40- يا أيها المؤمنون ، إن لم تنصروا رسول الله فإن الله كفيل بنصره ، كما أيَّدَه ونصره حينما اضطره الذين كفروا إلى الخروج من مكة . وليس معه إلا رفيقه أبو بكر ، وكان ثاني اثنين ، وبينما هما في الغار مختفين من المشركين الذين يتعقبونهما خشي أبو بكر على حياة الرسول ، فقال له الرسول مطمئناً : لا تحزن فإن الله معنا بالنصر والمعونة . عند ذلك أنزل الله الطمأنينة في قلب صاحبه ، وأيَّد الرسول بجنود من عنده ، لا يعلمها إلا هو سبحانه . وانتهي الأمر{[82]} بأن جعل شوكة الكافرين مفلولة ودين الله هو الغالب ، والله متصف بالعزة فلا يقهر ، وبالحكمة فلا يختل تدبيره .
{ 40 } { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
أي : إلا تنصروا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فاللّه غني عنكم ، لا تضرونه شيئا ، فقد نصره في أقل ما يكون وأذلة { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } من مكة لما هموا بقتله ، وسعوا في ذلك ، وحرصوا أشد الحرص ، فألجؤوه إلى أن يخرج .
{ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } أي : هو وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه . { إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } أي : لما هربا من مكة ، لجآ إلى غار ثور{[371]} في أسفل مكة ، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب .
فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة ، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما ، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال .
{ إِذْ يَقُولُ } النبي صلى الله عليه وسلم { لِصَاحِبِهِ } أبي بكر لما حزن واشتد قلقه ، { لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } بعونه ونصره وتأييده .
{ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : الثبات والطمأنينة ، والسكون المثبتة للفؤاد ، ولهذا لما قلق صاحبه سكنه وقال { لا تحزن إن اللّه معنا }
{ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } وهي الملائكة الكرام ، الذين جعلهم اللّه حرسا له ، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى } أي : الساقطة المخذولة ، فإن الذين كفروا قد كانوا على حرد قادرين ، في ظنهم على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخذه ، حنقين عليه ، فعملوا غاية مجهودهم في ذلك ، فخذلهم اللّه ولم يتم لهم مقصودهم ، بل ولا أدركوا شيئا منه .
ونصر اللّه رسوله بدفعه عنه ، وهذا هو النصر المذكور في هذا الموضع ، فإن النصر على قسمين : نصر المسلمين إذا طمعوا في عدوهم بأن يتم اللّه لهم ما طلبوا ، وقصدوا ، ويستولوا على عدوهم ويظهروا عليهم .
والثاني نصر المستضعف الذي طمع فيه عدوه القادر ، فنصر اللّه إياه ، أن يرد عنه عدوه ، ويدافع عنه ، ولعل هذا النصر أنفع النصرين ، ونصر اللّه رسوله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين من هذا النوع .
وقوله { وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا } أي كلماته القدرية وكلماته الدينية ، هي العالية على كلمة غيره ، التي من جملتها قوله : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } { وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } فدين اللّه هو الظاهر العالي على سائر الأديان ، بالحجج الواضحة ، والآيات الباهرة والسلطان الناصر .
{ وَاللَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب ، ولا يفوته هارب ، { حَكِيمٌ } يضع الأشياء مواضعها ، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر ، اقتضته الحكمة الإلهية .
وفي هذه الآية الكريمة فضيلة أبي بكر الصديق بخصيصة لم تكن لغيره من هذه الأمة ، وهي الفوز بهذه المنقبة الجليلة ، والصحبة الجميلة ، وقد أجمع المسلمون على أنه هو المراد بهذه الآية الكريمة ، ولهذا عدوا من أنكر صحبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، كافرا ، لأنه منكر للقرآن الذي صرح بها .
وفيها فضيلة السكينة ، وأنها من تمام نعمة اللّه على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة ، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه ، وثقته بوعده الصادق ، وبحسب إيمانه وشجاعته .
وفيها : أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين ، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه ، فإنه مضعف للقلب ، موهن للعزيمة .
ثم ذكرهم ، سبحانه ، بما يعرفونه من حال الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث نصره الله . تعالى ، على أعدائه بدون عون منهم ، وأيده بجنود لم يروها فقال ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } .
قال ابن جرير . هذا إعلام من الله لأصحاب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه ، وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم بأنه فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة ، والعدو في كثرة فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدو في قلة .
والمعنى : إنكم ، أيها المؤمنون ، إن آثرتم القعود والراحة على الجهاد وشدائده ، ولم تنصروا رسولكم الذي استنفركم للخروج معه . فاعلموا أن الله سينصره بقدرته النافذة ، كما نصره ، وأنتم تعلمون ذلك ، وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة { ثَانِيَ اثنين } أى : أحد اثنين . والثانى : أبو بكر الصديق ، رضى الله عنه .
يقال . فلان ثالث ثلاثة ، أو رابع أربعة . . أى : هو من الثلاثة أو من الأربعة .
فإن قيل : فلان رابع ثلاث أو خامس أربعة ، فمعناه أنه صير الثلاثة أربعة بإضافة ذاته اليهم ، أو صير الأربعة خمسة .
وأسند سبحانه الإِخراج إلى المشركين مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بنفسه بإذن من الله ، تعالى ، لأنهم السبب في هذا الخروج حيث اضطروه إلى ذلك ، بعد أن تآمروا على قتله .
قيل : وجواب الشرط في قوله ، { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } محذوف وقوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } تعليل لهذا لمحذوف .
والتقدير : إلا تنصروه ينصره الله في كل حال . { فَقَدْ نَصَرَهُ } سبحانه وقت أن أخرجه الكافرون من بدله ولم يكن معه سوى رجل واحد .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت . كيف يكون قوله { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } جواباً للشرط ؟ .
قلت " فيه وجهان " أحدهما : إلا تنصروه فسينصره من نصره حين لم يكن معه إلا رجل واحد . ولا أقل من الواحد ، فدل بقوله . { فَقَدْ نَصَرَهُ الله } على أنه ينصره في المستقبل كما نصره في ذلك الوقت .
والثانى . أنه أوجب له النصرة وجعله منصوراً في ذلك الوقت ، فلن يخذل من بعده .
وقوله : { ثَانِيَ اثنين } حال من الهاء في قوله { أَخْرَجَهُ } أى اخرجه الذين كفروا حال كونه منفرداً عن جميع الناس إلا أبا بكر الصديق - رضى الله عنه .
وقوله : { إِذْ هُمَا فِي الغار } بدل من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .
والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . والمراد به هنا : غار جبل ثور . وهو جبل في الجهة الجنوبية لمكة ، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام .
وقوله : { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا } بدل ثان من قوله { إِذْ أَخْرَجَهُ } .
أى : لا تنصروه فقد نصره الله وقت أن أخرجه الذين كفروا من مكة ، ووقت أن كان هو وصاحبه أبو بكر في الغار ، ووقت أن كان - صلى الله عليه وسلم - يقول لصاحبه الصديق :
" لا تحزن إن الله معنا بتأييده ونصره وحمايته " .
وذلك أن أبا بكر وهو مع النبى - صلى الله عليه وسلم - في الغار ، أحسن بحركة المشركين من فوق الغار ، فخاف خوفا شديداً لا على حياته هو ، وإنما على حياة النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما رأى النبى - صلى الله عليه وسلم - منه ذلك ، أخذ في تسكين روعة وجزعه وجعل يقول له : لا تحزن إن الله معنا .
أخرج الشيخان " عن أبى بكر قال . نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رءوسنا ، فقلت . يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قديمه ، فقال : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا " " .
وقوله : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } بيان لما أحاط الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مظاهر الحفظ والرعاية .
والسكينة : من السكون ، وهو ثبوت الشئ ؛ بعد التحرك . أو من السكن - بالتحريك - وهو كل ما سكنت إليه نفسك ، واطمأنت به من أهل وغيرهم .
والمراد بها هنا : الطمأنينة التي استقرت في قلب النبى - صلى الله عليه وسلم - فجعلته لا يبالى بجموع المشركين المحيطين بالغار ، لأنه واثق بأنهم لن يصلوا إليه .
والمراد بالجنود المؤيدين له . الملائكة الذين أرسلهم - سبحانه - لهذا الغرض : والضمير في قوله : { عَلَيْهِ } يعود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم .
أى . فأنزل الله سكينته وطمأنينته وأمنه على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأيده وقواه بجنود من الملائكة لم تروها أنتم ، كان من وظيفتهم حراسته وصرف أبصار المشركين عنه .
ويرى بعضهم أن الضمير في قوله { عَلَيْهِ } يعود إلى ابى بكر الصديق ، لأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور هنا هو الصاحب ولأن الرسول لم يكن في حاجة إلى السكينة . وإنما الذي كان في حاجة إليها هو أبو بكر ، بسبب ما اعتراه من فزع وخوف .
وقد رد أصحاب الرأى الأول على ذلك بأن قوله { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } الضمير فيه لا يصح إلا للنبى - صلى الله عليه وسلم - وهو معطوف على ما قبله فوجب أن يكون الضمير في قوله { عَلَيْهِ } عائداً إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يحصل تفكك في الكلام .
أما نزول السكينة فلا يلزم منه أن يكون لدفع الفزع والخوف ، بل يصح أن يكون لزيادة الاطمئنان ، وللدلالة على علو شأنه - صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير قوله { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أى . تأييده ونصره عليه أى .
على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أشهر القولين . وقيل . على أبى بكر .
قالوا : لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم تزل معه سكينة . وهذا لا ينافى تجدد سكينة خاصة بتلك الحال ، ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } أى : الملائكة .
وقوله : { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } بيان لما ترتب على إنزال السكينة والتأييد بالملائكة .
والمراد بكلمة الذين كفروا . كملة الشرك ، أو كلمتهم التي اجتمعوا عليها في دار الندوة وهى اتفاقهم على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
والمراد بكلمة الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإِسلام ، وما يترتب على اتباع هذا لدين من نصر وحسن عاقبة ، أى : كانت نتيجة إنزال السكينة والتأييد بالملائكة ، أن جعل كلمة الشرك هي السفلى ، أى . المقهورة الذليلة . وكلمة الحق والتوحيد المتمثلة في دين الإِسلام هي العليا أى : هي الثابتة الغالبة النافذة .
وقراءة الجمهور برفع . { كَلِمَةَ } على الابتداء . وقوله { هِيَ } مبتدأ ثان : وقوله : { العليا } خبرها ، والجملة خبر المبتدأ الأول .
ويجوز أن يكون الضمير { هِيَ } ضمير فصل ، وقوله { العليا } هو الخبر وقرأ الأعمش ويعقوب { وَكَلِمَةُ الله } بالنصر عطفاً على مفعول جعل وهو { كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ } .
أى : وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وجعل كلمة الله هي العليا .
قالوا : وقراءة الرفع أبلغ وأوجه ، لأن الجملة الأسمية تدل . على الدوام والثبوت ، ولأن الجعل لم يتطرق إلى الجملة الثانية وهى قوله : { وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } لأنها في ذاتها عالية ثابتة ، بدون جعلها كذلك في حالة معينة . بخلاف علو غيرها فهو ذاتى ، وإنما هو علو مؤقت في حال معينة ، ثم مصيرها إلى الزوال والخذلان بعد ذلك .
وقوله : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله .
أى : والله - تعالى - { عَزِيزٌ } لا يغلبه غالب ، ولا يقهر قاهر ، ولا ينصر من عاقبه ناصر ، { وَحَكِيمٌ } في تصريفه شأن خلقه ، لا قصور في تدبيره ، ولا نقص في أفعاله .
هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية : الدلالة على فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - وعلى علو منزلته ، وقوة إيمانه ، وشدة إخلاصه لله - تعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ومما يشهد لذلك ، أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما أذن الله له بالهجرة ، لم يخبر أحدا غيره لصحبته في طريق هجرته إلى المدينة .
ولقد أظهر الصديق - رضى الله عنه - خلال مصاحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - الكثير من ألوان الوفاء والإِخلاص وصدق العقيدة .
قال الآلوسى ما ملخصه : واستدل بالآية على فضل أبى بكر . . فإنها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا كبر . . فعن الحسن قال : عاتب الله جميع أهل الأرض غير أبى بكر فقال : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله } الآية .
ولأن فيها النص على صحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يثبت ذلك لأحد من الصحابة : لأنه هو المراد بالصاحب في قوله { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ } وهذا مما وقع عليه الإِجماع .
ومن هنا قالوا : من أنكر صحبة أبى بكر فقد كفر ، لإِنكار كلام الله ، وليس ذلك لسائر الصحابة .
وقد ساق الإِمام الرازى ، والشيخ رشيد رضا ، عند تفسيرهما لهذه الآية اثنى عشر وجهاً في فضل أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - ، فارجع إليهما إن شئت .
ويضرب اللّه لهم المثل من الواقع التاريخي الذي يعلمونه ، على نصرة اللّه لرسوله بلا عون منهم ولا ولاء ، والنصر من عند اللّه يؤتيه من يشاء :
( إلا تنصروه فقد نصره اللّه إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار . إذ يقول لصاحبه : لا تحزن إن اللّه معنا . فأنزل اللّه سكينته عليه ، وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ، وكلمة اللّه هي العليا ، واللّه عزيز حكيم )
ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به ، وقررت أن تتخلص منه ؛ فأطلعه اللّه على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج ، فخرج وحيداً إلا من صاحبه الصدّيق ، لا جيش ولا عدة ، وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة . والسياق يرسم مشهد الرسول - [ ص ] - وصاحبه :
والقوم على إثرهما يتعقبون ، والصديق - رضي اللّه عنه - يجزع - لا على نفسه ولكن على صاحبه - أن يطلعوا عليهما فيخلصوا إلى صاحبه الحبيب ، يقول له : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه . والرسول - [ ص ] - وقد أنزل اللّه سكينته على قلبه ، يهدئ من روعه ويطمئن من قلبه فيقول له : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما ? " .
ثم ماذا كانت العاقبة ، والقوة المادية كلها في جانب ، والرسول - [ ص ] - مع صاحبه منها مجرد ? كان النصر المؤزر من عند اللّه بجنود لم يرها الناس . وكانت الهزيمة للذين كفروا والذل والصغار :
( وجعل كلمة الذين كفروا السفلى ) .
وظلت كلمة اللّه في مكانها العالي منتصرة قوية نافذة :
وقد قرئ ( وكلمة اللّه )بالنصب . ولكن القراءة بالرفع أقوى في المعنى . لأنها تعطي معنى التقرير . فكلمة اللّه هي العليا طبيعة وأصلاً ، بدون تصيير متعلق بحادثة معينة . واللّه( عزيز )لا يذل أولياؤه( حكيم )يقدر النصر في حينه لمن يستحقه .
ذلك مثل على نصرة اللّه لرسوله ولكلمته ؛ واللّه قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين غير الذين يتثاقلون ويتباطأون . وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول اللّه إلى دليل !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِلاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ السّفْلَىَ وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
وهذا إعلام من الله أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم ، أعانوه أو لم يعينوه ، وتذكير منه لهم فعل ذلك به ، وهو من العدد في قلة والعدوّ في كثرة ، فكيف به وهو من العدد في كثرة والعدوّ في قلّة ؟ يقول لهم جلّ ثناؤه : إلا تنفروا أيها المؤمنون مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه ، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم كما نصره إذ أخرجه الذين كفروا بالله من قريش من وطنه وداره ثانِيَ اثْنَيْنِ يقول : أخرجوه وهو أحد الاثنين : أي واحد من الاثنين ، وكذلك تقول العرب : «هُوَ ثانِيَ اثْنَيْنِ » يعني أحد الاثنين ، وثالث ثلاثة ، ورابع أربعة ، يعني : أحد ثلاثة ، وأحد الأربعة ، وذلك خلاف قولهم : هو أخو ستة وغلام سبعة ، لأن الأخ والغلام غير الستة والسبعة ، وثالث الثلاثة : أحد الثلاثة . وإنما عنى جلّ ثناؤه بقوله : ثانِيَ اثْنَيْنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ، رضي الله عنه ، لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش ، إذ همّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار . وقوله : إذْ هُما فِي الغارِ يقول إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار : النقب العظيم يكون في الجبل . إذ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ يقول : إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر : لا تَحْزَنْ وذلك أنه خاف من الطلب أن يعلموا بمكانهما ، فجزع من ذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاَ تَحْزَنْ لأنّ اللّهَ مَعَنا ، واللّهُ ناصِرُنا ، فَلَنِ يَعْلَمَ المُشْرِكُونَ بِنا ، وَلَنْ يَصِلُوا إلَيْنَا يقول جلّ ثناؤه : فقد نصره الله على عدوّه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد ، فكيف يخذله ويحوجه إليكم وقد كثر الله أنصاره وعدد جنوده ؟ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ تَنْصُرُوهُ ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعثه يقول الله : فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ قال : ذكر ما كان في أوّل شأنه حين بعث ، فالله فاعل به كذلك ناصره كما نصره إذا ذاك ثانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الغارِ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ . . . الآية ، قال : فكان صاحبه أبو بكر . وأما الغار : فجبل بمكة يقال له ثور .
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد ، قال : ثني أبي ، قال : حدثنا أبان العطار ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن عروة ، قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، وكان لأبي بكر منيحة من غنم تروح على أهله ، فأرسل أبو بكر عامر بن فُهيرة في الغنم إلى ثور ، وكان عامر بن فهيرة يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في قور ، وهو الغار الذي سماه الله في القرآن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي ، قال : حدثنا عفان وحبان ، قالا : حدثنا همام ، عن ثابت عن أنس ، أن أبا بكر رضي الله عنه حدثهم ، قال : بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، وأقدام المشركين فوق رُءُوسِنَا ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا فقال : «يا أبا بَكْرٍ ما ظَنّكَ باثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثَهُما » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، قال : مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري : إذْ هُما فِي الغارِ قال : في الجبل الذي يسمى ثورا ، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليال .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال : أيكم يقرأ سورة التوبة ؟ قال رجل : أنا ، قال : اقرأ فلما بلغ : إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ بكى أبو بكر وقال : أنا والله صاحبه .
القول في تأويل قوله تعالى : فأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَة الّذِينَ كَفَروُا السّفْلَى وكلمةٌ اللّهِ هِيَ العُلْيا واللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله وقد قيل : على أبي بكر وأيّدهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا يقول : وقوّاه بجنود من عنده من الملائكة لم تروها أنتم . وَجَعَلَ كِلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا وهي كلمة الشرك السّفْلَى لأنها قُهرت وأذّلت وأبطلها الله تعالى ومحق أهلها ، وكلّ مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب والغالب هو الأعلى . وكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العْلْيَا يقول : ودين الله وتوحيده وقول لا إله إلا الله ، وهي كلمته العليا على الشرك وأهله ، الغاليةُ . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى وهي : الشرك بالله . وكَلِمَةُ اللّهُ هِيَ العُلْيا وهي لا إله إلا الله .
وقوله : وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ العُليا خبر مبتدأ غير مردود على قوله : وَجَعَلَ كَلِمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا السّفْلَى لأن ذلك لو كان معطوفا على الكلمة الأولى لكان نصبا .
وأما قوله : واللّهُ عَزِيرٌ حَكِيمٌ فإنه يعني : والله عزيز في انتقامه من أهل الكفر به ، لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب ولا ينصره من عاقبه ناصر ، حكيم في تدبيره خلقه وتصريفه إياهم في مشيئته .