{ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا } أي : قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات ، { وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أي : تقر بهم أعيننا .
وإذا استقرأنا حالهم وصفاتهم عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يروهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة لهم فقالوا : { هَبْ لَنَا } بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين لأن بصلاح من ذكر يكون سببا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم .
{ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } أي : أوصلنا يا ربنا إلى هذه الدرجة العالية ، درجة الصديقين والكمل من عباد الله الصالحين وهي درجة الإمامة في الدين وأن يكونوا قدوة للمتقين في أقوالهم وأفعالهم يقتدى بأفعالهم ، ويطمئن لأقوالهم ويسير أهل الخير خلفهم فيهدون ويهتدون .
ومن المعلوم أن الدعاء ببلوغ شيء دعاء بما لا يتم إلا به ، وهذه الدرجة -درجة الإمامة في الدين- لا تتم إلا بالصبر واليقين كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهم أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فهذا الدعاء يستلزم من الأعمال والصبر على طاعة الله وعن معصيته وأقداره المؤلمة ومن العلم التام الذي يوصل صاحبه إلى درجة اليقين ، خيرا كثيرا وعطاء جزيلا وأن يكونوا في أعلى ما يمكن من درجات الخلق بعد الرسل .
ثم ذكر - سبحانه - فى نهاية الحديث عنهم أنهم لا يكتفون بهذه المناقب الحميدة التى وهبهم الله إياها ، وإنما هم يتضرعون إليه - سبحانه - أن يجعل منهم الذرية الصالحة ، وأن يرزقهم الزوجات الصالحات . فقال - تعالى - : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
أى : يقولون فى دعائهم وتضرعهم يا { رَبَّنَا هَبْ لَنَا } بفضلك وجودك { مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } أى : ما يجعل عيوننا تسر بهم ، ونفوسنا تنشرح برؤيتهم ، وقلوبنا تسكن وتطمئن وجودهم ، لأنهم أتقياء صالحون مهتدون .
{ واجعلنا } يا ربنا { لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أى : اجعلنا قدوة وأسوة للمتقين .
يقتدون بنا فى أقوالنا الطيبة ، وأعمالنا الصالحة ، فأنت تعلم - يا مولانا - أننا نعمل على قدر ما نستطيع فى سبيل إرضائك وفى السير على هدى رسولك صلى الله عليه وسلم . هذه هى صفات عباد الرحمن ذكرها القرآن فى هذه الآيات الكريمة ، وهى تدل على قوة إيمانهم ، وصفاء نفوسهم ، وطهارة قلوبهم . . . فماذا أعد الله - تعالى - لهم ؟
وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما ؛ وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها ، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم ، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم ؛ فتقر بهم عيونهم ، وتطمئن بهم قلوبهم ، ويتضاعف بهم عدد ( عباد الرحمن )ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه :
( والذين يقولون : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ، واجعلنا للمتقين إماما ) . .
وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق : شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله . وفي أولهم الذرية والأزواج ، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال . والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير ، يأتم به الراغبون في الله . وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً } .
يقول تعالى ذكره : والذين يرغبون إلى الله في دعائهم ومسألتهم بأن يقولوا : رَبّنا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا ما تقرّ به أعيننا من أن تريناهم يعملون بطاعتك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ يعنون : من يعمل لك بالطاعة ، فتقرّ بهم أعيننا في الدنيا والاَخرة .
حدثني أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا حزم ، قال : سمعت كثيرا سأل الحسن ، قال : يا أبا سعيد ، قول الله هَبْ لَنا مِن أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ في الدنيا والاَخرة ، قال : لا بل في الدنيا ، قال : وما ذاك ؟ قال : المؤمن يرى زوجته وولده يطيعون الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : قرأ حضرمي : رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : وإنما قرّة أعينهم أن يروهم يعملون بطاعة الله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج فيما قرأنا عليه في قوله : هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يعبدونك فيحسنون عبادتك ، ولا يجرون الجرائر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج ، قوله رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يعبدونك يحسنون عبادتك ، ولا يجرّون علينا الجرائر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ قال : يسألون الله لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام .
حدثنا محمد بن عون ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، قال : ثني أبي ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير ، عن أبيه ، قال : جلسنا إلى المقداد بن الأسود ، فقال : لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالة بُعث عليها نبيّ من الأنبياء في فترة وجاهلية ، ما يرون دينا أفضل من عبادة الأوثان ، فجاء بفرقان فَرَق به بين الحقّ والباطل ، وفَرّق بين الوالد وولده ، حتى إنْ كان الرجل ليرى ولده ووالده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه بالإسلام ، فيعلم أنه إن مات دخل النار ، فلا تقرّ عينه ، وهو يعلم أن حبيبه في النار ، وإنها للتي قال الله : وَالّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنا هَبْ لَنا مِنْ أزْوَاجِنا وَذُرّيّاتِنا قُرّةَ أعْيُنٍ . . . الاَية .
حدثني ابن عون ، قال : ثني عليّ بن الحسن العسقلانيّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن صفوان ، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير ، عن أبيه ، عن المقداد ، نحوه .
وقيل : هب لنا قرّة أعين ، وقد ذكر الأزواج والذريات وهم جمع ، وقوله : قُرّة أعْيُنٍ واحدة ، لأن قوله : قرّة أعين مصدر من قول القائل : قرّت عينك قرّة ، والمصدر لا تكاد العرب تجمعه .
وقوله : وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : اجعلنا أثمة يَقتَدِي بنا من بعدنا . ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثني عون بن سلام ، قال : أخبرنا بشر بن عمارة عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : وَاجْعَلْنا للمْتّقِينَ إماما يقول : أئمة يُقتدى بنا .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما أثمة التقوى ولأهله يقتدى بنا . قال ابن زيد : كما قال لإبراهيم : إني جاعِلُكَ للنّاس إماما .
وقال آخرون : بل معناه : واجعلنا للمتقين إماما : نأتمّ بهم ، ويأتمّ بنا من بعدنا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَاجْعَلْنا للْمُتّقِين إماما قال : أئمة نقتدي بمن قبلنا ، ونكون أئمة لمن بعدنا .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن أبن أبي نجيح ، عن مجاهد وَاجْعَلْنا للمُتّقِينَ إماما قال : اجعلنا مؤتمين بهم ، مقتدين بهم .
قال أبو جعفر : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : واجعلنا للمتقين الذين يتقون معاصيك ، ويخافون عقابك إماما يأتمون بنا في الخيرات ، لأنهم إنما سألوا ربهم أن يجعلهم للمتقين أئمة ، ولم يسألوه أن يجعل المتقين لهم إماما ، وقال وَاجْعَلْنا للْمُتّقِينَ إماما ولم يقل أئمة . وقد قالوا : واجعلنا وهم جماعة ، لأن الإمام مصدر من قول القائل : أمّ فلان فلانا إماما ، كما يقال : قام فلان قياما ، وصام يوم كذا صياما . ومن جمع الإمام أئمة ، جعل الإمام اسما ، كما يقال : أصحاب محمد إمام ، وأئمة للناس . فمن وحّد قال : يأتمّ بهم الناس . وهذا القول الذي قلناه في ذلك قول بعض نحويّي أهل الكوفة . وقال بعض أهل البصرة من أهل العربية : الإمام في قوله : للْمُتّقِينَ إماما جماعة ، كما تقول : كلهم عُدُول . قال : ويكون على الحكاية ، كما يقول القائل إذا قيل له : من أميركم : هؤلاء أميرنا . واستشهد لذلك بقول الشاعر :
يا عاذِلاتي لا تُرِدْنَ مَلامَتِي *** إنّ العَوَاذلَ لَسْنَ لي بأمِيرِ