فوبخه اللّه على ذلك وقال : { مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ } لما خلقت بيديَّ ، أي : شرفته وفضلته بهذه الفضيلة ، التي لم تكن لغيره ، فعصيت أمري وتهاونت بي ؟
{ قَالَ } إبليس معارضا لربه : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله : { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ }
وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها ، وهذا القياس من أفسد الأقيسة ، فإنه باطل من عدة أوجه :
منها : أنه في مقابلة أمر اللّه له بالسجود ، والقياس إذا عارض النص ، فإنه قياس باطل ، لأن المقصود بالقياس ، أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه نص ، يقارب الأمور المنصوص عليها ، ويكون تابعا لها .
فأما قياس يعارضها ، ويلزم من اعتباره إلغاءُ النصوص ، فهذا القياس من أشنع الأقيسة .
ومنها : أن قوله : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث . فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه وتكبره ، والقول على اللّه بلا علم . وأي نقص أعظم من هذا ؟ "
ومنها : أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب ، فإن مادة الطين فيها الخشوع والسكون والرزانة ، ومنها تظهر بركات الأرض من الأشجار وأنواع النبات ، على اختلاف أجناسه وأنواعه ، وأما النار ففيها الخفة والطيش والإحراق .
ثم حكى القرآن الكريم الأسباب التي حملت إبليس على عدم السجود لآدم فقال : { قَالَ مَا مَنَعَكَ . . . . } .
أى : قال الله - تعالى - لإبليس : ما ألزمك واضطرك إلى أن لا تسجد لآدم ؟ فالنع مجاز عن الإلجاء والاضطرار . أو ما حملك ودعاك إلى ألا تسجد ؟ فالمنع مجاز عن الحمل . والاستفهام للتوبيخ والتقريع .
و ( لا ) في قوله : { أَلاَّ تَسْجُدَ } مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود . وتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه ، كأنه قيل : ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك .
وقد حكى القرآن ما أجاب به إبليس فقال : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } أى : قال إبليس أنا خير من آدم ، لأنى مخلوق من عنصر النار الذي هو أشرف من عنصر الطين ، والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه .
قال ابن كثير : " وقول إبليس - لعنة الله - { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } . . . إلخ . من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، إذ بين بأنه خير من آدم لأنه خلق من النار وآدم خلق من الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ول ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله - تعالى - خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص ، وهو قوله - تعالى - : { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } فشذ من بين الملائكة لترك السجود فأبعده الله عن رحمته ، وكان قياسه فاسداً لأن النار ليست أشرف من الطين ، فإن الطين من شأنه الرزانة والأناة والتثبت ، وهو محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله . وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خلت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم ما وصف لكم " .
( قال : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ؟ قال : أنا خير منه ، خلقتني من نار ، وخلقته من طين )
لقد جعل إبليس له رأيا مع النص . وجعل لنفسه حقا في أن يحكم نفسه وفق ما يرى هو من سبب وعلة مع وجود الأمر . . وحين يوجد النص القاطع والأمر الجازم ينقطع النظر ، ويبطل التفكر ؛ وتتعين الطاعة ، ويتحتم التنفيذ . . وهذا إبليس - لعنه الله - لم يكن ينقصه أن يعلم أن الله هو الخالق المالك الرازق المدبر الذي لا يقع في هذا الوجود شيء إلا بإذنه وقدره . . ولكنه لم يطع الأمر كما صدر إليه ولم ينفذه . . بمنطق من عند نفسه :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.