ثم ذكر ما أعد اللّه لهم من الثواب فقال : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ } جامعة لكل نعيم وفرح ، خالية من كل أذى وترح ، تجري من تحت قصورها ودورها وأشجارها الأنهار الغزيرة ، المروية للبساتين الأنيقة ، التي لا يعلم ما فيها من الخيرات والبركات إلا اللّه تعالى .
{ خَالِدِينَ فِيهَا } لا يبغون عنها حِوَلًا { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } قد زخرفت وحسنت وأعدت لعباد اللّه المتقين ، قد طاب مرآها ، وطاب منزلها ومقيلها ، وجمعت من آلات المساكن العالية ما لا يتمنى فوقه المتمنون ، حتى إن اللّه تعالى قد أعد لهم غرفا في غاية الصفاء والحسن ، يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها .
فهذه المساكن الأنيقة ، التي حقيق بأن تسكن إليها النفوس ، وتنزع إليها القلوب ، وتشتاق لها الأرواح ، لأنها في جنات عدن ، أي : إقامة لا يظعنون عنها ، ولا يتحولون منها .
{ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ } يحله على أهل الجنة { أَكْبَرُ } مما هم فيه من النعيم ، فإن نعيمهم لم يطب إلا برؤية ربهم ورضوانه عليهم ، ولأنه الغاية التي أمَّها العابدون ، والنهاية التي سعى نحوها المحبون ، فرضا رب الأرض والسماوات ، أكبر من نعيم الجنات .
{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } حيث حصلوا على كل مطلوب ، وانتفى عنهم كل محذور ، وحسنت وطابت منهم جميع الأمور ، فنسأل اللّه أن يجعلنا معهم بجوده .
ثم فصل - سبحانه - مظاهر رحمته للمؤمنين والمؤمنات أصحاب تلك الصفات السابقة فقال : { وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
أى : { وَعَدَ الله } بفضله وكرمه { المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أى : من تحت بساتينها وأشجارها وقصورها { خَالِدِينَ فِيهَا } في تلك الجنات خلودا أبديا .
ووعدهم كذلك " مساكن طيبة " أى : منازل حسنة ، تنشرح لها الصدور وتستطيبها النفوس .
وقوله : { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أى في جنات ثابتة مستقرة .
يقال : فلان عدن بمكان كذا ، إذا استقر به وثبت فيه ، ومنه سمى المعدن معدنا لاستقراره في باطن الأرض .
وقيل : إن كلمة " عدن " علم على مكان مخصوص في الجنة ، أى في جنات المكان المسمى بهذا الاسلام وهو " عدن " .
ثم بشرهم - سبحانه - بما هو أعظم من كل ذلك فقال : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } .
أى أن المؤمنين والمؤمنات ليس لهم هذه الجنات والمساكن الطيبة فحسب وإنما لهم ما هو أكبر من ذلك وأعظم وهو رضا الله - تعالى - عنهم ، وتجليه عليهم ، وتشرفهم بمشاهدة ذاته الكريمة ، وشعورهم بأنهم محل رعاية الله وكرمه .
والتنكير في قوله : { وَرِضْوَانٌ } للتعظيم والتهويل ، وللإِشارة إلى أن الشئ اليسير من هذا الراض الإلهى على العبد ، أكبر من الجنات ومن المساكن الطيبة ، ومن كل حطام الدنيا .
روى الشيخان عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله - عز وجل - يقول لأهله الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك . فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يار رب ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقو : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا ربنا وأى شئ أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدا " .
وروى البزار في مسنده عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله - تعالى - هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟
قالوا : يا ربنا وما خير مما أعطيتنا ؟ قال : رضوانى أكبر " .
وقوله : { } أى : ذلك الذي وعد الله به المؤمنين والمؤمنات في جنات ومساكن طيبة ، ومن رضا من الله عنهم ، هو الفوز العظيم الذي لا يقاربه فوز ، ولا يدانيه نعمي ، ولا ياسمى شرفه شرف . .
وبهذا نرى أن هاتين الآيتين الكريمتين قد شبرتا المؤمنين والمؤمنات بأعظم البشارات ، ووصفتهم بأشرف الصفات ، وقابلت بين جزائهم وبين جزاء الكفار والمنافقين ، بما يحمل العاقل على أن يسلك طريق المؤمنين ، وعلى أن ينهج نهجهم ، ويتحلى بأوصافهم . . . وبذلك يفوز بنعيم الله ورضاه كما فازوا ، ويسعد كما سعدوا ، وينجو من العذاب الذي توعد الله به المنافقين والكافرين : بسبب اصرارهم على الكفر والنفاق ، وإيثارهم الغىّ على الرشد .
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين ، وكانت لعنته لهم بالمرصاد ، وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضآلة والحرمان . فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين :
( جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ) . .
للإقامة المطمئنة . ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم :
وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم .
إن لحظة اتصال باللّه . لحظة شهود لجلاله . لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج ، ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة . لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعه من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار . لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح اللّه . . إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء ، ليتضاءل إلى جوارها كل متاع ، وكل رجاء . . فكيف برضوان من اللّه يغمر هذه الأرواح ، وتستشعره بدون انقطاع ?
القول في تأويل قوله تعالى : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله وأقرّوا به وبما جاء به من عند الله من الرجال والنساء جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ يقول : بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار ، خالِدِينَ فِيها يقول : لابثين فيها أبدا مقيمين لا يزول عنهم نعيمها . ولا يبيد . وَمَساكِنَ طَيّبَةً يقول : ومنازل يسكنونها طيبة .
و«طيبها » ، أنها فيما ذُكر لنا كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن الحسن ، قال : سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى : وَمَساكِنَ طَيّبَةٍ في جَنّاتٍ عَدْنٍ فقالا : على الخبير سقطت ، سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «قَصْرٌ فِي الجَنّةِ مِنْ لُؤْلُؤٍ ، فِيهِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، في كُلّ دارٍ سَبْعُونَ بَيْنا مِنْ زُمُرّدَةٍ خَضْرَاءَ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا » .
حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، قال : حدثنا قرة بن حبيب ، عن حسن بن فرقد ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين وأبي هريرة ، قالا : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : وَمَساكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ قال : «قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ ، فِي ذلكَ القَصْرِ سَبْعُونَ دَارا مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، فِي كُلّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتا مِنْ زَبَرْجَدَة خَضْرَاءَ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرا ، على كُلّ سَرِيرٍ فِرَاشا مِنْ كُلّ لَوْنٍ ، على كُلّ فِرَاشٍ زَوْجَةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائِدَةً ، على كُلّ مائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنا مِنْ طَعامٍ ، في كُلّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وَصِيفَةً وَيُعْطَى المُؤْمِنُ مِنَ القُوّةِ في غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ ما يَأتي على ذلكَ كُلّه أجْمَعُ » .
وأما قوله : فِي جَنّاتِ عَدْنٍ فإنه يعني : وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جلّ ثناؤه في جنات عدن وفي من صلة مساكن . وقيل : جنات عدن ، لأنها بساتين خلد وإقامة لا يظعن منها أحد . وقيل : إنما قيل لها جنات عدن ، لأنها دار الله التي استخلصها لنفسه ولمن شاء من خلقه ، من قول العرب : عدن فلان بأرض كذا ، إذا أقام بها وخلد بها ، ومنه المعدن ، ويقال : هو في معدن صدق ، يعني به أنه في أصل ثابت وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى :
وَإنْ تَسْتَضِيفُوا إلى حُكْمِهِ *** تُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ
وكالذي قلنا في ذلك ، كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر يتأوّلونه .
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، قال : حدثنا عتاب بن بشير ، عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : جَنّاتِ عَدْنِ قال : معدن الرجل الذي يكون فيه .
حدثنا محمد بن سهل بن عسكر ، قال : حدثنا ابن أبي مريم ، قال : حدثنا الكندي ، سعد عن زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ يَفْتَحُ الذّكْرَ ثَلاثِ ساعاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللّيْلِ : في السّاعَةِ الأُولى مِنْهُنّ يَنْظُرُ فِي الكِتَابِ الّذِي لا يَنْظُرُ فِيهِ أحَدٌ غيرُهُ فَيَمْحُو ما يَشاءُ ويُثْبِتُ ، ثُمّ يَنْزِلُ في السّاعَةِ الثّانِيَةِ إلى جَنّةِ عَدْنِ ، وَهيَ دَارُهُ التي لَمْ تَرَها عَيْنٌ ولَمْ تَخْطُرْ على قَلْبِ بَشَرٍ ، وَهِيَ مَسْكَنُهُ ، وَلا يَسْكُنُ مَعُهُ مِنْ بَنِي آدَمِ غيرَ ثلاثَة : النّبِيّينَ وَالصّدّيقينَ والشّهَدَاءِ ، ثُمّ يَقُولُ : طُوبَى لِمَنْ دَخَلَكِ » وَذَكَرَ فِي السّاعَةِ الثّالِثَةِ .
حدثني موسى بن سهل ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، قال : حدثنا زيادة بن محمد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَدْنٌ دارُهُ » يعني دار الله «التي لم ترها عَيْنٌ ولم تَخْطُرْ على قَلْبٍ بَشَرٍ ، وهي مَسْكَنُهُ ، ولا يسكنها معه من بني آدم غَيْرُ ثلاثٍ : النبيين ، والصدّيقين ، والشهداء ، يقول الله تبارك وتعالى : طُوبَى لمن دَخَلَكَ » .
وقال آخرون : معنى جَنّاتِ عَدْنٍ : جنات أعناب كروم . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي ، قال : حدثنا زكريا بن عديّ ، قال : حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد ابن أبي أنيسة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحرث ، أن ابن عباس سأل كَعَبا عن جنات عدن ، فقال : هي الكروم والأعناب بالسريانية .
وقال آخرون : هي اسم لُبْطَنان الجنة ووسطها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، عن عبد الله بن مرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : عدن : بُطْنان الجنة .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان وشعبة ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، في قوله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة . قال ابن بشار في حديثه : فقلت : ما بطنانها ؟ وقال ابن المثنى ، في حديثه : فقلت للأعمش : ما بطنان الجنة ؟ قال : وسطها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة وأبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة .
قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله ، بمثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عدّي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، مثله .
حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى وعبد الله بن مرّة عنهما جميعا ، أو عن أحدهما ، عن مسروق ، عن عبد الله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود في قول الله : جَنّاتِ عَدْنٍ قال : بُطْنان الجنة .
وقال آخرون : عدن : اسم لقصر . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن سعيد الكندي ، قال : حدثنا عبدة أبو غسان ، عن عون بن موسى الكناني ، عن الحسن ، قال : جنات عدن ، وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل . ورفع به صوته .
حدثنا أحمد بن أبي سريج ، قال : حدثنا عبد الله بن عاصم ، قال : حدثنا عون بن موسى ، قال : سمعت الحسن بن أبي الحسن ، يقول : جنات عدن ، وما أدراك ما جنات عدن قصر من ذهب ، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق ، أو شهيد ، أو حكم عدل ورفع الحسن به صوته .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا حماد بن سلمة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن في الجنة قصرا يقال له : عدن ، حوله البروج والروح ، له خمسون ألف باب على كل باب حِبَرَة ، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق .
حدثنا الحسن بن ناجح ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، قال : سمعت يعقوب بن عاصم يحدّث ، عن عبد الله بن عمرو : أن في الجنة قصرا يقال له عدن ، له خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبَرَة ، لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد .
وقيل : هي مدينة الجنة . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن عبد الرحمن المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : في جَنّاتِ عَدْنٍ قال : هي مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد ، والجنات حولها .
وقيل : إنه اسم نهر . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن المحاربي ، عن واصل بن السائب الرقاشي ، عن عطاء ، قال : عدن : نهر في الجنة ، جناته على حافتيه .
وأما قوله : وَرِضْوانٌ مِنَ اللّهِ أكْبَرُ فإن معناه ورضا الله عنهم أكبر من ذلك كله ، وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن مالك بن أنس ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ اللّهَ يَقُولُ لأَهْلِ الجَنّةِ : يا أهْلَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ : لَبّيْكَ رَبّنا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ : هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولونَ : ومَا لَنا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا ما لَمْ تُعْطِ أحَدا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقول أنا أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذلكَ قالُوا : يا رَبّ وأيّ شَيْ أفْضَلُ مِنْ ذلكَ ؟ قال : أُحِلّ عَلَيْكُمْ رِضْوَاني فَلا أسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبَدا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثني يعقوب ، عن حفص ، عن شمر ، قال : يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب إلى الرجل ، حين ينشقّ عنه قبره ، فيقول : أبشر بكرامة الله ، أبشر برضوان الله فيقول مثلك من يبشر بالخير ومن أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي كنت أسْهِر ليلك ، وأظمىء نهارك . فيحمله على رقبته ، حتى يوافى به ربه ، فيمثل بين يديه ، فيقول : يا ربّ عبدك هذا اجزه عني خيرا ، فقد كنت أسهر ليله ، وأظمىء نهاره ، وآمره فيطيعني ، وأنهاه فيطيعني فيقول الربّ تبارك وتعالى : فله حلة الكرامة فيقول : أي ربّ زده ، فإنه أهل ذلك فيقول : فله رضواني قال : ورضوان من الله أكبر .
وابتدىء الخبر عن رضوان الله للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جلّ ثناؤه ، فرفع ، وإن كان الرضوان فيما قد وعدهم ، ولم يعطف به في الإعراب على الجنات والمساكن الطيبة ، ليعلم بذلك تفضيل الله رضوانه عن المؤمنين على سائر ما قسم لهم من فضله وأعطاهم من كرامته ، نظير قول القائل في الكلام الاَخر أعطيتك ووصلتك بكذا ، وأكرمتك ، ورضاي بعد عنك أفضل ذلك .
ذلكَ هُوَ الفَوُزُ العَظِيمُ هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات ، هو الفوز العظيم ، يقول : هو الظفر العظيم والنجاء الجسيم ، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد ، ونجوا من الهوان في السفر ، فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه .
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيّبة } تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر . { في جنات عدن } إقامة وخلود . وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك . ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع ، أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه أولا بأنه من جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ، ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ، ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال { ورضوان من الله أكبر } لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء ، وعنه صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأي شيء من ذلك فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا . { ذلك } أي الرضوان أو جميع ما تقدم . { هو الفوز العظيم } الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها .
وقوله تعالى { وعد الله المؤمنين } الآية ، وعد في هذه الآية صريحة في الخير ، وقوله { من تحتها } إما من تحت أشجارها وإما من تحت علياتها وإما من تحتها بالإضافة إلى مبدأ كما تقول في دارين متجاورتين متساويتي المكان هذه تحت هذه ، وذكر الطبري في قوله { ومساكن طيبة } عن الحسن أنه قال سألت عنها عمران بن الحصين وأبا هريرة ، فقالا على الخبير سقطت ، سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً{[5778]} ، ونحو هذا مما يشبه هذه الألفاظ أو يقرب منها فاختصرتها طلب الإيجاز ، وإما قوله { في جنات عدن } فمعناه في جنات إقامة وثبوت يقال عدن الشيء في المكان إذا أقام به وثبت ، ومنه المعدن أي موضع ثبوت الشيء ، ومنه قول الأعشى :
وإن يستضيفوا إلى حلمه*** يضافوا إلى راجح قد عدن{[5779]}
هذا الكلام اللغوي ، وقال كعب الأحبار { جنات عدن } هي بالفارسية جنات الكروم والأعناب .
قال القاضي أبو محمد : وأظن هذا وهماً اختلط بالفردوس ، وقال الضحاك { جنات عدن } هي مدينة الجنة وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد ، والجنات حولها ، وقال ابن مسعود : «عدن » هي بطنان الجنة وسرتها{[5780]} ، وقال عطاء : «عدن » نهر في الجنة جناته على حافته ، وقال الحسن : «عدن » قصر في الجنة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل ومد بها صوته .
قال القاضي أبو محمد : والآية تأبى هذا التخصيص إذ قد وعد الله بها جمع المؤمنين ، وأما قوله { ورضوان من الله أكبر } فروي فيه أن الله عز وجل يقول لعباده إذ استقروا في الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون وكيف لا نرضى يا ربنا ؟ فيقول إني سأعطيكم أفضل من هذا كله ، رضواني أرضى عليكم فلا أسخط عليكم أبداً ، الحديث{[5781]} ، وقوله { أكبر } يريد أكبر من جميع ما تقدم ، ومعنى الآية والحديث متفق ، وقال الحسن بن أبي الحسن وصل إلى قلوبهم برضوان الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة .
قال القاضي أبو محمد : ويظهر أن يكون قوله تعالى : { ورضوان من الله أكبر } إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تسنيم{[5782]} والذين يرون كما يرى النجم الفائز في الأفق ، وجميع من في الجنة راض والمنازل مختلفة ، وفضل الله تعالى متسع و { الفوز } النجاة والخلاص ومن { أدخل الجنة فقد فاز }{[5783]} والمقربون هم في الفوز العظيم ، والعبارة عندي عن حالهم بسرور وكمال أجود من العبارة عنها بلذة ، واللذة أيضاً مستعملة في هذا .