المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

208- يا أيها الذين آمنوا كونوا جميعاً مسالمين فيما بينكم ، ولا تثيروا العصبيات الجاهلية وغيرها من أسباب النزاع والخلاف ، ولا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم إلى الشقاق فإنه لكم عدو مبين{[16]} .


[16]:هذا النص القرآني فيه دعوة عامة من المؤمنين إلى السلام، ويفيد أن الحرب والخصام هي من السير وراء الشيطان، والإسلام يدعو عامة المؤمنين إلى أن يكونوا مسالمين مع غيرهم، ومسالمين في داخل أنفسهم، فلا حرب مع غيرهم، ولا حرب فيما بينهم. وإن هذا النص يدل على أن الأصل في العلاقة بين الدول الإسلامية وغيرها هو المسلم، وأن ذلك هو مبدأ الأديان السماوية كلها، ففي الوقت الذي كان فيه قانون الغابة هو الذي يحكم الدول، وهو الذي يحدد العلاقات بينها: القوي يأكل الضعيف، جاء الإسلام بذلك المبدأ السامي، وهو أن العلاقة هي السلم، وإذا كان القتال فإنه لدفع الاعتداء، أي لحمل المعتدي على أن يكون مسالما، فالحرب التي شرعها الإسلام، وشرعتها الأديان هي لتثبيت دعائم السلم وتحقيق العدل، فهي حرب السلام لاستقرار العدل والسلام.
 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا { فِي السِّلْمِ كَافَّةً } أي : في جميع شرائع الدين ، ولا يتركوا منها شيئا ، وأن لا يكونوا ممن اتخذ إلهه هواه ، إن وافق الأمر المشروع هواه فعله ، وإن خالفه ، تركه ، بل الواجب أن يكون الهوى ، تبعا للدين ، وأن يفعل كل ما يقدر عليه ، من أفعال الخير ، وما يعجز عنه ، يلتزمه وينويه ، فيدركه بنيته .

ولما كان الدخول في السلم كافة ، لا يمكن ولا يتصور إلا بمخالفة طرق الشيطان قال : { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : في العمل بمعاصي الله { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } والعدو المبين ، لا يأمر إلا بالسوء والفحشاء ، وما به الضرر عليكم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

وبعد أن عرض القرآن هذين النوعين اللذين نجدهما في كل زمان ومكان ، وجه نداء إلى المؤمنين دعاهم فيه إلى الاستجابة التامة لخالقهم فقال - تعالى - :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا . . . }

{ السلم } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام - بمعنى واحد ، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة - وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل { السلم } بكسر السين - للإِسلام ، و { السلم } - بفتحها - للمسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة .

قال الفخر الرازي : وأصل هذه الكلمة من الانقياد . قال - تعالى - : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } والإِسلام إنما سمى إسلامها لهذا المعنى . وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى . لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه " .

و { كَآفَّةً } أي جميعاً ، وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهي حال من قوله : { السلم } أي : يأيها المؤمنون ادخلوا في الإِسلام والتزاموا بكل تعاليمه ، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه ، واعملوا بكل أوامره ونواهيه ، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه .

وبعضهم يرى أن قوله : { كَآفَّةً } حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه : ادخلوا في الإِسلام جميعاً ، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين ، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .

وسواء أكان لفظ { كَآفَّةً } حالا من { السلم } أو من فاعل { ادخلوا } فالمقصود من الآية دعوة المؤمنون إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف .

وإذا كان المراد بكلمة { السلم } المسالمة والمصالحة كان المعنى : يأيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين ، متحابين غير متباغضين ، متجمعين غير متفرقين ، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم ، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم ، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله .

هذا هو المعنى الذي نراه ظاهراً في الآية ، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين .

وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمني أهل الكتاب ، لما روى عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام - فعظموا السبت وكرهوا لحم الإِبل وألبانها بعد أن أسلموا ، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا ، إنا نقوى على هذا وهذا ؛ وقالوا النبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية . فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب .

وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير : يأيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإِسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان .

وهذان القولان ضعفهما ظاهر ، إذ لا سند لهما يعتمد عليه ، ولا يؤيدها سياق الآية الكريمة ، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإِسلام ، وإلى الإِخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء .

وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول في السلم .

أي : ادخلوا في السلم واحذورا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل .

والخطوات . جمع خطوة - بفت الخاء وضمها - وهي ما بين قدمي من يخطو .

وفي قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } إشعار بأن الشيطان كثيراً ما يجر الإِنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد ، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه ، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .

وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } جملة تعليلية ، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ }

اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع ، فقال بعضهم : معناه : الإسلام . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجل : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : ادخلوا في الإسلام .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : ادخلوا في الإسلام .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : السلم : الإسلام .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن النضر بن عربي ، عن مجاهد : ادخلوا في الإسلام .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قال : السلم : الإسلام .

حدثني موسى بن هارون ، قال : أخبرنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ يقول : في الإسلام .

حدثت عن الحسين بن فرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ : في الإسلام .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ادخلوا في الطاعة . ذكر من قال ذلك :

حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ يقول : ادخلوا في الطاعة .

وقد اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز : «ادْخُلُوا فِي السّلْمِ » بفتح السين . وقرأته عامة قراء الكوفيين بكسر السين . فأما الذين فتحوا السين من «السلم » ، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة ، بمعنى : ادخلوا في الصلح والمسالمة وترك الحرب وإعطاء الجزية . وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من السين فإنهم مختلفون في تأويله فمنهم من يوجهه إلى الإسلام ، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة ، ومنهم من يوجهه إلى الصلح ، بمعنى : ادخلوا في الصلح ، ويستشهد على أن السين تكسر ، وهي بمعنى الصلح بقول زهير بن أبي سلمى :

وقدْ قُلْتُما إنْ نُدْركِ السّلْمَ وَاسِعا *** بِمَالٍ وَمَعُروفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلمِ

وأولى التأويلات بقوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ قول من قال : معناه : ادخلوا في الإسلام كافة .

وأما الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك ، فقراءة من قرأ بكسر السين لأن ذلك إذا قرىء كذلك وإن كان قد يحتمل معنى الصلح ، فإن معنى الإسلام : ودوام الأمر الصالح عند العرب ، أغلب عليه من الصلح والمسالمة ، وينشد بيت أخي كندة :

دَعَوْتُ عَشِيرَتي للسّلْمِ لَمّا *** رأيْتُهُمْ تَوَلّوْا مُدْبِرِينا

بكسر السين ، بمعنى : دعوتهم للإسلام لما ارتدوا ، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائر ما في القرآن من ذكر السلم بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة ، فإنه كان يخصها بكسر سينها توجيها منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها .

وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ وصرفنا معناه إلى الإسلام ، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون ، فلن يعدو الخطاب إذ كان خطابا للمؤمنين من أحد أمرين ، إما أن يكون خطابا للمؤمنين بمحمد المصدّقين به وبما جاء به ، فإن يكن ذلك كذلك ، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان : ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم ، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربا بترك الحرب . فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له : صالح فلانا ، ولا حرب بينهما ولا عداوة . أو يكون خطابا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدقين بهم ، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدا ونبوّته ، فقيل لهم : ادخلوا في السلم يعني به الإسلام لا الصلح . لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به ، وإلى ذلك دعاهم دون المسالمة والمصالحة بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام ، فقال : فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلى السّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللّهُ مَعَكُمْ وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعوه إلى الصلح ابتداء المصالحة ، فقال له جل ثناؤه : وَإنْ جَنَحُوا للسّلْمِ فاجنَحْ لَهَا فأما دعاؤهم إلى الصلح ابتداء فغير موجود في القرآن ، فيجوز توجيه قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ إلى ذلك .

فإن قال لنا قائل : فأيّ هذين الفريقين دعي إلى الإسلام كافة ؟ قيل قد اختلف في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : دعي إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وما جاء به .

وقال آخرون : قيل : دعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد .

فإن قال : فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام ؟ قيل : وجه دعائه إلى ذلك الأمر له بالعمل بجميع شرائعه ، وإقامة جميع أحكامه وحدوده ، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه . وإذا كان ذلك معناه ، كان قوله كافّةً من صفة السلم ، ويكون تأويله : ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم ، ولا تضيعوا شيئا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به . وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : نزلت في ثعلبة وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسيد ابني كعب وشعبة بن عمرو وقيس بن زيد ، كلهم من يهود ، قالوا : يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه ، وإن التوراة كتاب الله ، فدعنا فلنقم بها بالليل فنزلت : يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا في السّلْمِ كافةً وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ .

فقد صرّح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام ، والعمل بجميع شرائع الإسلام ، والنهي عن تضييع شيء من حدوده .

وقال آخرون : بل الفريق الذي دعي إلى السلم فقيل لهم ادخلوا فيه بهذه الآية هم أهل الكتاب ، أمروا بالدخول في الإسلام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً يعني أهل الكتاب .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قول الله عزّ وجلّ : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : يعني أهل الكتاب .

والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها ، وقد يدخل في الذين آمنوا المصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به ، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرسل ، وما جاءوا به ، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده ، والمحافظة على فرائضه التي فرضها ، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك ، فالآية عامة لكل من شمله اسم الإيمان ، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض .

وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : ادخلوا في الإسلام كافة ، ادخلوا في الأعمال كافة .

القول في تأويل قوله تعالى : كافّةً يعني جل ثناؤه كافّةً عامة جميعا . كما :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة قوله : في السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .

وحدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا ، وعن أبيه ، عن قتادة ، مثله .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، عن النضر ، عن مجاهد ، ادْخُلُوا في الإسلام جميعا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس : كافّةً : جميعا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كافّةً جميعا ، وقرأ : وَقاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافّةً كمَا يُقاتِلُونَكُمْ كافةً : جميعا .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ادْخُلُوا فِي السّلْمِ كافّةً قال : جميعا .

القول في تأويل قوله تعالى : وَلا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطانِ إنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ .

يعني جل ثناؤه بذلك : اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها ، وادخلوا في التصديق به قولاً وعملاً ، ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدوّ مبين لكم عداوته . وطريق الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه ، ومنه تَسْبِيتُ السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام . وقد بينت معنى الخطوات بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى ، فكرهت إعادته في هذا المكان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ} (208)

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 208 )

ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي " السلم " بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع( {[1947]} ) ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يقعان للإسلام وللمسالمة .

وقال أبو عمرو بن العلاء : السِّلم بكسر السين الإسلام ، وبالفتح المسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة ، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة ، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها ، وأما أن يبتدىء بها فلا .

واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب ؟ فقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده ، ويستغرق { كافة } حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع( {[1948]} ) ، فتكون الحال من شيئين( {[1949]} ) ، وذلك جائز ، نحو قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله }( {[1950]} ) [ مريم : 27 ] ، إلى غير ذلك من الأمثلة .

وقال عكرمة : «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره » .

وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوارة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم ، ف { كافة } على هذا لإجزاء الشرع فقط .

وقال ابن عباس : «نزلت الآية في أهل الكتاب » ، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة ، ف { كافة } على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام ، ومن يراها المسالمة يقول : أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية ، و { كافة } معناه جميعاً ، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها( {[1951]} ) ، وقيل : إن { كافة } نعت لمصدر محذوف ، كأن الكلام : دخله كافة ، فلما حذفت المنعوت بقي النعت حالاً ، وتقدم القول في { خطوات } ، والألف واللام في { الشيطان } للجنس ، و { عدو } يقع على الواحد والاثنين والجميع ، و { مبين } يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته( {[1952]} ) وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو ، لأن العرب تقول : بان الأمر وأبان بمعنى واحد .


[1947]:- وأما في الأنفال في قوله تعالى [وإن جنحوا للسِّلْم] فقرأ شعبة بكسْر السِّين، وفي سورة القتال في قوله تعالى: [وتدعوا إلى السِّلم] قرأ حمزة وشعبة بالكسر.
[1948]:- أي جميع خلال الإيمان وشرائع الإسلام.
[1949]:- يعني: من ضمير الفاعل في (ادخلوا) ومن (السِّلم)، وذلك جائز في العربية، إلا أن الأولى أن يكون من الفاعل.
[1950]:- من الآية (27) من سورة (مريم) والشاهد هو أن جملة الحال (تحمله) جاءت من ضمير الفاعل في (جاءت)، ومن الضمير في (به) – فدل ذلك على جواز مجيء الفاعل من شيئين في العربية.
[1951]:- هذا باعتبار أصل الوضع، ثم صارت تستعمل عندهم بمعنى جميعا كما قال هو ذلك آنفا.
[1952]:- بعدم امتثال الأمر بالسجود لآدم، وبقوله: [لاحتنكنّ ذريته إلا قليلا].