال : يرحم الله داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم ، فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها ، فقال : يرحم الله داود هو خير مني ، ظفرت به فقتلته ، وظفر بي فكفّ عني . ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس ، فقال طالوت : اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك ، فركض على أثره طالوت ، ففزع داود ، فاشتدّ فدخل غارا ، وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار نظر إلى بناء العنكبوت ، فقال : لو كان دخل ها هنا لخرق بيت العنبكوت ، فُخيّل إليه فتركه .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار . وإن جالوت برز لهم ، فنادي : ألا رجل لرجل فقال طالوت : من يبرز له ، وإلا برزت له . فقام داود فقال : أنا . فقام له طالوت فشدّ عليه درعه ، فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع . فعجب من ذلك طالوت ، فشدّ عليه أداته كلها . وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة فأصاب في القوم ، ثم رمى الثانية بحجر فأصاب فيهم ، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت . فآتاه الله الملك والحكمة ، وعلمه مما يشاء ، وصار هو الرئيس عليهم ، وأعطوه الطاعة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني ابن زيد في قول الله تعالى ذكره : ألَمْ تَرَ إلى المَلإِ مِنْ بَني إسْرَائِيلَ فقرأ حتى بلغ : فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ القِتالُ تَوَلّوْا إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بالظّالِمِينَ قال : أوحى الله إلى نبيهم إن في ولد فلان رجلاً يقتل الله به جالوت ، ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه ، فيفيض ماء . فأتاه فقال : إن الله أوحى إليّ أن في ولد فلان رجلاً يقتل الله به جالوت ، فقال : نعم يا نبيّ الله ، قال : فأخرج له اثني عشر رجلاً أمثال السواري ، وفيهم رجل بارع عليهم ، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا ، فيقول لذلك الجسيم : ارجع فيرده عليه ، فأوحى الله إليه : إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ، ولكن نأخذهم على صلاح قلوبهم ، قال : يا ربّ قد زعم أنه ليس له ولد غيره ، فقال : كذب ، فقال : إن ربي قد كذبك ، وقال : إن لك ولدا غيرهم ، فقال : صدق يا نبيّ الله ، لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس ، فجعلته في الغنم ، قال : فإين هو ؟ قال في شعب كذا وكذا من جبل كذا وكذا ، فخرج إليه ، فوجد الوادي قد سال بينه وبين التي كان يريح إليها قال : ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ، ولا يخوض بهما السيل ، فلما رآه قال : هذا هو لا شك فيه ، هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم ، قال : فوضع القرن على رأسه ففاض ، فقال له : ابن أخي هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك ؟ قال : نعم إذا سبحت ، سبحت معي الجبال ، وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة قمت إليه ، فأفتح لَحييه عنها فلا يهيجني ، وألفى معه صُفْنَه ، قال : فمرّ بثلاثة أحجار يأثر بعضها على بعض : كل واحد منها يقول : أنا الذي يأخذ ، ويقول هذا : لا بل إياي يأخذ ، ويقول الاَخر مثل ذلك ، قال : فأخذهنّ جميعا ، فطرحهنْ في صفنه فلما جاء مع النبيّ صلى الله عليه وسلم وخرجوا قال لهم نبيهم : إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكا فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه ، وقرأ حتى بلغ : وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ قال : واجتمع أمرهم وكانوا جميعا ، وقرأ : وَانْصُرْنا على القَوْمِ الكافِرينَ وبرز جالوت على برذون له أبلق ، في يده قوس ونشاب ، فقال : من يبرز ؟ أبرزوا إليّ رأسكم ، قال : ففظع به طالوت ، قال : فالتفت إلى أصحابه فقال : من رجل يكفيني اليوم جالوت ، فقال داود أنا ، فقال تعال ، قال : فنزع درعا له ، فألبسه إياها ، قال : ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه ، قال : فرمي بُنشابة ، فوضعها في الدرع ، قال : فكسرها داود ولم تضرّه شيئا ثلاث مرات ، ثم قال له : خذ الاَن ، فقال داود : اللهمّ اجعله حجرا واحدا ، قال : وسمى واحدا إبراهيم ، وآخر إسحاق ، وآخر يعقوب ، قال : فجمعهنّ جميعا فكنّ حجرا واحدا ، قال : فأخذهنّ وأخذ مقلاعا ، فأدارها ليرمي بها ، فقال : أترميني كما ترمي السبع والذئب ، ارمني بالقوس ، قال : لا أرميك اليوم إلا بها ، فقال له مثل ذلك أيضا ، فقال نعم ، وأنت أهون عليّ من الذب ، فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله ، قال : فخلى سبيلها مأمورة ، قال : فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه ، ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا ، وهزمهم الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما قطعوا ذلك ، يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالت لجنوده : إنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بَنَهَرٍ وجاء جالوت وشقّ على طالوت قتاله ، فقال طالوت للناس : لو أن جالوت قتل أعطيت الذي يقتله نصف ملكي ، وناصفته كل شيء أملكه ، فبعث الله داود ، وداود يومئذٍ في الجبل راعي غنم ، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود ، وهم أندّ منه وأعتى منه ، وأعرف في الناس منه ، وأوجه عند طالوت منه ، فغزا وتركوه في غنمهم ، فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى وأكرمه : لأستودعنّ ربي غنمي اليوم ، ولاَتين الناس ، فلأنظرنّ ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت ، فأتى داود إخوته ، فلاموه حين أتاهم ، فقالوا : لم جئت ؟ قال : لأقتل جالوت ، فإن الله أن أقتله ، فسخروا منه .

قال ابن جريج : قال مجاهد : كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى آخوته ، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سماهن إبراهيم وإسحاق ويعقوب .

قال ابن جريج : قالوا : وهو ضعيف رثّ الحال ، فمرّ بثلاثة أحجار ، فقلن له : خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت . فأخذهنّ داود وألقاهنّ في مخلاته ، فلما ألقاهنّ سمع حجرا منهنّ يقول لصاحبه : أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا وقال الثاني : أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا وقال الثالث : أنا حجر داود الذي أقتل جالوت ، فقال الحجران : يا حجر دود نحن أعوان لك ، فصرن حجرا واحدا وقال الحجر : يا داود اقذف بي فإني سأستعين بالريح ، وكانت بيضته فيما يقولون والله أعلم فيها ستمائة رطل ، فأقع في رأس جالوت فأقتله .

قال ابن جريج : وقال مجاهد : سمى واحدا إبراهيم ، والاَخر إسحاق ، والاَخر يعقوب ، وقال : باسم إليه وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وجعلهنّ في مِرْجمته .

قال ابن جريج : فانطلق حتى نفذ إلى طالوت ، فقال : إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملك . أفلي ذلك إن قتلته ؟ قال : نعم ، والناس يستهزءون بداود ، وإخوة داود أشدّ من هنالك عليه ، وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده ، فإذا لم تكن قَدَرا عليه نزعها عنها ، وكانت درعا سابغة من دروع طالوت ، فألبسها داود فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم ، فتقدم داود ، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد وعليه الدرع ، فقال له جالوت : ويحك من أنت إني أرحمك ، ليتقدم إليّ غيرك من هذه الملوك ، أنت إنسان ضعيف مسكين ، فارجع ، فقال داود : أنا الذي أقتلك بإذن الله ، ولن أرجع حتى أقتلك ، فلما أبى داود إلا قتاله ، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه ، فأخرج الحجر من المخلاة ، فدعا ربه ، ورماه بالحجر ، فألقت الريح بيضته عن رأسه ، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه ، فقتله .

قال ابن جريج : وقال مجاهد : لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه ، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا ، قال الله تعالى : وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ فقال داود لطالوت : وفّ بما جعلتَ ، فأبى طالوت أن يعطيه ذلك ، فانطلق داود ، فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل ، حتى مات طالوت فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود ، فجاءوه به ، فملكوه ، وأعطوه خزائن طالوت ، وقالوا : لم يقتل جالوت إلا نبيّ ، قال الله : وَقَتَلَ دَاوُدُ جالُوتَ وآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ .

القول في تأويل قوله تعالى : وآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ . يعني تعالى ذكره بذلك : وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه ممّا يشاء . والهاء في قوله : وآتاهُ اللّهُ عائدة على داود والملك السلطان والحكمة النبوّة . وقوله : وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ يعني علمه صنعة الدروع ، والتقدير في السرد ، كما قال الله تعالى ذكره : وعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأسِكُمْ .

وقد قيل : إن معنى قوله : وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ أن الله آتى داود ملك طالوت ونبوّة أشمويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : ملك داود بعدما قتل طالوت ، وجعله الله نبيّا ، وذلك قوله : وآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَةَ قال : الحكمة : هي النبوّة ، آتاه نبوّة شمعون ، وملك طالوت .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَىَ الْعَالَمِينَ .

يعني تعالى ذكره بذلك : ولولا أن الله يدفع ببعض الناس ، وهم أهل الطاعة له والإيمان به ، بعضا وهم أهل المعصية لله ، والشرك به ، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له وقد أعطاهم ما سألوا ربهم ابتداء من بعثة ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر ، جالوت وجنوده ، لفسدت الأرض ، يعني لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم ، ففسدت بذلك الأرض ، ولكن الله ذو منّ على خلقه ، وتطوّل عليهم بدفعه بالبرّ من خلقه عن الفاجر ، وبالمطيع عن العاصي منهم ، وبالمؤمن عن الكافر .

وهذه الآية إعلام من الله تعالى ذكره أهل النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخلفين عن مشاهده والجهاد معه للشك الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم والمشركين وأهل الكفر منهم ، وأنه إنما يدفع عنهم معاجلتهم العقوبة ، على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله ، الذين هم أهل البصائر ، والجدّ في أمر الله ، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعده على جهاد أعدائه ، وأعداء رسوله من النصر في العاجر ، والفوز بجناته في الاَخرة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجحي ، عن مجاهد في قول الله : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ يقول : ولولا دفع الله بالبارّ عن الفاجر ، ودفعه ببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لفسدت الأرض بهلاك أهلها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ يقول : ولولا دفاع الله بالبرّ عن الفاجر ، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض لهلك أهلها .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حنظلة ، عن أبي مسلم ، قال : سمعت عليّا يقول : لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : وَلَوْلاَ دَفْعَ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ يقول : لهلك من في الأرض .

4حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا حفص بن سليمان ، عن محمد بن سوقة ، عن وبرة بن عبد الرحمن ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُؤْمِنِ الصّالِحِ عَنْ مائَةٍ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانهِ الْبَلاَءَ » ثم قرأ ابن عمر : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ .

4حدثني أحمد أبو حميد الحمصي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ لَيُصْلِحُ بِصَلاح الرّجُلِ الْمُسْلِمِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأَهْلَ دُوَيْرَتِهِ وَدُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ ، وَلاَ يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ » . وقد دللنا على قوله العالمين ، وذكرنا الرواية فيه .

وأما القراء فإنها اختلفت في قراءة قوله : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ . فقرأته جماعة من القراء : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ على وجه المصدر من قول القائل : دفع الله عن خلقه ، فهو يدفع دفعا . واحتجت لاختيارها ذلك بأن الله تعالى ذكره ، هو المتفرّد بالدفع عن خلقه ، ولا أحد يدافعه فيغالبه . وقرأت ذلك جماعة أخرى من القراء : «وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللّهِ النّاسَ » على وجه المصدر من قول القائل : دافع الله عن خلقه ، فهو يدافع مدافعة ودفاعا . واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرا من خلقه يعادون أهل دين الله ، وولايته والمؤمنين به ، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم لله مدافعون بباطلهم ، ومغالبون بجهلهم ، والله مدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به .

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القراء وجاءت بهما جماعة الأمة ، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالة معنى الاَخر . وذلك أن من دافع غيره عن شيء ، فمدافعه عنه دافع ، ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع ، فهو لمدافعه مدافع ولا شكّ أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده ، محاولين مغالبة حزب الله وجنده ، وكان في محاولتهم ذلك محاولة مغالبة الله ودفاعه ، عما قد تضمن لهم من النصرة ، وذلك هو معنى مدافعة الله عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه . فتبين إذا أن سواء قراءة من قرأ : وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض وقراءة من قرأ : وَلَوْلا دِفاعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ في التاويل والمعنى .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

{ فهزموهم بإذن الله } فكسروهم بنصره ، أو مصاحبين لنصره إياهم إجابة لدعائهم . { وقتل داود جالوت } قيل كان إيشا في عسكر طالوت معه ستة من بنيه ، وكان داود سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم ، فأوحى الله إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت له : إنك بنا تقتل جالوت ، فحملها في مخلاته ورماه بها فقتله ثم زوجه طالوت بنته . { وآتاه الله الملك } أي ملك بني إسرائيل ولم يجتمعوا قبل داود على ملك . { والحكمة } أي النبوة . { وعلمه مما يشاء } كالسرد وكلام الدواب والطير . { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين } ولولا أنه سبحانه وتعالى يدفع بعض الناس ببعض وينصر المسلمين على الكفار ويكف بهم فسادهم ، لغلبوا وأفسدوا في الأرض ، أو لفسدت الأرض بشؤمهم . وقرأ نافع هنا وفي الحج " دفاع الله " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

وقد أشارت الآية في قوله : { فهزموهم } إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة ، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشاً فيه ثلاثة آلاف رجل ، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار ، ولم يعبروا الأردن ، ووجم طالوت واستخار صمويل ، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلاّ نحو ستمائة رجل ، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسرائيل ، وتشجع الذين جبنوا واختبأوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة ، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة ، ظهر داود بن يسى اليهودي إذ أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسى في بيت لحم ويمسح أصغر أبناء يسى ليكون ملكاً على إسرائيل بعد حين ، وساق الله داود إلى شاول ( طالوت ) بتقدير عجيب فحظى عند شاول ، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه ، وكان ذا شجاعة ونشاط وحسن سمت ، وله نبوغ في رمي المقلاع ، فكان ذات يوم التقى الفلسطينيون مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جُلْيَات كما تقدم ، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه ، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيون ، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود ، وصار داود بعد حين ملكاً عوض شاول ، ثم آتاه الله النبوءة فصار ملكاً نبيئاً ، وعلمه مما يشاء .

ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى : { وتلك حجتنا أتيناها إبراهيم على قومه } في سورة الأنعام ( 83 ) .

{ وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } .

ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية ، وقبل إدراك ما في مطاويها ، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله : { وقال لهم نبيهم } [ البقرة : 247 ] وما بعده من رؤوس الآي . وعدل عن المتعارف في أمثالها من ترك العطف ، وسلوك سبيل الاستئناف .

وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب ( ولولا دفاع الله الناس ) بصيغة المفاعلة ، وقرأه الجمهور ( دفع ) بصيغة المجرد .

والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة ، كقول موسى بن جابر الحنفي :

لا أشتهي يا قوم إلاّ كارهاً *** باب الأمير ولا دفاع الحاجب

وإضافته إلى الله مجاز عقلي كما هو في قوله : { إن الله يدفع عن الذين آمنوا } [ الحج : 38 ] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه ، ولذلك قال : { بعضهم ببعض } فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام . قال :

* فدفعتها فتدافعت *

وهو ذب عن مصلحة الدافع . ومعنى الآية : أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضاً آخر بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض ، أي من على الأرض ، واختل نظام ما عليها ، ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف ، خلقها قابلة للاضمحلال ، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ، ولذلك نجد قانون الخَلَفية منبثاً في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلاّ وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافاً عن الأفراد عند اضمحلالها ، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان ، والبذر في النبت ، والنضح في المعادن ، والتولد في العناصر الكيماوية . ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجِدها قد أراد بقاء الأنواع ، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة ، لاختلال أو انعدام صلاحيتها ، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها ، وقد تقدم لنا تفسير قوله : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] .

ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع ، أودع في الأفراد أيضاً قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة ، وهي قوى تطلُّب الملائم ودفع المنافي ، أو تطلُّب البقاء وكراهية الهلاك ، ولذلك أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها ، بدون تأمل أو بتأمل ، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها ، كانسياق الوليد لالتهام الثدي ، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي ، ثم تتوسع هذه الإدراكات ، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد ، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية .

وأودع أيضاً في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ، ودفع العوادي عنها ، عن غير بصيرة ، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه ، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ، ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يُتوقع منه الضر ، ومن طلب الكِن ، واتخاذ السلاح ، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك ، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة المدافعة اشتداداً عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان . وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها ، وقد عَوَّضَ الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقلَ والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضرراً ، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به ، وهو المعبر عنه بالاستعداد .

ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع ، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر ، فهذا ناموس عام ، وجعل الإنسان بما أودَعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع . وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص ، وبما في أفراد نوعه من الفوائد . فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ، ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرَطتْ أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضاً . وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف ، ويهلك الأقوى القويَّ ، وتذهب الأفراد تباعاً ، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلاّ أقوى الأفراد من أقوى الأنواع ، وذلك شيء قليل ، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه ، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه ، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض ، أو من أنواع أخر ، كحاجة الإنسان إلى البقرة ، فيذهب هدراً .

ولما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي ، خصتهُ الآية بالكلام فقالت : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه ، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه ، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع ؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له .

وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ، وهو ظاهر ، وسلامة الضعيف أيضاً لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك ، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة . وإنما كان الحاصل هو الفساد ، لولا الدفاع ، دون الصلاح ، لأن الفساد كثيراً ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن ، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة ، لأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها ، بخلاف النفوس الصالحة ، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها ، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها ، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات ، فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين ، لأسرع ذلك في فساد حالهم ، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت .

وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب ؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره ، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل ، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق ، والإنحاء على الظالمين ، وهزم الكافرين .

ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضاً يصد المفسد عن محاولة الفساد ، ونفس شعور المفسد بتأهب غيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمة .

ومعنى فساد الأرض : إما فساد الجامعة البشرية كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس ، أي لفسد أهل الأرض ، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك ، والتقدير : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض أي من على الأرض ولفسد الناس .

والآية مسوقة مساق الامتنان ، فلذلك قال تعالى : { لفسدت الأرض } لأنا لا نحب فساد الأرض ، إذ في فسادها بمعنى فساد ما عليها اختلالُ نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا ، ولذلك عقبه بقوله : { ولكن الله ذو فضل على العالمين } فهو استدراك مما تضمنته « لولا » من تقدير انتفاء الدفاع ؛ لأن أصل لولا لو مع لا النافية ، أي لو كان انتفاءُ الدفاع موجوداً لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب ( لولا ) من ( لو ) و ( لا ) ، إذ لا يتم الاستدراك على قوله : { لفسدت الأرض } لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع ، إن قلنا « لولا » حرف امتناع لوجود .

وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ} (251)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت. وفي هذا الكلام متروك ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه.

وذلك أن معنى الكلام: ولما برزوا لجالوت وجنوده، قالوا:"ربنا أفرغ علينا صبرا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" فاستجاب لهم ربهم، فأفرغ عليهم صبره، وثبت أقدامهم ونصرهم على القوم الكافرين، فهزموهم بإذن الله. ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله: "فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّهِ "على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به.

"فَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللّهِ": قتلوهم بقضاء الله وقدره. وَقَتَل دَاوُدُ جالُوتَ، وداود هذا هو داود نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.

"وآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ والْحِكْمَةَ وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ": وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه ممّا يشاء. والهاء في قوله: "وآتاهُ اللّهُ" عائدة على داود والملك السلطان، والحكمة: النبوّة. "وَعَلّمَهُ مِمّا يَشَاءُ": يعني علمه صنعة الدروع، والتقدير في السرد، كما قال الله تعالى ذكره: "وعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأسِكُمْ".

"وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسِ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَىَ الْعَالَمِينَ": ولولا أن الله يدفع ببعض الناس، وهم أهل الطاعة له والإيمان به، بعضا وهم أهل المعصية لله، والشرك به، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له وقد أعطاهم ما سألوا ربهم ابتداء من بعثة ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوت وجنوده، "لفسدت الأرض": يعني لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض، ولكن الله ذو منّ على خلقه، وتطوّل عليهم بدفعه بالبرّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر.

وهذه الآية إعلام من الله تعالى ذكره أهل النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخلفين عن مشاهده والجهاد معه للشك الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم والمشركين وأهل الكفر منهم، وأنه إنما يدفع عنهم معاجلتهم العقوبة، على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله، الذين هم أهل البصائر، والجدّ في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعده على جهاد أعدائه، وأعداء رسوله من النصر في العاجلة، والفوز بجناته في الآخرة.

وأما القراء فإنها اختلفت في قراءة قوله: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ". فقرأته جماعة من القراء: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ" على وجه المصدر من قول القائل: دفع الله عن خلقه، فهو يدفع دفعا. واحتجت لاختيارها ذلك بأن الله تعالى ذكره، هو المتفرّد بالدفع عن خلقه، ولا أحد يدافعه فيغالبه. وقرأت ذلك جماعة أخرى من القراء: «وَلَوْلاَ دِفَاعُ اللّهِ النّاسَ» على وجه المصدر من قول القائل: دافع الله عن خلقه، فهو يدافع مدافعة ودفاعا. واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرا من خلقه يعادون أهل دين الله، وولايته والمؤمنين به، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم لله مدافعون بباطلهم، ومغالبون بجهلهم، والله مدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به.

والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القراء وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالة معنى الاَخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء، فمدافعه عنه دافع، ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه مدافع ولا شكّ أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده، محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولة مغالبة الله ودفاعه، عما قد تضمن لهم من النصرة، وذلك هو معنى مدافعة الله عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فتبين إذا أن سواء قراءة من قرأ: "وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض" وقراءة من قرأ: "وَلَوْلا دِفاعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ" في التأويل والمعنى.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت}... قيل: {بإذن الله} بنصر الله [وهو أقرب، والله أعلم]...

{وآتاه الله الملك والحكمة} فالملك يحتمل علم الحرب وسياسة القتل؛ إذ لم يكونوا يقاتلون إلا تحت أيدي الملوك، وهو كقوله: {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} [ص: 30] ويحتمل الملك بما عقد له من الخلافة كقوله: {يا داوود إنا جعلناك خلفية في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}

[ص: 26]. {وآتاه الله الملك والحكمة} الأمرين [ما كان] من قرب زمانه على ما عليه ابتداء [الآية] أن الملك يكون غير نبي، فجمعنا له، فيكون على ذلك تأويل الحكمة أنها النبوة...

[و] اختلف في قوله: {لفسدت الأرض}؛ قيل: لو لم يدفع بعضهم لقتل بعضهم بعضا وأهل فريق فريقا، وفي ذلك تفانيهم وفسادهم، وفي ذلك فساد الأرض، وقال آخرون... أراد بفساد أهلها لأنه لو لم يدفع لغلب المشركون على أراضي الإسلام وأهلها؛ فإذا غلبوا فسد أهلها. وقال... إذا غلب المشركون عليها هدمت المساجد والصوامع؛ ففيه فساد الأرض، والله اعلم.

وقوله: {ولكن الله ذو فضل على العالمين} يدفع ذلك كله عن المسلمين...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الهزم: الدفع، تقول: هزم القوم في الحرب يهزمهم هزما: إذا دفعهم بالقتال هربا منه، وانهزموا انهزاما...

{وآتاه الله الملك والحكمة} قيل في معناه قولان: أحدهما... أنه اختصه من علم السمع بحكمة لم يؤتها غيره.

{وعلمه مما يشاء} معناه أنه علمه أمور الدين وما يشاء من أمور الدنيا، منها صنعة الدرع وعمل السرد، ذكره الزجاج، والطبري.

فان قيل: ما الفائدة في قوله: {وعلمه مما يشاء} إذا كنا لا ندري ما الذي شاء من ذلك؟ قيل هو تعالى وإن لم يشرح لنا ما علمه فقد بين لنا أنه خصه من العلم بعد علم الدين بما لم يؤته غيره، لان غيره من المؤمنين إنما نعلم ما دله الله عليه من أمر دينه ودنياه، وكان داود مساويا لهم في ذلك إن لم يكن أكثرهم علما فيه، لأنه كان مؤمنا مثلهم، وكان معهم في أمورهم، فلما بين لنا {آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} بعد قتل جالوت، علمنا أنه كان خصه بما ذكره من الملك والحكمة، وخصه منه بما لم يخص به أحدا سواه.

اللغة: وأصل الدفع: الصرف عن الشيء...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

هيب الله الأعداء بطالوت لما زاده من البسطة في الجسم ولكن عند القتال جعل الظفر على يدي داود...

{فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ}. فلم يبق منهم أثر ولا عين، وقتل داودُ جالوتَ، وداود بالإضافة إلى جالوت في الضخامة والجسامة كان بحيث لا تُتَوهَم غلبته إياه

{وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ}. لو تظاهر الخلْق وتوافقوا بأجمعهم لهلك المستضعفون لغلبة الأقوياء ولكن شغل بعضهم ببعض ليدفع بتشاغلهم شرَّهم عن قوم.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

ولولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون وفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. وقيل: ولولا أن الله ينصر المسلمين على الكفار لفسدت الأرض بعبث الكفار فيها وقتل المسلمين. أو لو لم يدفعهم بهم لعمّ الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع والمدفوع به، فقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم} إشارة إلى المدفوع، وقوله: {ببعض} إشارة إلى المدفوع به، فأما المدفوع عنه فغير مذكور في الآية، فيحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين ويحتمل أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدنيا، ويحتمل أن يكون مجموعهما.

أما القسم الأول: وهو أن يكون المدفوع عنه الشرور في الدين، فتلك الشرور إما أن يكون المرجع بها إلى الكفر، أو إلى الفسق، أو إليهما، فلنذكر هذه الاحتمالات.

الاحتمال الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى فإنهم الذين يمنعون الناس عن الوقوع في الكفر بإظهار الدلائل والبراهين والبينات قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور}.

والاحتمال الثاني: أن يكون المراد: ولولا دفع الله بعض الناس عن المعاصي والمنكرات بسبب البعض، وعلى هذا التقدير فالدافعون هم القائمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما قال تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} ويدخل في هذا الباب: الأئمة المنصوبون من قبل الله تعالى لأجل إقامة الحدود وإظهار شعائر الإسلام ونظيره قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن السيئة} وفي موضع آخر: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} الاحتمال الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج والمرج وإثارة الفتن في الدنيا بسبب البعض.

واعلم أن الدافعين على هذا التقدير هم الأنبياء عليهم السلام، ثم الأئمة والملوك الذابون عن شرائعهم، وتقريره: أن الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، لأنه ما لم يخبز هذا لذاك ولا يطحن ذاك لهذا، ولا يبني هذا لذاك، ولا ينسج ذاك لهذا، لا تتم مصلحة الإنسان الواحد، ولا تتم إلا عند اجتماع جمع في موضع واحد، فلهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، ثم إن الاجتماع بسبب المنازعة المفضية إلى المخاصمة أولا، والمقاتلة ثانيا، فلا بد في الحكمة الإلهية من وضع شريعة بين الخلق، لتكون الشريعة قاطعة للخصومات والمنازعات، فالأنبياء عليهم السلام الذين أوتوا من عند الله بهذه الشرائع هم الذين دفع الله بسببهم وبسبب شريعتهم الآفات عن الخلق فإن الخلق ما داموا يبقون متمسكين بالشرائع لا يقع بينهم خصام ولا نزاع، فالملوك والأئمة متى كانوا يتمسكون بهذه الشرائع كانت الفتن زائلة، والمصالح حاصلة. فظهر أن الله تعالى يدفع عن المؤمنين أنواع شرور الدنيا بسبب بعثة الأنبياء عليهم السلام واعلم أنه كما لا بد في قطع الخصومات والمنازعات من الشريعة فكذا لا بد في تنفيذ الشريعة من الملك...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم رتب على ذلك النتيجة حثاً على الاقتداء بهم لنيل ما نالوا فقال عاطفاً على ما تقديره: فأجاب الله سبحانه وتعالى دعاءهم: {فهزموهم} مما منه الهزيمة وهو فرار من شأنه الثبات -قاله الحرالي، وقال: ولم يكن فهزمهم الله، كما لهذه الأمة في {ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17]...

{بإذن الله} أي الذي له الأمر كله. ثم بين ما خص به المتولي لعظم الأمر بتعريض نفسه للتلف في ذات الله سبحانه وتعالى من الخلال الشريفة الموجبة لكمال الحياة الموصلة إلى البقاء السرمدي فقال: {وقتل داود} وكان في جيش طالوت {جالوت} قال الحرالي: مناظرة قوله {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] {وكان فضل الله عليك عظيماً}...

{وآتاه الله} بجلاله وعظمته {الملك} قال الحرالي: كان داود عليه الصلاة والسلام عندهم من سبط الملك فاجتمعت له المزيتان من استحقاق البيت وظهور الآية على يديه بقتل جالوت، قال تعالى: {والحكمة} تخليصاً للملك مما يلحقه بفقد الحكمة من اعتداء الحدود... فكان داود عليه الصلاة والسلام أول من جمع له بين الملك والنبوة. {وعلمه} أي زيادة مما يحتاجان إليه {مما يشاء} من صنعة الدروع وكلام الطير وغير ذلك.

ولما بين سبحانه وتعالى هذه الواقعة على طولها هذا البيان الذي يعجز عنه الإنس والجان، بين حكمة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ما هو أعم من ذلك من تسليط بعض الناس على بعض بسبب أنه جبل البشر على خلائق موجبة للتجبر وطلب التفرد بالعلو المفضي إلى الاختلاف فقال- بانياً له على ما تقديره: فدفع الله بذلك عن بني إسرائيل ما كان ابتلاهم به -: {ولولا دفع الله} المحيط بالحكمة والقدرة بقوته وقدرته

{الناس} وقرئ: دفاع. قال الحرالي: فعال من اثنين وما يقع من أحدهما دفع وهو رد الشيء بغلبة وقهر عن وجهته التي هو منبعث إليها بأشد منته، وهو أبلغ من الأول إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يفعل في ذلك فعل المبالغ.

ولما أثبت سبحانه وتعالى أن الفعل له خلقاً وإيجاداً بيّن أنه لعباده كسباً ومباشرة فقال: {بعضهم ببعض} فتارة ينصر قويهم على ضعيفهم كما هو مقتضى القياس، وتارة ينصر ضعيفهم -كما فعل في قصة طالوت- على قويهم حتى لا يزال ما أقام بينهم من سبب الحفظ بهيبة بعضهم لبعض قائماً {لفسدت الأرض} بأكل القوي الضعيف حتى لا يبقى أحد {ولكن الله} تعالى بعظمته وجلاله وعزته وكماله يكف بعض الناس ببعض ويولي بعض الظالمين بعضاً وقد يؤيد الدين بالرجل الفاجر على نظام دبّره وقانون أحكمه في الأزل يكون سبباً لكف القوي عن الضعيف إبقاء لهذا الوجود على هذا النظام إلى الحد الذي حده ثم يزيل الشحناء على زمن عيسى عليه الصلاة والسلام ليتم العلم بكمال قدرته واختياره وذلك من فضله على عباده وهو {ذو فضل} عظيم جداً {على العالمين} أي كلهم أولاً بالإيجاد وثانياً بالدفاع فهو يكف من ظلم الظلمة إما بعضهم ببعض أو بالصالحين وقليل ما هم ويسبغ عليهم غير ذلك من أثواب نعمه ظاهرة وباطنة...

ولعل ختام قصص بني إسرائيل بهذه القصة لما فيها للنبي صلى الله عليه وسلم من واضح الدلالة على صحة دعواه الرسالة لأنها مما لا يعلمه إلا القليل من حذاق علماء بني إسرائيل ثم عقبها بآية الكرسي التي هي العلم الأعظم من دلائل التوحيد فكان ذلك في غاية المناسبة لما في أوائل السورة في قوله تعالى "يا أيها الناس اعبدوا ربكم "[البقرة: 21] إلى آخر تلك الآيات من دلائل التوحيد المتضمنة لدلائل النبوة المفتتح بها قصص بني إسرائيل فكانت دلائل التوحيد مكتنفة قصتهم أولها وآخرها مع ما في أثنائها جرياً على الأسلوب الحكيم في مناضلة العلماء ومجادلة الفضلاء...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

بين تعالى حكمة الإذن بالقتال الذي قررته الآيات فقال: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} قرأ نافع "دفاع الله "والباقون "دفع الله" أي لولا أن الله تعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق وأهل الفساد في الأرض بأهل الإصلاح فيها. لغلب أهل الباطل والإفساد في الأرض وبغوا على الصالحين وأوقعوا بهم، حتى يكون لهم السلطان وحدهم، فتفسد الأرض بفسادهم، فكان من فضل الله على العالمين وإحسانه إلى الناس أجمعين، أن أذن لأهل دينه الحق المصلحين في الأرض، بقتال المفسدين فيها من الكافرين والبغاة المعتدين، فأهل الحق حرب لأهل الباطل في كل زمان، والله ناصرهم ما نصروا الحق وأرادوا الإصلاح في الأرض...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم {فهزموهم بإذن الله وقتل داود} عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، {جالوت} أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره {وآتاه الله} أي: آتى الله داود {الملك والحكمة} أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال {وعلمه مما يشاء} من العلوم الشرعية والعلوم السياسية... وقد كان من قبله من الأنبياء يكون الملك لغيرهم، فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا الله آمنين مطمئنين لخذلان أعدائهم وتمكينهم من الأرض، وهذا كله من آثار الجهاد في سبيله، فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه

{ولكن الله ذو فضل على العالمين} حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وكانت النتيجة هي التي ترقبوها واستيقنوها: {فهزموهم بإذن الله}.. ويؤكد النص هذه الحقيقة: {بإذن الله}.. ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علما. وليتضح التصور الكامل لحقيقة ما يجري في هذا الكون، ولطبيعة القوة التي تجريه.. إن المؤمنين ستار القدرة؛ يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار.. بإذنه.. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه.. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين.. إنه عبد الله. اختاره الله لدوره. وهذه منة من الله وفضل. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقق قدر الله النافذ. ثم يكرمه الله -بعد كرامة الاختيار- بفضل الثواب.. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب.. ثم إنه مستيقن من نبل الغاية وطهارة القصد ونظافة الطريق.. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي، إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة قائم بما يريد. استحق هذا كله بالنية الطيبة والعزم على الطاعة والتوجه إلى الله في خلوص. ويبرز السياق دور داود: (وقتل داود جالوت).. وداود كان فتى صغيرا من بني إسرائيل. وجالوت كان ملكا قويا وقائدا مخوفا.. ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها. وحقائقها يعلمها هو. ومقاديرها في يده وحده. فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم.. وكانت هنالك حكمة أخرى مغيبة يريدها الله. فلقد قدر أن يكون داود هو الذي يتسلم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل؛ جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود: {وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء}.. وكان داود ملكا نبيا، وعلمه الله صناعة الزرد وعدة الحرب مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى.. أما في هذا الموضع فإن السياق يتجه إلى هدف آخر من وراء القصة جميعا.. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة لا للقوة المادية، وللإرادة المستعلية لا للكثرة العددية.. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى.. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات.. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير بالكفاح مع الشر: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض. ولكن الله ذو فضل على العالمين} وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض من اصطراع القوى وتنافس الطاقات وانطلاق السعي في تيار الحياة المتدفق الصاخب الموار. وهنا تتكشف على مد البصر ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس، في تدافع وتسابق وزحام إلى الغايات.. ومن ورائها جميعا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعا، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف.. لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبدا يقظة عاملة، مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة.. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء.. يكون بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة. تعرف الحق الذي بينه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحا. وتعرف أنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض. وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعة لله وابتغاء لرضاه... وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح هي العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوة الخيرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه. وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدر لها في الحياة. ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر. ذلك أنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة. إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{فهزموهم بإذن الله} الفاء هنا للسببية، أي أنه بسبب قوة عزائمهم، وحسن صبرهم واتجاههم إلى ربهم ضارعين أن يلهمهم الصبر عند اللقاء، والثبات عند الزحف، والنصر في النهاية لأنه المالك لكل شيء، بسبب كل هذا هزموهم بإذن الله، أي بتوفيقه سبحانه وإرادته وهدايته، وإمداده سبحانه بعونه بعد اتخاذهم الأسباب كلها...

و قد ذكر سبحانه العناصر التي ترشح للسلطان وحكم الناس، فكانت قوة الجسم، والحكمة والعلم، ولذا قال سبحانه بعد ذكره قتله لجالوت: {و آتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها والتدبير المحكم على وفق العلم، فالحكمة تقتضي صفتين ذاتيتين في الشخص: عقلا مدركا نافذا بصيرا يرى بواطن الأمور ويتغلغل في أعماقها، وإرادة محكمة تجعل العمل يتلاقى مع الفكر الصحيح والإدراك السليم، فلا يكون سلطان يعارض دواعي العقل، وأحكام الفكر السليم، فليس بحكيم من يبادر بالحكم على الأشياء من غير دراسة عميقة مستقصية، وليس بحكيم من يكون عمله على غير ما تقتضيه قواعد الفكر المستقيم.

و لقد ذكر سبحانه أنه علم داود مما يشاء أي علمه علما كثيرا واسعا مما شاء أن يعلمه. فقوله تعالى: {مما يشاء} يشير إلى سعة العلم، وإنه كثير متشعب لا تحده إلا مشيئة الله وإرادته. فعلمه سبحانه سياسة الملك، وأحوال الناس، ومنازع النفوس، وأحوال البلدان وما تنتجه من خيرات، وغير ذلك، وكان تعليم الله سبحانه وتعالى له بالنبوة التي أفاضها سبحانه وتعالى عليه، والتجارب التي ساقها الله إليه، والذخيرة التي بين يديها من أحوال الحاكمين السابقين، والهداة المرشدين، وما أوتيه من علم التوراة، والأخبار الصحاح عن النبيين السابقين، وفي كل ذلك هداية وإرشاد إلى أقوم مناهج الحكم الصحيح. تلك هي عناصر الحكم الصالح، لابد أن يكون الحاكم قويا في جسمه، بحيث لا يخذل جسمه إرادته، فكثيرا ما يكون ضعف الإرادة من ضعف الجسم، وضعف التدبير من تخاذل القوى البدنية عن الاحتمال.

ولكن قد تكون الإرادة القوية والعزيمة الماضية في جسم ضعيف، وفي هذه الحال قد يستغنى عن ذلك العنصر إن لم يوجد شخص تتوافر فيه قوة النفس وقوة الجسم معا، فالاعتبار الأول لقوة النفس، وقوة الجسم خادمة لقوة النفس وليست مقصودة لذاتها.

و العنصر الثاني هو الحكمة: وهي كما رأيت جعل العمل يسير مع العقل فلا تتحكم الأهواء والشهوات، وآفة الحكم الصالح هوى الحاكم، فإن غلبت رغبته عقله غلب الفساد حكمه، فليختبر كل حاكم نفسه، فإن رأى أهواءه هي المسيطرة فليعلم أن الشر قد استحكم، وأنه أولى به ثم أولى أن يعتزل، وإن وجد عقله هو المسيطر فليعلم أن الله أجرى عليه التوفيق.

و العنصر الثالث: الإحاطة التامة بمصالح الناس وأحوالهم، فإن الحكم عمل للمصلحة، وليس سيطرة وتحكما، ومن ظنه سيطرة وتحكما فهو ممن طمس الله بصيرته، وغلبت عليه شهوته، ثم غلبت عليه شقوته...

إن فرق ما بين الحكم الصالح وغير الصالح دقيق في معناه، وإن كان الأثر كبيرا في مبناه، فالحكم الصالح أساسه أن يكون الحكم لمصلحة المحكوم وإجابة لرغبته، والحكم غير الصالح أساسه أن يكون الحكم تحكما في المحكوم، فمن تحكم في الرعية ولو باسم مصلحتها، فقد سلك سبيل الفساد؛ لأن التحكم ينبعث من الرغبة في السيطرة، ولو لبس لبوس المصلحة. والسيطرة تسلط، والتسلط في ذاته فساد يؤدي لا محالة إلى فساد، ويؤدي إلى موت الإرادات في الجماعة، وفي ذلك إضعاف لقوتها. و أما الحكم المنبعث من إرادة الجماعة الذي يقودها لمصلحتها، فهو يؤدي إلى الصلاح لا محالة، وإن تعثر في أخطاء أحيانا؛ لأنه من الخطأ يتعلم الناس الصواب، ومن الخط المعوج يعرف الخط المستقيم...

[ثم] ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: {ولكن الله ذو فضل على العالمين}. و قد دل ذلك الختام الكريم على ثلاثة أمور:

أولها: أن ذلك التنظيم الحكيم هو من فضل الله ورحمته، وإنعامه على خلقه، وليس ذلك بواجب عليه سبحانه، وذلك لأنه خلق الناس، وخلق معهم عقولا يعرفون بها خيرهم وشرهم، فإن ساروا في طريق الخير والفلاح فلهم ما قصدوا إليه، وإن ساروا في طريق الشر والفساد فإلى الهاوية يسيرون، وعليهم وبال أمرهم، وعاقبة عملهم إنما هو من فضله، وقد دل على ذلك الاستدراك بقوله تعالى: {ولكن الله ذو فضل} ووصف ذلك بأنه فضل من رب العالمين خالق الناس أجمعين.

الأمر الثاني: فضل الله سبحانه وتعالى الكثير، ووصفه سبحانه بأنه ذو فضل، وقد دل على كثرة الفضل التنكير في قوله تعالى: {ذو فضل} أي ذو فضل كثير، لا يدرك الناس قدره، ولا يعرف كنهه، ولا يحد بمقدار حتى يعرف ويعين بالتعريف.

الأمر الثالث: أن النعمة التي أنعم الله بها على خلقه من دفع الفساد ينعم بها المؤمنون والمشركون، والأشرار والأبرار؛ لأن الفساد إذا عم لا يسلم منه أحد، والخير إذا تحقق عم الجميع، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى: {على العالمين} فلم يقل على المؤمنين أو المتقين، بل عم الخير على الناس أجمعين للإشارة إلى ذلك المعنى الجليل.

هذه قصة بني إسرائيل الذين غلبوا على أمرهم ثم بدلوا من الذلة عزة، وهي قصة تكشف عن سنن الاجتماع والحروب، وأمثل طرق الحكم. فمن سنن الله في الجماعات التي أشارت إليها الآيات أن الجماعة إن غلبت على أمرها، وسامها الغالب الخسف والهوان تحفزت قوى آحاد منها للحياة، فطلبوها عزيزة كريمة، فإذا طالبوا اتجهوا إلى قيادة تجمع أمرهم، وتنظم شئونهم، ثم ساروا تحت لواء تلك القيادة، وقد تصارعت عوامل الضعف مع دوافع العزة، فإن كان الصبر كان معه النصر، وإن ضاقوا بأمرهم كان الخذلان، وضربت عليهم الذلة إلى يوم القيامة.

و من سنن الله في الحروب التي استبانت من القصة أن النصر يكون عند اتحاد العزائم وتلاقي القلوب، وأخذ الأهبة، والصبر الثبات، وأن النصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بالعزيمة الماضية والثبات والصبر، والمعونة من الله العلي القدير، وأن الحق في ذاته قوة إن آمن به صاحبه، وأراده عزيزا كريما غير ذليل. و لقد سن سبحانه في هذا القصص الطريق لاختيار الحكام، فبين أن الحاكم لا يختار لنسب رفيع، ولا يختار لمال وفير، ولكن يختار لقدرته على القيام بأعباء الحكم من قوة في نفسه، وقدرة على الاستيلاء على أهوائه وشهواته، وعلم غزير بشئون الاجتماع وأحوال الناس، ومن تجارب هادية إلى الحق في الأمور، وإخلاص ينير الطريق والبصائر، وليس الحكم عطاء يعطى، ولكنه ابتلاء وأعباء. و إن الحاكم الذي تجتمع القلوب حوله هو حكم الجماعة، والحاكم مظهرها، وإن قتل الحاكم أو مات أقامت الجماعة مثله، أو خيرا منه، أما الحاكم المتسلط المتجبر فإنه جامع للناس على رغباته، فإن قتل أو مات تفرق الجمع وولى الأدبار. وهذه إشارات إلى العبر في ذلك القصص الحكيم...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وتختم الآيات الكريمة هذه القصة بتقرير مبدأ أساسي للحياة أقامته الحكمة الإلهية لضمان التعايش السلمي بين البشر، وفرض التعاون بينهم على عمارة الأرض وصلاحها، وهذا المبدأ هو مبدأ حفظ التوازن بين القوى المتصارعة، وبث الخوف والحذر في الجبهات المتنافسة، حتى يحسب بعضها الحساب للبعض الآخر، فيصدهم ذلك عن الطغيان والعدوان، ويتمكن الإنسان من تحقيق رسالته في الأرض، التي هي رسالة الإصلاح والعمران...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

إن الحق يبلغنا أنه قد نصر المؤمنين به. ويجيء الحق بكلمة {هزموهم} وهي تدل على فرار من كان يجب أن يكون مهاجما. والمحارب يجب أن يكون مهاجما كاراً دائما، فحين يلجأ إلى أن يفر، هنا نتوقف لنتبين أمره، هل هذا الفرار تحرفا لقتال وانعطافا وميلا إلى موقف آخر هو أصلح للقتال فيه؟ لو كان الأمر كذلك فلا تكون الهزيمة، لكن إذا كان الفرار لغير كر ومخادعة للعدو بل كان للخوف هنا تكون الهزيمة.

وقول الله: {فهزموهم بإذن الله} يدل على أن جنود جالوت لم يُقتلوا كلهم، ولكن الذين قتلوا هم أئمة الكفر فيهم، بدليل قوله بعد ذلك: {وقتل داود جالوت}. وجالوت هو زعيم جيش الكفار الذي هرب، فطارده داود وقتله.

ولأول مرة يظهر لنا اسم {داود} في هذه القصة الطويلة، وهو اسم لم يكن عندنا فكرة عنه من قبل، وستأتي الفكرة عنه بعد هذه القصة في قوله تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد 10 أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير 11} (سورة سبأ)... إذن فبداية داود جاءت من هذه المعركة بعد قتل جالوت... قائد المشركين، وشاءت حكمة الله أن يكون أصغر المؤمنين هو الذي يقتل كبير جيش المشركين. كانت هذه المعركة بداية تاريخ داود، وقد جاءت له هذه المعركة بالفتح العظيم، ثم أنعم الله عليه بالملك والحكمة وجعل الجبال والطير تردد وترجع معه تسبيح الله وتنزيهه، كل ذلك نتيجة قتل جالوت. وأحب داود الدرع وصار أمله أن يعلّمه الله صناعة الدروع، ولذلك لم يتخذ صنعة في حياته إلا عمل الدروع. وجعل الله له الحديد ليّناً ليصنع منه ما يشاء كما جاء في قوله تعالى: {وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} (من الآية 80 سورة الأنبياء). وهذا دليل على أن الإنسان يحب الشيء الذي له صلة برفعة شأنه...

{وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} إن الحق يأتي هنا بقضية كونية في الوجود، وهي أن الحرب ضرورة اجتماعية، وأن الحق يدفع الناس بالناس. وأنه لولا وجود قوة أمام قوة لفسد العالم؛ فلو سيطرت قوة واحدة في الكون لفسد... فالذي يعمر الكون هو أن توجد فيه قوى متكافئة؛ قوة تقابلها قوة أخرى. ولذلك نجد العالم دائما محروسا بالقوتين العظميين، ولو كانت قوة واحدة لعم الضلال. ولو تأملنا التاريخ منذ القدم لوجدنا هذه الثنائية في القوى تحفظ الاستقرار في العالم...

{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، نعم تفسد الأرض فيما جعل الله للإنسان يداً فيه، أما الشيء الذي لم يجعل الله للإنسان يداً فيه فستظل النواميس كما هي لا يؤثر فيها أحد، فلا أحد يؤثر في الشمس أو القمر أو الهواء أو المطر، إنما الفساد جاء فيما للإنسان فيه يد. انظر إلى الكون، إنك تجد المسائل التي لا دخل للإنسان فيها مستقيمة على أحسن ما يكون، وإنما يأتي الفساد من النواحي التي تدخّل فيها الإنسان بغير منهج الله. ولو أن الإنسان دخل فيها بمنهج الله لاستقامت الأمور كما استقامت النواميس العليا تماما.

[ف] في سورة الرحمن قوله تعالى: {والسماء رفعها ووضع الميزان 7}. ومادام الحق قد رفع السماء ووضع الميزان، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام محكم تماما، الشمس تطلع من الشرق وتغرب في الغرب، والقمر والنجوم تسير في منتهى الدقة والإبداع، لأنه لا دخل لأحد من البشر فيه. فإن أردتم أن تصلح حياتكم، وأن تستقيم أموركم كما استقامت هندسة السماء والأرض فخذوا الميزان من السماء في أعمالكم، واتبعوا القول الحق: {والسماء رفعها ووضع الميزان 7 ألا تطغوا في الميزان 8 وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسروا الميزان 9} (سورة الرحمن). ومادمتم قد رأيتم أن الأمور الموجودة التي تسير بنظام لا تتحكمون فيه تعمل باستقامة وترون أن الفساد قد جاء من ناحية الأمور التي دخلتم فيها، فلماذا لا نتبع منهج الله في الأمور التي لنا دخل فيها...

إن السماء لا تقع على الأرض لأنها محكومة بنظام محكم تماما. والأرض لا تدور بعيدا عن فلكها؛ لأن خالقها قد قدّر لها النظام المحكم تماما. ولهذا يقول الحق سبحانه عن نظام الكواكب في الكون: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون 40} (سورة يس)...

ومادام الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان ومنحه الاختيار، وبعض الناس اختار مذهباً، والبعض الآخر اختار مذهبا مضادا، وكل من المذهبين خارج عن منهج الله، فالحق سبحانه وتعالى يترك الفئتين للتقاتل والتناحر. ولأنه سبحانه ذو رحمة على العالمين، يبقى عناصر الخير في الوجود، لعل أحداً يرى ويتنبه ويتلفت ويذهب ليأخذها. فعندما تطغى جماعة يأتي لهم الحق بجماعة يردّونهم، حتى تبقى عناصر الخير في الوجود لعل إنساناً يأتي ليأخذ عنصراً منها يحرك به حياته، وصاحب الخير إنما يأتي من فضل الله على العالمين...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكنّ الله ذو فضل على العالمين}. فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تفشي الفساد وسريانه في المجتمع البشري قاطبة. وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والاختيار وأنّ الإنسان حرٌّ في اختيار طريق الخير أو الشر، ولكن عندما يتعرّض العالم إلى الفساد والاندثار بسبب طغيان الطّواغيت، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده. وشبيه هذا المعنى ورد في آية 40 من سورة الحج (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد...)...