{ وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }
يأمر تعالى بذكره في الأيام المعدودات ، وهي أيام التشريق الثلاثة بعد العيد ، لمزيتها وشرفها ، وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها ، ولكون الناس أضيافا لله فيها ، ولهذا حرم صيامها ، فللذكر فيها مزية ليست لغيرها ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق ، أيام أكل وشرب ، وذكر الله "
ويدخل في ذكر الله فيها ، ذكره عند رمي الجمار ، وعند الذبح ، والذكر المقيد عقب الفرائض ، بل قال بعض العلماء : إنه يستحب فيها التكبير المطلق ، كالعشر ، وليس ببعيد .
{ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } أي : خرج من " منى " ونفر منها قبل غروب شمس اليوم الثاني { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ } بأن بات بها ليلة الثالث ورمى من الغد { فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ } وهذا تخفيف من الله [ تعالى ] على عباده ، في إباحة كلا الأمرين ، ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كلا الأمرين ، فالمتأخر أفضل ، لأنه أكثر عبادة .
ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي غيره ، والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم ، والمتأخر فقط قيده بقوله : { لِمَنِ اتَّقَى } أي : اتقى الله في جميع أموره ، وأحوال الحج ، فمن اتقى الله في كل شيء ، حصل له نفي الحرج في كل شيء ، ومن اتقاه في شيء دون شيء ، كان الجزاء من جنس العمل .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ } بامتثال أوامره واجتناب معاصيه ، { وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فمجازيكم بأعمالكم ، فمن اتقاه ، وجد جزاء التقوى عنده ، ومن لم يتقه ، عاقبه أشد العقوبة ، فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى الله ، فلهذا حث تعالى على العلم بذلك .
وقوله : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } معطوف على قوله - تعالى - { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } وما بينهما اعتراض .
والمراد بالأيام المعدودات أيام التشريق الثلاثة التي بعد يوم النحر . والتشريق : تقديد اللحم .
قال القرطبي : ولا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى ، وهي أيام التشريق ، وأن هذه الثلاثة الأسماء واقعة عليها ، وهي أيام رمى الجمار " .
فالآية الكريمة تأمر الحجاج وغيرهم من المسلمين أن يكثروا من ذكر الله في هذه الأيام المباركة ، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء " ويزعمون أن الحج قد انتهى يوم النحر وهو اليوم العاشر من ذي الحجة .
ولقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام ينبغي أن تعمر بذكر الله وبشكره على نعمه .
روى الإِمام مسلم عن نبيشه الهذلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله " .
وروى البخاري عن ابن عمر : أنه كان يكبر بمنى تلك الأيام ، وخلف الصلوات ، وعلى فراشه وفي فسطاطه . وفي مجلسه ، وفي ممشاه ، في تلك الأيام جميعاً .
ومن الذكر في تلك الأيام التبيكر مع كل حصاة م نحصى الجمار كل يوم من أيام التشريق .
فقد أخرج البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر مع كل حصاة .
ويرى جمهور الفقهاء أن هذه الأيام يحرم فيها الصيام ، لأنها أيام كل وشرب وذكر لله .
والمعنى : اذكروا الله ، أي : كبروه في أدبار الصلوات وعند ذبح القرابين ، وعند رمي الجمار وغيرها في تلك الأيام المعدودات التي هي موسم من مواسم العبادة والطاعات ، فإن الإِكثار من ذكر الله يرفع الدرجات ، ويمسح السيئات .
ثم قال- تعالى- : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى } . تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل ، يقال : تعجل الأمر واستعجل . ويأتيان متعديين فيقال : تعجل الذهاب واستعجله ويرى الزمخشري أن المطاوعة أوفق لقوله - تعالى - : { وَمَن تَأَخَّر } .
وإيضاح ذلك : أنه يجب على الحاج المبيت بمنى الليلة الأولى والثانية من ليالي أيام التشريق ، ليرمي كل يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة يرمى عند كل جمرة سبع حصيات ، ثم من رمى في اليوم الثاني وأراد أن ينفر ويترك المبيت بمنى في الليلة الثالثة ورمى يومها بعد الزوال - كما يرى الشافعية - وبعده أو قبله - كما يرى الحنفية - فلا إثم عليه في عدم مبيته بمنى في الليلة الثالثة .
أي : فمن تعجل فسافر في اليومين الأولين فلا إثم عليه في التعجيل ، ومن بقي إلى تمام اليوم الثالث فلا إثم عليه كذلك إذا اتقى كل منهما الله ووقف عند حدوده .
فالتقييد بالتقوى للتنبيه إلى أن العبرة في الأفعال إنما هي بتقوى القلوب وطهارتها وسلامتها .
قال الآلوسي : وقوله { لِمَنِ اتقى } خبر لمبتدأ محذوف ، واللام إما للتعليل أو للاختصاص .
أي : ذلك التخيير المذكور لأجل المتقي لئلا يتضرر بترك ما يقصده من التعجيل والتأخر أو ذلك المذكور من أحكام مطلقاً مختصة بالمتقى لأنه هو الحاج على الحقيقة . والمراد من التقوى على التقديرين تجنب ما يؤثم من فعل أو ترك .
ثم ختمت الآية بقوله - تعالى - : { واتقوا الله واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } اتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون ، واعلموا أنكم ستجمعون بعد تفرقكم وتساقون إلى خالقكم يوم القيامة ليجازيكم على أعمالكم .
وقد ختمت الآيات التي تحدثت عن فريضة الحج بهذا الختام المكون من عنصرين ، أحدهما : تقوى الله .
والثاني : العلم اليقيني بالحشر ، للإِشعار بأنهما خلاصة التدين ، وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها ، وإذا خلت أية عبادة من هذين العنصرين كانت صورة لا روح فيها .
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا بعض أحكام الحج وآدابه ومناسكه بأسلوب يهدي القلوب ، ويسعد النفوس ، ومن شأن من يعمل بهذه الآيات أن يكون ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه .
ثم تنتهي أيام الحج وشعائره ومناسكه بالتوجيه إلى ذكر الله ، وإلى تقواه :
( واذكروا الله في أيام معدودات . فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى . واتقوا الله ، واعلموا أنكم إليه تحشرون ) . .
أيام الذكر هي في الأرجح يوم عرفة ويوم النحر والتشريق بعده . . قال ابن عباس : الأيام المعدودات أيام التشريق . . وقال عكرمة : ( واذكروا الله في أيام معدودات ) يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات : الله أكبر . الله أكبر . وفي الحديث المتقدم عن عبد الرحمن بن معمر الديلمي : " وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " . . وأيام عرفة والنحر والتشريق . كلها صالحة للذكر . اليومين الأولين منها أو اليومين الأخيرين . بشرط التقوى :
ثم يذكرهم بمشهد الحشر بمناسبة مشهد الحج ؛ وهو يستجيش في قلوبهم مشاعر التقوى أمام ذلك المشهد المخيف :
( واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) . .
وهكذا نجد في هذه الآيات كيف جعل الإسلام الحج فريضة إسلامية ؛ وكيف خلعها من جذورها الجاهلية ؛ وربطها بعروة الإسلام ؛ وشدها إلى محوره ؛ وظللها بالتصورات الإسلامية ؛ ونقاها من الشوائب والرواسب . . وهذه هي طريقة الإسلام في كل ما رأى أن يستبقيه من عادة أو شعيرة . . إنها لم تعد هي التي كانت في الجاهلية ؛ إنما عادت قطعة جديدة متناسقة في الثوب الجديد . . إنها لم تعد تقليدا عربيا ، إنما عادت عبادة إسلامية . فالإسلام ، والإسلام وحده ، هو الذي يبقى وهو الذي يرعى . .