{ 31 } { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }
أي : قد خاب وخسر ، وحرم الخير كله ، من كذب بلقاء الله ، فأوجب له هذا التكذيب ، الاجتراء على المحرمات ، واقتراف الموبقات { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ } وهم على أقبح حال وأسوئه ، فأظهروا غاية الندم . و { قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } ولكن هذا تحسر ذهب وقته ، { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } فإن وزرهم وزر يثقلهم ، ولا يقدرون على التخلص منه ، ولهذا خلدوا في النار ، واستحقوا التأبيد في غضب الجبار .
ثم صور - سبحانه - عاقبتهم السيئة ، وخاسرتهم التى ليس بعدها خسارة فقال : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله } .
أى : أن أولئك الكفار الذين أنكروا البعث والحساب قد خسروا أعز شىء فى هذه الحياة ، ومن مظاهر ذلك أنهم خسروا الرضا الذى سيناله المؤمنون من ربهم ، وخسروا العزاء الروحى الذى يغرس فى قلب المؤمن الطمأنينة والصبر عند البلاء ، لأن المؤمن يعتقد أن ما عند الله خير وأبقى ، بخلاف الكافر فإن الدنيا منتهى آماله .
وإن هؤلاء الخاسرين سيستمرون فى تكذيبهم بالحق وإعراضهم عنه { حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } .
أى : حتى إذا جاءتهم الساعة مباغته مفاجئة وهم فى طغيانهم يعمهون ، اعتراهم الهم ، وحل بهم البلاء وقالوا : بعد أن سقط فى أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا يا حسرتنا أقبلى فهذا أوانك ، فإننا لم نستعد لهذا اليوم ، بل أهملناه ولم نلتفت إليه . وعلى ذلك يكون المراد بالساعة يوم القيامة وما فيه من حساب .
وقيل : المراد بالساعة وقت مقدمات الموت ، فالكلام على حذف المضاف ، أى : جاءتهم مقدمات الساعة وهى الموت وما فيه من الأهوال . فلما كان الموت من مبادىء الساعة سمى باسمها ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم " من مات فقد قامت قيامته " .
وسميت القيامة ساعة لسرعة الحساب فيها ، ولأنها تحمل أشد الأهوال ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة : فانية وأخرى باقية .
وفى قوله - تعالى - { حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً } إشارة إلى أنها تفاجئهم بأهوالها من غير أن يكونوا مستعدين لها أو متوقعين لحدوثها ، أما المؤمنين - فإنهم رغم عدم علمهم بمجيئها - فإنهم يكونون فى حالة استعداد لها بالإيمان والعمل الصالح .
والبغت والبغتة مفاجأة الشىء بسرعة من غير إعداد له ، وكلمة { بَغْتَةً } يصح أن تكون مصدراً فى موضع الحال من فاعل جاءتهم أى : جائتهم مباغتة ، ويصح أن تكون مفعولا مطلقاً لفعل محذوف من لفظها أى : تبغتهم بغتة ، والحسرة : شدة الغم والندم على ما فات وانقضى .
ثم قال - تعالى - : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } .
الأوزار جمع وز وهو - بكسر الواو - الحمل الثقيل ، ويطلق على الإثم والذنب لأنهما أثقل الأحمال النفسية التى تنوء بها القوة .
والجملة الكريمة من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث شبهت حالهم وما يحملونه يوم القيامة من ذنوب ثقيلة مضنية ، بهيئة المثقل المجهد بحمل كبير يحمله على ظهره وينوء به . ثم حذفت الهيئة الدالة على المشبه به ورمز إليها بشىء من لوازمها .
وقيل إن الكلام علىحقيقته وأنهم سيحملون ذنوبهم على ظهورهم فعلا ، حيث إن الذنوب والأعمال ستتجسم يوم القيامة ، وبهذا الرأى قال كثير من أهل السنة .
والمعنى : إن هؤلاء الكافرين يأتون يوم القيامة وهم يحملون ذنوبهم وآثامهم على ظهورهم ، ألا ما أسوأ ما حملوا ، وما أشد ما سيستقبلونه بعد ذلك من عذاب أليم
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِلِقَآءِ اللّهِ حَتّىَ إِذَا جَآءَتْهُمُ السّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَحَسْرَتَنَا عَلَىَ مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىَ ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ قد هلك ووكس في بيعهم الإيمان بالكفر الذين كذّبوا بلقاء الله ، يعني : الذين أنكروا البعث بعد الممات والثواب والعقاب والجنة والنار ، من مشركي قريش ومن سلك سبيلهم في ذلك . حتى إذَا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ يقول : حتى إذا جاءتهم الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم . وإنما أدخلت الألف واللام في «الساعة » ، لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها ، وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت . ويعني بقوله : بَغْتَةً : فجأة من غير علم مَن تفجؤه بوقت مفاجأتها إياه ، يقال منه : بغتّه أبغته بَغْتَة : إذا أخذتَه ، كذلك قالُوا يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها يقول تعالى ذكره : وكس الذين كذّبوا بلقاء الله ، ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار ، فإذا جاءتهم الساعة بغتة ، قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا وتبيّنوا خسارة صفقة بيعهم التي سلفت منهم في الدنيا تندما وتلهفا على عظيم الغبن الذي غَبنوه أنفسهم وجليل الخسران الذي لا خسران أجلّ منه : يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها يقول : يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها يعني في صفقتهم تلك . والهاء والألف في قوله : فِيها من ذكر الصفقة ، ولكن اكتفى بدلالة قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ عليها من ذكرها ، إذ كان معلوما أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد خسرت . وإنما معنى الكلام : قد وكس الذين كذّبوا بلقاء الله ، ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته ، ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك حتى تقوم الساعة ، فإذا جاءتهم الساعة بغتة فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ تندما . يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها أما «يا حسرتنا » : فندامتنا على ما فرّطنا فيها فضيعنا من عمل الجنة .
حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ ، قال : حدثنا يزيد بن مهران ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : يا حَسْرَتَنا قال : «يَرَى أهْلُ النّارِ مَنازِلَهُمْ مِنَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ يا حَسْرَتَنا » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ .
يقول تعالى ذكره : وهؤلاء الذين كذّبوا بلقاء الله يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ . وقوله وَهُمْ من ذكرهم . يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ يقول : آثامهم وذنوبهم ، واحدها وِزْر ، يقال منه : وَزَرَ الرجل يَزِرُ : إذا أثم ، فإن أريد أنهم أثموا قيل : قد وُزِرَ القوم فهم يُوزَرُونَ وهم موزورون . وقد زعم بعضهم : أن الوزر : الثقل والحمل . ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد ولا من رواية ثقة عن العرب . وقال تعالى ذكره : على ظُهُورِهِمْ لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكب وغير ذلك ، فبّين موضع حملهم ما يحملون من ذلك ، وذكر أن حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم نحو الذي :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير بن سلمان ، قال : حدثنا عمرو بن قيس الملائي ، قال : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن صورة وأطيبه ريحا ، فيقول له : هل تعرفني ؟ فيقول : لا ، إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن صورتك . فيقول : كذلك كنت في الدنيا ، أنا عملك الصالح ، طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا : يَوْمَ نَحْشُرُ المُتّقِينَ إلى الرّحْمَنِ وَفْدا . وإن الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا ، فيقول : هل تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد قبّح صورتك وأنتن ريحك . فيقول : كذلك كنت في الدنيا ، أنا عملك السيىء طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاء رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة ، حتى يدخل معه قبره ، فإذا رآه قال له : ما أقبح وجهك قال : كذلك كان عملك قبيحا . قال : ما أنتن ريحك قال : كذلك كان عملك منتنا . قال : ما أدنس ثيابك قال : فيقول : إن عملك كان دنسا . قال : من أنت ؟ قال : أنا عملك . قال : فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة ، قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، فأنت اليوم تحملني . قال : فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار فذلك قوله : يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ .
وأما قوله تعالى : ألا ساءَ ما يَزِرُونَ فإنه يعني : ألا ساء الوزر الذي يزرون : أي الإثم الذي يأثمونه بكفرهم بربهم . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ألا ساءَ ما يَزِرُونَ قال : ساء ما يعملون .
هذا استئناف إخبار عن خسارة المكذبين يتضمن تعظيم المصاب الذي حل بهم ، وتستعمل الخسارة في مثل هذا لأنه من أخذ الكفر واتبعه فكأنه قد أعطى الإيمان واطرحه ، فأشبهت صفقة أخذ وإعطاء ، والإشارة بهذه الآية إلى الذين قالوا إنما هي حياتنا الدنيا ، وقوله : { بلقاء الله } معناه : بالرجوع إليه وإلى أحكامه وقدرته ، كما تقول لقي فلان أعماله أي لقي عواقبها ومآلها ، و { الساعة } يوم القيامة ، وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرها لشهرتها واستقرارها في النفوس وذيعان ذكرها ، وأيضاً فقد تضمنها قوله تعالى : { بلقاء الله } وبغتة معناه فجأة ، تقول بغتني الأمر أي فجأني ومنه قول الشاعر :
ولكنهم تابوا ولم أخش بغتة . . . وأفظع شيء حين يفجأك البغت{[4887]}
ونصبها على المصدر في موضع الحال كما تقول : قتلته صبراً ، ولا يجيز سيبويه القياس عليه ولا تقول جاء فلان سرعة ونحوه{[4888]} .
ونداء الحسرة على تعظيم الأمر وتشنيعه ، قال سيبويه وكأن الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول : اقربي أو احضري فهذا وقتك وزمنك ، وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع ، وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضاً بنداء الجمادات كقولك يا دار ويا ربع ، وفي نداء ما لا يعقل كقولهم يا جمل ، ونحو هذا{[4889]} .
و { فرطنا } معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير ، وهذه حقيقة التفريط ، والضمير في قوله { فيها } عائد على { الساعة } أي في التقدمة لها ، وهذا قول الحسن ، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية . ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها ، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار ، وعوده على { الساعة } إنما معناه في أمورها والاستعداد لها ، بمنزلة زيد في العلم مشتغل .
وقوله تعالى :{ وهم يحملون أوزارهم } الآية ، الواو واو الحال ، والأوزار جمع وزر بكسر الواو وهو الثقل من الذنوب ، تقول منه وزر يزر إذا حمل ، قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى }{[4890]} وتقول وزر الرجل فهو موزور ، قال أبو عبيدة : والعامة تقول : مازور ، وأما إذا اقترن ذلك مأجور فإن العرب تقول : مأزور ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنساء لقيهن مقبلات من المقابر : «ارجعن مأزورات غير مأجورات »{[4891]} قال أبو علي وغيره فهذا للإتباع اللفظي ، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال ، وقوى التشبيه بأن جعله على الظهور إذ هو في العادة موضع حمل الأثقال ، ومن قال إنه من الوزر وهو الجبل الذي يلجأ إليه ومنه الوزير وهو المعين فهي مقالة غير بينة ، وقال الطبري وغيره هذا على جهة الحقيقة ورووا في ذلك خبراً أن المؤمن يلقاه عمله في أحسن صورة وأفرحها فيسلم عليه ويقول له : طال ما ركبتك في الدنيا وأجهدتك فاركبني اليوم ، قال فيحمله تمثال العمل ، وأن الكافر يلقاه عمله في أقبح صورة وأنتنها فيشتمه ويقول : أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا أركبك اليوم ، قال فيحمل تمثال عمله وأوزاره على ظهره{[4892]} . وقوله تعالى : { ألا ساء ما يزرون } إخبار عن سوء ما يأثمون مضمن التعظيم لذلك والإشادة به ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، وقوله ألا هل بلغت{[4893]} ، فإنما أراد الإشادة والتشهير وهذا كله يتضمنه { ألا } ، وأما { ساء ما يزرون } فهو خبر مجرد كقول الشاعر : [ البسيط ]
رَضِيت خِطَّةَ خَسْفٍ غًيْرَ طَائِلَةٍ . . . فَسَاءَ هَذا رِضى يا قَيْس غيلانَا
و { ساء } فعل ماضٍ و { ما } فاعلة به كما تقول ساءني أمر كذا ، ويحتمل أن تجري { ساء } هنا مجرى بئس ، ويقدر ما يقدر ل «بئس » إذ قد جاء في كتاب الله { ساء مثلاً القوم }{[4894]} .
استئناف للتعجيب من حالهم حين يقعون يوم القيامة في العذاب على ما استداموه من الكفر الذي جرّأهم على استدامته اعتقادهم نفي البعث فذاقوا العذاب لذلك ، فتلك حالة يستحقّون بها أن يقال فيهم : قد خسِروا وخابوا .
والخسران تقدّم القول فيه عند قوله تعالى : { الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون } في هذه السورة [ 12 ] . والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا .
والذين كذّبوا بلقاء الله هم الذين حكي عنهم بقوله : { وقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا } فكان مقتضى الظاهر الإضمار تبعاً لقوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] وما بعده ، بأن يقال : قد خسروا ، لكن عُدل إلى الإظهار ليكون الكلام مستقلاً وليبنى عليه ما في الصلة من تفصيل بقوله : { حتّى إذا جاءتهم الساعة بغتة } الخ .
ولقاء الله هو ظهور آثار رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا ، فلمّا كان العالم الأخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع ، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق ، جعل المصير إليه مماثلاً للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زماناً طويلاً ، فلذلك سمّي البعث ملاقاة الله ، ولقاء الله ومصيراً إلى الله ، ومجيئاً إليه ، في كثير من الآيات والألفاظ النبوية ، وإلاّ فإنّ الناس في الدنيا هم في قبضة تصرّف الله لو شاء لقبضهم إليه ولعجّل إليهم جزاءهم . قال تعالى : { ولو يعجِّل الله للنّاس الشرّ استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم } [ يونس : 11 ] . ولكنّه لمّا أمهلهم واستدرجهم في هذا العالم الدنيوي ورغّب ورهّب ووعَد وتوعّد كان حال الناس فيه كحال العبيد يأتيهم الأمر من مولاهم الغائب عنهم ويرغّبهم ويحذّرهم ، فمنهم من يمتثل ومنهم من يعصي ، وهم لا يلقون حينئذٍ جزاء عن طاعة ولا عقاباً عن معصية لأنّه يملي لهم ويؤخّرهم ، فإذا طوي هذا العالم وجاءت الحياة الثانية صار الناس في نظام آخر ، وهو نظام ظهور الآثار دون ريث ، قال تعالى : { ووجدوا ما عملوا حاضراً } [ الكهف : 49 ] ، فكانوا كعبيد لقُوا ربّهم بعد أن غابوا وأمهلوا . فاللقاء استعارة تمثيلية : شبّهت حالة الخلق عند المصير إلى تنفيذ وعد الله ووعيده بحالة العبيد عند حضور سيِّدهم بعد غيبة ليجزيهم على ما فعلوا في مدّة المغيب . وشاع هذا التمثيل في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال : « من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه » ، وفي القرآن { ليُنْذر يوْمَ التَّلاقِي } [ غافر : 15 ] .
وقوله : { حتّى إذا جاءتهم الساعة بغتة } ( حتّى ) ابتدائية ، وهي لا تفيد الغاية وإنّما تفيد السببية ، كما صرّح به ابن الحاجب ، أي فإذا جاءتهم الساعة بغتة . ومن المفسّرين من جعل مجيء الساعة غاية للخسران ، وهو فاسد لأنّ الخسران المقصود هنا هو خسرانهم يوم القيامة ، فأمّا في الدنيا ففيهم مَن لم يخسر شيئاً .
وقد تقدّم كلام على ( حتّى ) الابتدائية عند قوله تعالى : { وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك } في هذه السورة [ 25 ] . وسيجيء لمعنى ( حتى ) زيادة بيان عند قوله تعالى : فمن أظلم ممّن افترى على الله كذباً أو كذّب بآياته إلى قوله { حتّى إذا جاءتهم رسلنا } في سورة [ الأعراف : 37 ] .
والساعة : علَم بالغلبة على ساعة البعث والحشر .
والبغتة فعلة من البَغْت ، وهو مصدر بغتَه الأمر إذا نزل به فجأة من غير ترقّب ولا إعلام ولا ظهور شبح أو نحوه . ففي البغت معنى المجيء عن غير إشعار . وهو منتصب على الحال ، فإنّ المصدر يجيء حالاً إذا كان ظاهراً تأويلُه باسم الفاعل ، وهو يرجع إلى الإخبار بالمصدر لقصد المبالغة .
وقوله : { قالوا } جواب ( إذا ) . و { يا حسرتنا } نداء مقصود به التعجّب والتندّم ، وهو في أصل الوضع نداء للحسرة بتنزيلها منزلة شخص يسمع ويُنادي ليحضُر كأنّه يقول : يا حسرة احضري فهذا أوان حضورك . ومنه قولهم : يا ليتني فعلت كذا ، ويا أسفي أو يا أسفاً ، كما تقدّم آنفاً .
وأضافوا الحسرة إلى أنفسهم ليكون تحسّرهم لأجل أنفسهم ، فهم المتحسّرون والمتحسَّر عليهم ، بخلاف قول القائل : يا حسرة ، فإنّه في الغالب تحسّر لأجل غيره فهو يتحسّر لحال غيره . ولذلك تجيء معه ( على ) التي تدخل على الشيء المتحسّر من أجله داخلة على ما يدلّ على غير التحسّر ، كقوله تعالى : { يا حسرة على العباد } فأمّا مع ( يا حسرتي ، أو يا حسرتا ) فإنّما تجيء ( على ) داخلة على الأمر الذي كان سبباً في التحسّر كما هنا على ما فرطنا فيها } . ومثل ذلك قولهم : يا ويلي ويا ويلتِي ، قال تعالى : { ويقولون يا ويلتنا } [ الكهف : 49 ] ، فإذا أراد المتكلِّم أنّ الويل لغيره قال : ويْلك ، قال تعالى : { ويلك آمنْ } [ الأحقاف : 17 ] ويقولون : ويل لك .
والحسرة : الندم الشديد ، وهو التلهّف ، وهي فَعْلة من حِسر يحْسَر حَسْراً ، من باب فرح ، ويقال : تحسّر تحسّراً . والعرب يعاملون اسم المرّة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرّة ، ولكنّهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد ، كمدلول لام الحقيقة ، ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأنّ المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرّة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية .
و { فَرّطنَا } أضعنا . يقال : فرّط في الأمر إذا تهاون بشيء ولم يحفظه ، أو في اكتسابه حتى فاته وأفلت منه . وهو يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { ما فرّطنا في الكتاب من شيء } [ الأنعام : 38 ] . والأكثر أن يتعدّى بحرف ( في ) فيقال فرّط في ماله ، إذا أضاعه .
و { مَا } موصولة ماصْدَقُها الأعمال الصالحة . ومفعول { فرّطنا } محذوف يعود إلى { مَا } . تقديره : ما فرّطناه وهم عامّ مثل معاده ، أي ندمنا على إضاعة كلّ ما من شأنه أن ينفعنا ففرّطناه ، وضمير { فيها } عائد إلى الساعة .
و« في » تعليلية ، أي ما فوّتناه من الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة ، ويجوز أن يكون { في } للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير ، أي في خيراتها . والمعنى على ما فرّطنا في الساعة ، يَعْنُونَ ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح . ويجوز أن يعود ضمير { فيها } على الحياة الدنيا ، فيكون « في » للظرفية الحقيقية .
وجملة : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } في موضع الحال من ضمير { قالوا } ، أي قالوا ذلك في حال أنّهم يحملون أوزارهم فهُم بين تلهّف على التفريط في الأعمال الصالحة والإيمان وبين مقاساة العذاب على الأوزار التي اقترفوها ، أي لم يكونوا محرومين من خير ذلك اليوم فحسب بل كانوا مع ذلك متعبين مثقلين بالعذاب .
والأوزار جمع وِزر بكسر الواو ، وهو الحمل الثقيل ، وفعله وزَرَ يَزِرُ إذا حمل . ومنه قوله هنا { ألا ساء ما يزرون } . وقوله : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] . وأطلق الوزر على الذنب والجناية لثقل عاقبتها على جانيها .
وقوله : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } تمثيل لهيئة عنتهم من جرّاء ذنوبهم بحال من يحمل حملاً ثقيلاً . وذكْر { على ظهورهم } هنا مبالغة في تمثيل الحالة ، كقوله تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] . فذكر الأيدي لأنّ الكسب يكون باليد ، فهو يشبه تخييل الاستعارة ولكنّه لا يتأتّى التخييل في التمثيلية لأنّ ما يذكر فيها صالح لاعتباره من جملة الهيئة ، فإنّ الحمل على الظهر مؤذن بنهاية ثقل المحمول على الحامل .
ومن لطائف التوجيه وضع لفظ الأوزار في هذا التمثيل ؛ فإنّه مشترك بين الأحمال الثقيلة وبين الذنوب ، وهم إنَّما وقعوا في هذه الشدّة من جرّاء ذنوبهم فكأنّهم يحملونها لأنّهم يعانون شدّة آلامها .
وجملة : { ألا ساء ما يزرون } تذييل . و ( ألا ) حرف استفتاح يفيد التنبيه للعناية بالخبر . و { ساء ما يزرون } إنشاء ذمّ . و { يزرون } بمعنى { يحملون } ، أي ساء ما يمثّل من حالهم بالحمْل . و { ما يزرون } فاعل { ساء } . والمخصوص بالذمّ محذوف ، تقديره : حَمْلُهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله}: بالبعث، {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة}: يوم القيامة، بغتة: فجأة، {قالوا يا حسرتنا}، يعني كفار قريش، {على ما فرطنا فيها}، يقولون: يا ندامتنا على ما ضيعنا في الدنيا من ذكر الله، ثم قال: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}، وذلك أن الكافر إذا بعث في الآخرة، أتاه عمله الخبيث في صورة حبشي، أشوه، منتن الريح، كريه المنظر، فيقول له الكافر: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، قد كنت أحملك في الدنيا بالشهوات واللذات، فاحملني اليوم، فيقول: وكيف أطيق حملك؟ فيقول: كما حملتك، فيركب ظهره، فذلك قوله: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون}، يعني ألا بئس ما يحملون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ": قد هلك ووكس في بيعهم الإيمان بالكفر "الذين كذّبوا بلقاء الله": الذين أنكروا البعث بعد الممات والثواب والعقاب والجنة والنار، من مشركي قريش ومن سلك سبيلهم في ذلك. "حتى إذَا جاءَتْهُمُ السّاعَةُ": حتى إذا جاءتهم الساعة التي يبعث الله فيها الموتى من قبورهم. وإنما أدخلت الألف واللام في «الساعة»، لأنها معروفة المعنى عند المخاطبين بها، وأنها مقصود بها قصد الساعة التي وصفت. ويعني بقوله: "بَغْتَةً": فجأة من غير علم مَن تفجؤه بوقت مفاجأتها إياه، يقال منه: بغتّه أبغته بَغْتَة: إذا أخذتَه كذلك. "قالُوا يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها "يقول تعالى ذكره: وكس الذين كذّبوا بلقاء الله، ببيعهم منازلهم من الجنة بمنازل من اشتروا منازله من أهل الجنة من النار، فإذا جاءتهم الساعة بغتة، قالوا إذا عاينوا ما باعوا وما اشتروا وتبيّنوا خسارة صفقة بيعهم التي سلفت منهم في الدنيا تندما وتلهفا على عظيم الغبن الذي غَبنوه أنفسهم وجليل الخسران الذي لا خسران أجلّ منه: "يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها": يا ندامتنا على ما ضيعنا فيها يعني في صفقتهم تلك. والهاء والألف في قوله: "فِيها "من ذكر الصفقة، ولكن اكتفى بدلالة قوله: "قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِلِقاءِ اللّهِ" عليها من ذكرها، إذ كان معلوما أن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع قد خسرت. وإنما معنى الكلام: قد وكس الذين كذّبوا بلقاء الله ببيعهم الإيمان الذي يستوجبون به من الله رضوانه وجنته بالكفر الذي يستوجبون به منه سخطه وعقوبته، ولا يشعرون ما عليهم من الخسران في ذلك حتى تقوم الساعة، فإذا جاءتهم الساعة بغتة فرأوا ما لحقهم من الخسران في بيعهم قالوا حينئذ تندما. "يا حَسْرَتَنا على ما فَرّطْنا فِيها".
حدثنا محمد بن عمارة الأسديّ، قال: حدثنا يزيد بن مهران، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، في قوله: يا حَسْرَتَنا قال: «يَرَى أهْلُ النّارِ مَنازِلَهُمْ مِنَ الجَنّةِ فَيَقُولُونَ يا حَسْرَتَنا».
"وَهُمْ يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ ألا ساءَ ما يَزِرُونَ": وهؤلاء الذين كذّبوا بلقاء الله يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ. وقوله "وَهُمْ": من ذكرهم. "يَحْمِلُونَ أوْزَارَهُمْ": آثامهم وذنوبهم، واحدها وِزْر، يقال منه: وَزَرَ الرجل يَزِرُ: إذا أثم، فإن أريد أنهم أثموا قيل: قد وُزِرَ القوم فهم يُوزَرُونَ وهم موزورون. وقد زعم بعضهم: أن الوزر: الثقل والحمل. ولست أعرف ذلك كذلك في شاهد ولا من رواية ثقة عن العرب. وقال تعالى ذكره: "على ظُهُورِهِمْ" لأن الحمل قد يكون على الرأس والمنكب وغير ذلك، فبّين موضع حملهم ما يحملون من ذلك، وذكر أن حملهم أوزارهم يومئذ على ظهورهم...
"ألا ساءَ ما يَزِرُونَ": ألا ساء الوزر الذي يزرون: أي الإثم الذي يأثمونه بكفرهم بربهم. كما:
عن قتادة، في قوله: "ألا ساءَ ما يَزِرُونَ" قال: ساء ما يعملون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كذبوا بلقاء الله} أي كذبوا لقاء وعد الله ووعيده في الدنيا،... وقوله تعالى: {حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} قيل: سميت القيامة ساعة لسرعتها ليست كالدنيا؛ لأن في الدنيا تتغير فيها على المرء الأحوال؛ يكون نطفة، ثم يصير علقه، ثم مضغة، ثم يصير خلفا آخر، ثم إنسانا، ثم يكون طفلا، ثم رجلا؛ تتغير عليه الأحوال. وأما القيامة فإنها لا تقوم على تغير الأحوال؛ فسميت الساعة لسرعتها بهم، وقيل: سميت القيامة الساعة لأنها تقوم في ساعة، وهو كقوله تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77] وقيل: سميت الساعة لما تقوم ساعة فساعة. {يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} قيل: التفريط هو التضييع؛ فيحتمل قوله: {ما فرطنا فيها} أي ما ضيعنا في الدنيا من المحاسن والطاعات، ويحتمل: ضيعنا في الآخرة من الثواب والجزاء الجزيل بكفرهم في الدنيا. {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} هو، والله أعلم، على التمثيل ليس على التحقيق؛ وهو يحتمل [وجوها: أحدها]: يحتمل أنه أخبر أنهم {يحملون أوزارهم على ظهورهم} بما لزموا أوزارهم وآثامهم، لم يفارقوها قط؛ وصفهم بالحمل على الظهر، وهو كقوله تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه} [الإسراء: 13] ولكن لما لزم ذلك صار كأنه في عنقه.
والثاني: إنما ذكر الظهر [لما على الظهر] يحمل ما يحمل...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
اخبر الله تعالى أنه خسر هؤلاء الكفار "الذين كذبوا بلقاء الله "يعني الذين كذبوا بما وعد الله به من الثواب والعقاب وجعل لقاءهم لذلك لقاء له تعالى مجازا، كما يقول المسلمون لمن مات منهم: قد لقي الله وصار اليه. وانما يعنون: لقي ما يستحقه من الله وصار إلى الموضع الذي لا يملك الأمر فيه سواه... وقوله "قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها" قد علم أن الحسرة لا تدعى وانما دعاؤها تنبيه للمخاطبين... قال الزجاج: العرب اذا اجتهدت في المبالغة في الأخبار عن أمر عظيم يقع فيه جعلته نداء، فلفظه لفظ ما ينبه، والمنبه به غيره.. وقوله "وهم يحملون أوزارهم" يعني ثقل ذنوبهم، وهذا مثل جائز أن يكون جعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمل، لأن الثقل قد يستعمل في الوزن وقد يستعمل في الحال؛ تقول في الحال: قد ثقل علي خطاب فلان، ومعناه كرهت خطابه كراهة اشتدت علي. ويحتمل أن يكون المراد بالأوزار العقوبات التي استحقوها بالذنوب والعقوبات قد تسمى أوزارا، فبين أنه لثقلها عليهم يحملونها على ظهورهم. وذلك يدل على عظمها...وقال بعضهم: معنى "يحملون أوزارهم على ظهورهم" وصف افتضاحهم في الموقف بما يشاهدونه من حالهم وعجزهم عن عبور الصراط كما يعبره المخفون من المؤمنين.
ومعنى قوله "ألا ساء" ما ينالهم جزاء لذنوبهم واعمالهم الردية إذ كان ذلك عذابا ونكالا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {حتى} غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. أي ما زال بهم التكذيب إلى حسرتهم وقت مجيء الساعة.
فإن قلت: أما يتحسرون عند موتهم؟ قلت: لما كان الموت وقوعاً في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من مات فقد قامت قيامته» أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة {بَغْتَةً} فجأة وانتصابها على الحال بمعنى باغتة، أو على المصدر كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة {فَرَّطْنَا فِيهَا} الضمير للحياة الدنيا، جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو للساعة على معنى: قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان. ومنه فرّطت في جنب الله {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} كقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور، كما ألف الكسب بالأيدي {سَاء مَا يَزِرُونَ} بئس شيئاً يزرون وزرهم، كقوله {سَاء مَثَلاً القوم} [الأعراف: 177].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
.. و {فرطنا} معناه قصرنا مع القدرة على ترك التقصير، وهذه حقيقة التفريط، والضمير في قوله {فيها} عائد على {الساعة} أي في التقدمة لها، وهذا قول الحسن، وقال الطبري يعود على الصفقة التي يتضمنها ذكر الخسارة في أول الآية. ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا إذ المعنى يقتضيها، وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار، وعوده على {الساعة} إنما معناه في أمورها والاستعداد لها، بمنزلة زيد في العلم مشتغل.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
قوله تعالى: {يا حسرتنا} الحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وأهل التفسير يقولون: يا ندامتنا..
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من هذه الآية شرح حالة أخرى من أحوال منكري البعث والقيامة وهي أمران: أحدهما: حصول الخسران. والثاني: حمل الأوزار العظيمة...
المسألة الثانية: المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قفى على ذكر ما ربحوا من الشقاء والعذاب، ببيان ما خسروا من السعادة والثواب- وإنما هو خسر على خسر – فقال: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله} أي خسر أولئك الكفار الذين كذبوا بلقاء الله تعالى كل ما ربحه وفاز به المؤمنون بلقائه من ثمرات الإيمان وعبادة الله ومناجاته في الدنيا كالقناعة والإيثار والرضاء من الله في كل حال، والشكر له عند النعمة، والصبر والعزاء والطمأنينة عند المصيبة، وغير ذلك من المزايا التي تصغر معها المصائب والشدائد، ويكبر قدر النعم والمواهب. ومن ثمرات الإيمان في الآخرة من الحساب اليسير، والثواب الكبير، والرضوان الأكبر، وهو {ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر} كل ذلك مما يخسره المكذبون بلقاء الله بسبب تكذيبهم، لأنهم يخسرون في الحقيقة أنفسهم، وإنما حذف مفعول « خسر» للدلالة على ذلك كله، وجعل فاعله موصولا لدلالة صلته على سبب الخسران، لأن التكذيب بلقاء الله تعالى يستلزم ما سيأتي بيانه من الأعمال والأحوال التي تفسد النفس، ومن خسر نفسه بفسادها خسر كل شيء.
{حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة} أي كذبوا إلى أن جاءتهم الساعة مباغتة مفاجئة، وقيل إن الغاية للخسران بقصره على ما كان منه في الدنيا. والساعة في أصل اللغة الزمن القصير المعين بعمل يقع فيه، يقال جلست إليه ساعة وغاب عني ساعة. وأطلق في كتب الدين على الوقت الذي ينقضي به أجل هذه الحياة ويخرب هذا العالم وإنما يكون ذلك في زمن قصير. وعلى ما يلي ذلك من البعث والحساب وهو يوم القيامة، فإن كان إطلاقه عليه بالتبع لإطلاقه على ساعة خراب العالم فذاك، وإلا كان وجه تسميته ساعة باعتبار سرعة الحساب فيه (راجع ج2 تفسير) أو بالإضافة إلى ما بعده – قولان: وهذه الساعة ساعة هذا العالم كله، ومن دونها ساعة كل فرد وقيامته وهو الوقت الذي يموت فيه ويقدم على ذلك العالم، وكذا ساعة الأمة أو الجيل؛ ولذلك قالوا إن القيامة ثلاث كبرى ووسطى وصغرى، وقد تقدم هذا البحث في الجزء الخامس من التفسير.
وفسر الراغب الساعة هنا بالقيامة الصغرى، إذ هو الذي ينطبق على الكفار الذين نزلت فيهم هذه الآيات والقيامة الكبرى إنما تقوم على آخر من يكون من الخلق على هذه الأرض. والجمهور يفسرونها بالقيامة الكبرى وهي باعتبار غايتها – وهو يوم يقوم الناس لرب العالمين – تصدق على من نزلت الآية فيهم وعلى غيرهم، وباعتبار بدايتها تصدق على آخر من يعيش في الدنيا فقط. ويرون أن البغتة لا تظهر في موت الأفراد لما يكون له في الغالب من المقدمات والعلامات التي يعرف بها وقته في الجملة.
وقد ذكر مجيء الساعة بغتة في عدة آيات غير هذه يتعين أن يكون بها القيامة الكبرى العامة، وهي التي ورد في الكتاب والسنة أن الله تعالى أخفى علمها عن كل أحد حتى الرسل والملائكة. وأما قوله تعالى: {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34] فلا يدل على مجيء الموت بغتة ولا على جهل كل أحد بوقته فقد يعرف بأسبابه كالأمراض والجروح. وقد يقال إن المرض ونحوه لا يدل على الموت مهما يكن شديدا، فكم من مريض جزم الأطباء بأنه لا يعيش إلا أياما أو ساعات قد شفي من مرضه ذاك وعاش بعده عدة أعوام، على أن المريض لا ييأس من الحياة ما دام فيه رمق، فبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه موت الفجأة، ومن لم يجئه الموت فجأة جاءه المرض الذي يعقبه الموت فجأة ولات حين استعداد، ولا رجوع عن شرك وإلحاد، بل يموت المرء على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويندر أن يظهر لأحد في مرض مماته، ضلاله الذي عاش عليه طول حياته، ولا ينكشف الغطاء عن الإنسان ويعلم أنه فارق هذه الحياة إلى العالم الآخر إلا عند خروج روحه من بدنه، وحينئذ يتحسر المفرطون، ويندم المجرمون، ثم تتجدد الحسرة في موقف الحساب، وتتضاعف عند حلول العذاب.
{قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} هذا جواب « إذا» أي قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وأصروا على ذلك حتى إذا جاءتهم منيتهم وهي بالنسبة إليهم مبدأ الساعة العامة، والمرحلة الأولى من مقدمات القيامة، مفاجئة لهم من حيث لم يكونوا ينتظرونها، ولا يحسبون حسابا ولا يعدون عدة لمجيئها، قالوا: يا حسرتنا على تفريطنا! هذا أوانك فاحضري، وبرحي بالأنفس ما شئت أن تبرحي؛ والحسرة – كما قال الراغب – الغم على ما فات والندم عليه، كأن المتحسر قد انحسر (أي زال وانكشف) عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، أو انحسرت عنه قواه من فرط الغم، أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه. ونداء الحسرة فسره سيبويه بالمعنى الذي بيناه آنفا.
وقال الزجاج: إن معنى حرف النداء تنبيه المخاطبين، وقيل بل المراد به تنبيه المتكلم لنفسه، وتذكيرها بسبب ما حل به. والتفريط التقصير، ممن قدر على الجد والتشمير، وهو من الفرط بمعنى السبق ومنه الفارط والفرط الذي يسبق المسافرين لإعداد الماء لهم. والتضعيف فيه للسلب والإزالة كجلدت البعير إذا سلخت جلده وأزلته عنه. فيكون معنى التفريط الحقيقي عدم الاستعداد لما ينفع في المستقبل كتقديم الفرط. أي يا حسرتنا وغمنا وندمنا على ما كان من تفريطنا فيها أي في حياتنا الدنيا، التي كنا نزعم أن لا حياة لنا بعدها، أو في الساعة أو ما هي مفتاح له من الدار الآخرة وهي تشمل الجنة والنار، وقد جعلها بعضهم مرجعين مستقلين، أي على تفريطنا في شأنها بعدم الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح، وقيل إن الضمير للأعمال الصالحات المفهومة من كلمة « فرطنا» لأن التقصير إنما يكون في العمل. وقيل للصفقة المفهومة من كلمة « خسر» وهي بيعهم الآخرة بالدنيا. وهذا أضعف الأقوال، وأقواها أولها، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.
ومن غرائب غفلات المفسرين ما نقله بعض أذكيائهم عن بعض من دعوى أن مرجع الضمير في هذا القول غير مذكور في كلامهم، على كونه هو المذكور فيه دون سواه من المراجع الثلاثة الأخرى. ولكنهم ذهلوا عن قوله تعالى حكاية عنهم {وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا} الخ وعن كون ما بعده بيانا لعاقبته وما ترتب عليه لا سياقا جديدا مستقلا، وأما الساعة فهي مذكورة فيما حكاه الله من شأنهم لا عنهم، فكان عود الضمير عليها في المرتبة الثانية من القوة.
{وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} الأوزار جمع وزر وهو بالكسر الحمل الثقيل، ووزره (بوزن وعده) حمله على ظهره، ويطلق الوزر على الإثم والذنب، لأن ثقله على النفس كثقل الحمل على الظهر، وهو المراد في الآية، وجعل الذنوب محمولة على الظهور مجاز من باب التمثيل بالاستعارة لأن حالة الأنفس فيما تقاسيه من سوء تأثير الذنوب فيها وما يترتب على ذلك من التعب والشقاء والآلام يشبه هيئة الأبدان في حال نوئها بالأحمال الثقيلة وما تقاسيه في ذلك من التعب والجهد والزحير، أو هو محمول على القول بتجسم المعاني والأعمال في الآخرة، وتمثلها هي ومادتها بصور تناسبها في الحسن أو القبح، كما ورد في الغلول والمال الذي لا تؤدي زكاته.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي وعمرو بن قيس الملائي أن الأعمال القبيحة تتمثل بصورة رجل قبيح يحمله صاحبها يوم القيامة، والصالحة بصورة رجل حسن أو صورة حسنة تحمل صاحبها يوم القيامة، ويجوز أن يكون هذا القول من قبيل التمثيل أيضا. والمعنى أنهم ينادون الحسرة التي أحاطت بهم أسبابها وهم في أسوأ حال بما يحملون من أوزارهم على ظهورهم، وقد بين الله تعالى سوء تلك الحال، التي تلابسهم عند اللهج بذلك المقال، بقوله: {ألا ساء ما يزرون (31)} فبدء هذه الجملة بألا الافتتاحية التي يراد بها العناية بما بعدها وتوجيه ذهن السامع إليه – يفيد المبالغة في تقريره وتأكيد مضمونه، ووجوب الاهتمام بالاعتبار به، و « ساء» فعل ذم أشرب معنى التعجب أو التعجيب، أي ما أسوأ حملهم ذاك أو ما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها، وقيل إن « ساء» هنا هو الفعل المتعدي أي ساءهم وأحزنهم حملهم لتلك الأوزار، أو ساءتهم تلك الأوزار التي يحملونها. والأول أبلغ.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله. حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها!).. فهي الخسارة المحققة المطلقة.. خسارة الدنيا بقضاء الحياة فيها في ذلك المستوى الأدنى.. وخسارة الآخرة على النحو الذي رأينا.. والمفاجأة التي لم يحسب لها أولئك الغافلون الجاهلون حسابا: (حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها!).. ثم مشهدهم كالدواب الموقرة بالأحمال: (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم).. بل الدواب أحسن حالا. فهي تحمل أوزارا من الأثقال. ولكن هؤلاء يحملون أوزارا من الآثام! والدواب تحط عنها أوزارها فتذهب لتستريح. وهؤلاء يذهبون بأوزارهم إلى الجحيم. مشيعين بالتأثيم: (ألا ساء ما يزرون!)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والخسارة هنا حرمان خيرات الآخرة لا الدنيا...
ولقاء الله هو ظهور آثار رضاه وغضبه دون تأخير ولا إمهال ولا وقاية بأسباب عادية من نظام الحياة الدنيا، فلمّا كان العالم الأخروي وهو ما بعد البعث عالم ظهور الحقائق بآثارها دون موانع، وتلك الحقائق هي مراد الله الأعلى الذي جعله عالم كمال الحقائق، جعل المصير إليه مماثلاً للقاء صاحب الحق بعد الغيبة والاستقلال عنه زماناً طويلاً، فلذلك سمّي البعث ملاقاة الله، ولقاء الله ومصيراً إلى الله، ومجيئاً إليه، في كثير من الآيات والألفاظ النبوية،... والساعة: علَم بالغلبة على ساعة البعث والحشر...
والحسرة: الندم الشديد، وهو التلهّف، وهي فَعْلة من حِسر يحْسَر حَسْراً، من باب فرح، ويقال: تحسّر تحسّراً. والعرب يعاملون اسم المرّة معاملة مطلق المصدر غير ملاحظين فيه معنى المرّة، ولكنّهم يلاحظون المصدر في ضمن فرد، كمدلول لام الحقيقة، ولذلك يحسن هذا الاعتبار في مقام النداء لأنّ المصدر اسم للحاصل بالفعل بخلاف اسم المرّة فهو اسم لفرد من أفراد المصدر فيقوم مقام الماهية...
و« في» تعليلية، أي ما فوّتناه من الأعمال النافعة لأجل نفع هذه الساعة، ويجوز أن يكون {في} للتعدية بتقدير مضاف إلى الضمير، أي في خيراتها.
والمعنى على ما فرّطنا في الساعة، يَعْنُونَ ما شاهدوه من نجاة ونعيم أهل الفلاح. ويجوز أن يعود ضمير {فيها} على الحياة الدنيا، فيكون « في» للظرفية الحقيقية.
ومن لطائف التوجيه وضع لفظ الأوزار في هذا التمثيل؛ فإنّه مشترك بين الأحمال الثقيلة وبين الذنوب، وهم إنَّما وقعوا في هذه الشدّة من جرّاء ذنوبهم فكأنّهم يحملونها لأنّهم يعانون شدّة آلامها.
... وجملة: {ألا ساء ما يزرون} تذييل. و (ألا) حرف استفتاح يفيد التنبيه للعناية بالخبر. و {ساء ما يزرون} إنشاء ذمّ. و {يزرون} بمعنى {يحملون}، أي ساء ما يمثّل من حالهم بالحمْل. و {ما يزرون} فاعل {ساء}. والمخصوص بالذمّ محذوف، تقديره: حَمْلُهم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ثم أراد الله أن يبيّن لهم الحقيقة على مستوى القاعدة، ليتأمل الإنسان ويعيد النظر في حسابات الربح والخسارة في عمله أمام الله. {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ} لأنهم لم يستعدّوا لذلك، انطلاقاً من إنكارهم له، فعاشوا الغفلة كل الغفلة لما ينتظرهم من حساب الله وعقابه. {حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ} من دون انتظار، وهم سادرون في غيّهم ولهوهم وعبثهم وغفلتهم {قَالُواْ يحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أخذوا يشعرون بالحسرة التي تثقل وجدانهم وتضغط على مشاعرهم، وتثير انفعالاتهم.. فقد فرّطوا في يوم القيامة، فلم يعملوا على ربح الموقف فيه، من خلال سلامة الموقف في الدنيا، {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ} فهم لم يكتفوا بترك العمل للجنة، بل أثقلوا ظهورهم بالأحمال الثقيلة بكفرهم وعصيانهم وانحرافهم وتمردهم، وذلك هو مغزى التعبير بالأوزار على الظهور، للإيحاء بأن الانحراف عن خط الله في العقيدة والعمل يثقل روح الإنسان وضميره وحياته ومصيره.. فاستعار الثقل المادي للثقل المعنويّ. {أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} وأيّ سوءٍ أشدّ من العناء الذي يلاقيه الإنسان من أحمالٍ ثقيلةٍ ينوء بها، ثم تلقي به بعد ذلك في أعماق الهاوية، من دون أن يجني من تعبه إلاَّ الخسران والعذاب؟! وتلك هي الحسرة الكبرى التي يواجه فيها الإنسان بعد العناء الطويل الخسران الكبير.