54- واذكروا يوم قال لكم رسولكم موسى : يا قوم ، لقد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم عجل السامري معبوداً ، فتوبوا إلى ربكم خالقكم من العدم ، بأن تغضبوا على أنفسكم الشريرة الآمرة بالسوء وتذلوها ، لتتجدد بنفوس مطهرة ، فأعانكم الله على ذلك ووفقكم له وكان ذلك خيراً لكم عند خالقكم ، ولهذا قَبِل توبتكم وعفا عنكم ، فهو كثير التوبة على عباده ، واسع الرحمة بهم .
سادساً : ( نعمة إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم ) :
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة جليلة ، وهي إرشادهم إلى ما به يتخلصون من ذنوبهم وإخبارهم بقبول توبتهم ، فقال تعالى :
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ . . . }
المعنى : واذكروا يا بني إسرائيل - لتنتفعوا وتعتبروا - وقت أن قال موسى لقومه الذين عبدوا العجل حين كان يناجي ربه بعيداً عنهم : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم وهبطتم بها إلى الحضيض بعبادتكم غير الله - تعالى - فإذا أردتم التكفير عن خطاياكم . فتوبوا إلى ربكم توبة صادقة نصوحاً ، واقتلوا أنفسكم لتنالوا عفو ربكم ، فذلكم خير لكم عند خالقكم من الإِقامة على المعصية ، ففعلتم ذلك فقبل الله توبتكم ؛ لأنه هو الذي يقبل التوبة عن عباده على كثرة ما يصدر عنهم من ذنوب ؛ لأنه هو الواسع الرحمة لمن ينيب إليه ويستقيم على صراطه الواضح .
وفي نداء موسى - عليه السلام - لهم بقوله : " يا قوم " تلطف في الخطاب ليجذب قلوبهم إلى سماعه ، وليحملهم على تلقي أوامره بحسن الطاعة ، وليشعرهم بأنهم قومه فهو منهم وهم منه ، والشأن فيمن كان كذلك ألا يكذب عليهم أو يخدعهم ، وإنما يريد لهم الخير .
والبارئ هو الخالق للمخلوقات بدون تفاوت أو اضطراب ، فهو أخص من الخالق ، ولذا قال تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } وفي هذا التعبير الحكيم ، تحريض لهم على التوبة والاستجابة للبارئ الذي أحسن كل شيء خلقه ، وفيه أيضاً تقريع لهم على غباوتهم ، حيث تركوا عبادة بديع السموات والأرض ، وعبدوا عجلا ضرب به المثل في الغباوة فقالوا " أبلد من ثور " فكأنه - سبحانه - يقول لهم : لقد اتخذتم هذا العجل إلهاً لتشابهكم معه في البلادة وضيق الأفق .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ ؟ قلت : البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } ومتميزاً بعضه عن بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة ، فكان فيه تقريع بما ان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف وحكمته على الأشكال المختلفة ، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في البعاوة والبلادة ، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم ، ونثر ما نظم من صورهم وأشكالهم ، حين لم يشكروا النعمة في ذلك ، وغمطوها بعبادة ما لا يقدر على شيء منها " اه .
وقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } أمر من موسى - عليه السلام - لهم بقتلهم أنفسهم حتى تكون توبتهم مقبولة ، وهذا الأمر بلغه موسى إياهم عن ربه ، إذ مثل هذا الأمر لا يصدر إلا عن وحي لأنه تشريع من الله - تعالى - .
والمراد بقتلهم أنفسهم أن يقتل من لم يعبد العجل منهم عابديه ، فيكون المعنى : ليقتل بعضكم بعضاً ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } أي فليسلم بعضكم على بعض .
وقيل : المراد أن يقتل كل من عبد العجل نفسه قتلا حقيقياً حتى يكفر عن ردته بعبادته لغير الله ، وقد ورد أنهم فعلوا ذلك ، وأن الله - تعالى - رفع عنهم القتل وعفا عمن بقي منهم على قيد الحياة كرما منه وفضلا ، وهذا هو معنى التوبة في قوله تعالى { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، ومعنى العفو في قوله تعالى : في الآية السابقة { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } وقد ساق ابن كثير وغيره من المفسرين كثيراً من الآثار التي تحدثت عن كيفية حصول هذا القتل ، من ذلك ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عياس ، أنه قال : " قال تعالى لموسى : إن توبة عبدة العجل أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن فتاب أولئك الذين كانوا خفى على موسى وهارون ، ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها . وفعلوا ما أمروا به ، فغفر الله للقاتل والمقتول " .
وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب الزهري أنه قال : " لما أمر بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا ومعهم موسى ، فتضاربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه ، حتى إذا فتروا أتاه بعضهم ، فقال له : يا نبي الله ادع الله لنا ، وأخذوا بعضديه يشدون يديه . فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح ، وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله - جل ثناؤه - إلى موسى { لاَ تَحْزَنْ } أما من قتل فحى عندي يرزق ، وأما من بقي ، فقد قبلت توبته ، فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل " .
وجملة { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ } تعليله ، جيء بها لتحريضهم على الامتثال والطاعة لما أمرهم به نبيهم - عليه السلام - واسم الإِشارة { ذَلِكُمْ } يعود إلى التوبة والقتل المفهومين مما تقدم .
وجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .
وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } جواب لشرط محذوف للإِيجار ، أي فامتثلتم ما أمرتم به ، فقيل الباري توبتكم ، وهي خطاب من الله - تعالى - لبني إسرائيل على لسان موسى ، فيه تذكير بنعمته ، وإرشاد لهم إلى موطن المنة والفضل وهو قبول توبتهم .
وعطفت هذه الجملة { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } بالفاء ، لإِشعارهم بأنه - سبحانه - لم يتركهم ليستأصلوا أنفسهم جميعاً بالقتل ، بل تداركهم بلطفه ورحمته ، فقبل توبتهم ، ورفع عقوبة القتل عمن بقي منهم .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } إخبار وثناء على الله - تعالى - بما هو أهثله من عفو ورحمة .
وأكدها - سبحانه - بتنزيلهم منزلة من يشك في قبول توبته ، لعظم جريمتهم وضخامة خطيئتهم وسيرهم إلى أمد بعيد في طريق الشيطان .
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت نعمة كبرى على بني إسرائيل فإن الله - تعالى - لطف بهم ، ورحمهم ، وقبل توبتهم ، وعفا عن قتلهم أنفسهم ، بعد أن صدر منهم ما يدل على صدقهم في توبتهم ، كما تضمنت - أيضاً - تذكير بني إسرائيل المعاصرين للعهد النبوي بنعم الله عليهم ، لأنه لولا عفوه - سبحانه - عن آبائهم لما وجدوا هم ، وفيها - كذلك - إشارة إلى سماحة الشريعة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم وإغراء لليهود المعاصرين له بالدخول في الإِسلام لأنه إذا كان آباؤهم لم تقبل توبتهم إلا بقتلهم أنفسهم فإن شريعة الإِسلام تقول لهم : لقد جاءكم النبي الذي رفع عنكم إصركم والأغلال التي كانت على أسلافكم ، فآمنوا به واتبعوه لعلكم ترحمون .
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوَاْ إِلَىَ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ }
وتأويل ذلك : واذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل : يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم . وظلمهم إياها كان فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى ، وكذلك كل فاعل فعلاً يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى . وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم ، هو ما أخبر الله عنهم من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم ، ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم والإنابة إلى الله من ردّتهم بالتوبة إليه ، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه قتلهم أنفسهم . وقد دللنا فيما مضى على أن معنى التوبة : الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته . فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم على ما أمرهم به . كما :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبد الرحمن ، أنه قال في هذه الآية : فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ قال : عمدوا إلى الخناجر ، فجعل يطعن بعضهم بعضا .
حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، قال ابن جريج ، أخبرني القاسم بن أبي بزة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا قالا : قام بعضهم إلى بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعضا لا يحنّ رجل على رجل قريب ولا بعيد ، حتى ألوى موسى بثوبه ، فطرحوا ما بأيديهم ، فتكشف عن سبعين ألف قتيل ، وإن الله أوحى إلى موسى أن حسبي قد اكتفيت ، فذلك حين ألوى بثوبه .
حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، قال : حدثنا إبراهيم بن بشار ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : قال أبو سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال موسى لقومه : تُوبُوا إلى بارِئكُمْ فَاقْتُلُوا أنفُسكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ فتَابَ علَيكُمْ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ قال : أمر موسى قومه عن أمر ربه عزّ وجلّ أن يقتلوا أنفسهم ، قال : فاختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل وأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا . فانجلت الظلمة عنهم ، وقد أجْلَوْا عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة .
وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما رجع موسى إلى قومه قال يا قَوْمِ ألمْ يَعِدْكُمْ رَبكُمْ وعْدا حَسَنا إلى قوله : فَكَذَلِكَ ألْقَى السّامِرِيّ فألْقَى مُوسَى الألْوَاحَ وأخَذَ برأسِ أخيهِ يَجُرّهُ إلَيْهِ قالَ يا ابْنَ أُمّ لا تأخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرأسِي إني خَشِيتُ أنْ تَقُول فَرّقْت بينَ بَنِي إسْرائِيلَ ولَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي فترك هارون ومال إلى السامري ، فقال ما خَطْبُكَ يا سامِرِيّ إلى قوله : ثُمّ لَنَنْسِفَنّهُ في اليَمّ نَسْفا . ثم أخذه فذبحه ، ثم حرّقه بالمبرد ، ثم ذراه في اليم ، فلم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شيء منه . ثم قال لهم موسى : اشربوا منه فشربوا ، فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب ، فذلك حين يقول : واشْرِبُوا في قُلُوبِهِمْ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ . فلما سقط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى ، وَرَأوْا أنهُمْ قَدْ ضَلّوا قالُوا لَئِنْ لمْ يَرْحَمْنا ربّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنّ مِن الخاسِرِينَ فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل ، فقال لهم موسى : يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فاقْتُلوا أنْفُسَكُمْ قال : فصفوا صفّين ثم اجتلدوا بالسيوف . فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل بينهم سبعون ألفا ، وحتى دعا موسى وهارون : ربنا هلكت بنو إسرائيل ، ربنا البقية البقية فأمرهم أن يضعوا السلاح ، وتاب عليهم . فكان من قتل شهيدا ، ومن بقي كان مكفرا عنه . فذلك قوله : فتَاب عَلَيْكُمْ إنّهُ هُو التّوّابُ الرحِيمُ .
حدثني محمد بن عمرو الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله تعالى : باتّخَاذِكُمُ العِجْلَ قال : كان موسى أمر قومه عن أمر ربه أن يقتل بعضهم بعضا بالخناجر ، فجعل الرجل يقتل أباه ويقتل ولده ، فتاب الله عليهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وإذْ قال مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إنّكُمْ ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكُمْ الآية . قال : فصاروا صفين ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فبلغ القتلى ما شاء الله ، ثم قيل لهم : قد تيب على القاتل والمقتول .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى ، فتضاربوا بالسيوف ، وتطاعنوا بالخناجر ، وموسى رافع يديه . حتى إذا فتر أتاه بعضهم قالوا : يا نبيّ الله ادع الله لنا وأخذوا بعضديه يشدّون يديه ، فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيدي بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح . وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى : لا يحزنك ، أما من قتل منكم فحيّ عندي يرزق ، وأما من بقي فقد قبلت توبته . فسرّ بذلك موسى وبنو إسرائيل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري وقتادة في قوله : فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ قال : قاموا صفين فقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم كفوا . قال قتادة : كانت شهادة للمقتول وتوبة للحيّ .
حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : سمعت عبيد بن عمير يقول : قام بعضهم إلى بعض يقتل بعضهم بعضا ، ما يتوقى الرجل أخاه ولا أباه ولا ابنه ولا أحدا حتى نزلت التوبة .
قال ابن جريج ، وقال ابن عباس : بلغ قتلاهم سبعين ألفا ، ثم رفع الله عزّ وجل عنهم القتل ، وتاب عليهم . قال ابن جريج : قاموا صفين ، فاقتتلوا بينهم ، فجعل الله القتل لمن قتل منهم شهادة ، وكانت توبة لمن بقي . وكان قتل بعضهم بعضا أن الله علم أن ناسا منهم علموا أن العجل باطل فلم يمنعهم أن ينكروا عليهم إلا مخافة القتال ، فلذلك أمر أن يقتل بعضهم بعضا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما رجع موسى إلى قومه ، وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه ، فأخذتهم الصاعقة ، ثم بعثوا . سأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا ، إلا أن يقتلوا أنفسهم . قال : فبلغني أنهم قالوا لموسى : نصبر لأمر الله ، فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده ، فجلسوا بالأفنية وسلت عليهم القوم السيوف ، فجعلوا يقتلونهم ، وبكى موسى وبَهَش إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم ، فتاب عليهم وعفا عنهم ، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : لما رجع موسى إلى قومه ، وكانوا سبعون رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه . فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد ربكم ، فقالوا : يا موسى أما من توبة ؟ قال : بلى فاقْتُلُوا أنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ حَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ الآية . . . . فاخترطوا السيوف والجِرَزة والخناجر والسكاكين . قال : وبعث عليهم ضبابة ، قال : فجعلوا يتلامسون بالأيدي ، ويقتل بعضهم بعضا . قال : ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله ولا يدري ، ويتنادون فيها : رحم الله عبدا صبر حتى يبلغ الله رضاه . وقرأ قول الله جل ثناؤه : وآتَيْناهُمْ مِنَ الاَياتِ ما فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ . قال : فقتلاهم شهداء ، وتيب على أحيائهم . وقرأ : فَتابَ عَلَيْكُمْ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيم .
فالذي ذكرنا عمن روينا عنه الأخبار التي رويناها كان توبة القوم من الذنب الذي أتوه فيما بينهم وبين ربهم بعبادتهم العجل مع ندمهم على ما سلف منهم من ذلك .
وأما معنى قوله : فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فإنه يعني به : ارجعوا إلى طاعة خالقكم وإلى ما يرضيه عنكم . كما :
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ أي إلى خالقكم . وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارىء . والبريّة : الخلق ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ، غير أنها لا تهمز كما لا يهمز ملك ، وهو من «لأك » ، لكنه جرى بترك الهمزة ، كذلك قال نابغة بني ذبيان :
إلاّ سُلَيْمانَ إذْ قالَ المَلِيكُ لَهُ *** قُمْ في البَرِيّةِ فاحْدُدْها عَنِ الفَندِ
وقد قيل : إن البرية إنما لم تهمز لأنها فعيلة من البَرَى ، والبَرَى : التراب . فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب . وقال بعضهم : إنما أخذت البرية من قولك بريت العود ، فلذلك لم يهمز .
قال أبو جعفر : وترك الهمز من بارئكم جائز ، والإبدال منها جائز ، فإذ كان ذلك جائزا في باريكم فغير مستنكر أن تكون البرية من برى الله الخلق بترك الهمزة .
وأما قوله : ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فإنه يعني بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بارئكم لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الاَخرة على ذنبكم ، وتستوجبون به الثواب منه . وقوله : فتَاب عَلَيْكُمْ أي بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا . وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك ، لأن معنى الكلام : فتوبوا إلى بارئكم ، فاقتلوا أنفسكم ، ذلكم خير لكم عند بارئكم ، فتبتم فتاب عليكم . فترك ذكر قوله «فتبتم » إذْ كان في قوله : فتَابَ عَلَيْكُمْ دلالة بينة على اقتضاء الكلام فتبتم .
ويعني بقوله : فَتابَ عَلَيْكُمْ رجع لكم ربكم إلى ما أحببتم من العفو عن ذنوبكم ، وعظيم ما ركبتم ، والصفح عن جرمكم إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ يعني الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحبّ من العفو عنه . ويعني بالرحيم : العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته .
{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم } فاعزموا على التوبة والرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت ، ومميزا بعضكم عن بعض بصور وهيئات مختلفة ، وأصل التركيب لخلوص الشيء عن غيره ، إما على سبيل التقصي كقولهم بريء المريض من مرضه والمديون من دينه ، أو الإنشاء كقولهم برأ الله آدم من الطين أو فتوبوا . { فاقتلوا أنفسكم } إتماما لتوبتكم بالبخع ، أو قطع الشهوات كما قيل من لم يعذب نفسه لم ينعمها ومن لم يقتلها لم يحيها . وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا . وقيل أمر من لم يعبد العجل أن يقتل العبدة . روي أن الرجل كان يرى بعضه وقريبه فلم يقدر على المضي لأمر الله ، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشي حتى دعا موسى وهارون فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكانت القتلى سبعين ألفا . والفاء الأولى للتسبب ، والثانية للتعقيب .
{ ذلكم خير لكم عند بارئكم } من حيث إنه طهرة من الشرك ، ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية .
{ فتاب عليكم } متعلق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السلام لهم تقديره : إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات ، كأنه قال : ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم . وذكر البارئ وترتيب الأمر عليه إشعار بأنهم بلغوا غاية الجهالة والغباوة ، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة ، وأن من لم يعرف حق منعمه حقيق بأن لا يسترد منه ، ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب .
{ إنه هو التواب الرحيم } للذي يكثر توفيق التوبة ، أو قبولها من المذنبين ، ويبالغ في الإنعام عليهم .
هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابراً لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } [ البقرة : 51 ] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح ، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب ، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان .
فقول موسى لقومه : { إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلاً حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله { ظلمتم أنفسكم } وقول ابن أذينة :
وإذا وجدت لها وساوس سلوة *** شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه ، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن موسى أمره الله أن يأمر اللاويين الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخاً بعد العمل به ويكون المعنى فليقتل بعضكم بعضاً ، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى : { فإذا دخلتهم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله : { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } [ البقرة : 83 ] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله عقبه : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 84 ] فالفاعل والمفعول متغايران .
ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرىء القيس :
وقوله : خمر مقتلة أو مقتولة ، أي مذللة سورتها بالماء . قال بجير بن زهير :
إن التي ناولْتَني فرددتُها *** قُتِلتْ قُتِلت فهاتها لم تُقتلِ{[125]}
وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان ، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة .
والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
والفاء في قوله : { فتوبُوا } فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إِذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود ، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب « مغني اللبيب » فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك .
وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } [ البقرة : 36 ] .
والفاء في قوله : { فاقتلوا أنفسكم } ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] كما في « مغني اللبيب » وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب . وأما صاحب « الكشاف » فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتباً عليه ومعقباً وهذا الوجه لم يذكره صاحب « المغني » وهذا لا يتأتى في قوله تعالى : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا } ، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون الفاء للترتيب والتعقيب أيضاً .
وعندي أنه إذا كانت الجملة الثانية منزلة منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى ، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما فعلاً غير محسوس وتكون الثانية فعلاً محسوساً مبينًا للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه صاحب « الكشاف » بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع .
والبارىء هو الخالق الخلق على تناسب وتعديل فهو أخص من الخالق ولذلك أتبع به الخالق في قوله تعالى : { هو الله الخالق البارىء } [ الحشر : 24 ] .
وتعبير موسى عليه السلام في كلامه بما يدل على معنى لفظ البارىء في العربية تحريض على التوبة لأنها رجوع عن المعصية ففيها معنى الشكر وكون الخلق على مثال متناسب يزيد تحريضاً على شكر الخالق .
وقوله : { فتاب عليكم } ظاهر في أنه من كلام الله تعالى عند تذكيرهم بالنعمة وهو محل التذكير من قوله : { وإذ قال موسى لقومه } إلخ فالماضي مستعمل في بابه من الإخبار وقد جاء على طريقة الالتفات لأن المقام للتكلم فعدل عنه إلى الغيبة ورجحه هنا سبق معاد ضمير الغيبة في حكاية كلام موسى . وعطفت الفاء على محذوف إيجازاً ، أي ففعلتم فتاب عليكم أو فعزمتم فتاب عليكم ، على حد { أن اضرب بعصاك البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي فضرب ، وعطف بالفاء إشارة إلى تعقيب جرمهم بتوبته تعالى عليهم وعدم تأخيرها إلى ما بعد استئصال جميع الذين عبدوا العجل بل نسخ ذلك بقرب نزوله بعد العمل به قليلاً أو دون العمل به وفي ذلك رحمة عظيمة بهم إذ حصل العفو عن ذنب عظيم بدون تكليفهم توبة شاقة بل اكتفاء بمجرد ندمهم وعزمهم على عدم العود لذلك .
ومن البعيد أن يكون { فتاب عليكم } من كلام موسى لما فيه من لزوم حذف في الكلام غير واضح القرينة ؛ لأنه يلزم تقدير شرط تقديره فإن فعلتم يتب عليكم فيكون مراداً منه الاستقبال والفاء فصيحة ، ولأنه يعرى هذه الآية عن محل النعمة المذكر به إلا تضمناً .
وجملة : { إنه هو التواب الرحيم } خبر وثناء على الله ، وتأكيده بحرف التوكيد لتنزيلهم منزلة من يشك في حصول التوبة عليهم لأن حالهم في عظم جرمهم حال من يشك في قبول التوبة عليه وإنما جمع التواب مع الرحيم لأن توبته تعالى عليهم كانت بالعفو عن زلّة اتخاذهم العجل وهي زلة عظيمة لا يغفرها إلا الغفار ، وبالنسخ لحكم قتلهم وذلك رحمة فكان للرحيم موقع عظيم هنا وليس هو لمجرد الثناء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
واذكروا أيضا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل:"يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم": وظلمهم إياها كان فعلهم بها ما لم يكن لهم أن يفعلوه بها مما أوجب لهم العقوبة من الله تعالى، وكذلك كل فاعل فعلاً يستوجب به العقوبة من الله تعالى فهو ظالم لنفسه بإيجابه العقوبة لها من الله تعالى. وكان الفعل الذي فعلوه فظلموا به أنفسهم، هو ما أخبر الله عنهم من ارتدادهم باتخاذهم العجل ربا بعد فراق موسى إياهم. ثم أمرهم موسى بالمراجعة من ذنبهم والإنابة إلى الله من ردّتهم بالتوبة إليه، والتسليم لطاعته فيما أمرهم به، وأخبرهم أن توبتهم من الذنب الذي ركبوه، قتلهم أنفسهم. وقد دللنا فيما مضى على أن معنى التوبة: الأوبة مما يكرهه الله إلى ما يرضاه من طاعته. فاستجاب القوم لما أمرهم به موسى من التوبة مما ركبوا من ذنوبهم إلى ربهم على ما أمرهم به.
"فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ": عمدوا إلى الخناجر، فجعل يطعن بعضهم بعضا... لا يحنّ رجل على رجل قريب ولا بعيد... [حتى] دعا موسى وهارون: ربنا هلكت بنو إسرائيل، ربنا البقية البقية، فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم. فكان من قتل شهيدا، ومن بقي كان مكفرا عنه. فذلك قوله: "فتَاب عَلَيْكُمْ إنّهُ هُو التّوّابُ الرحِيمُ"...
"فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ": ارجعوا إلى طاعة خالقكم وإلى ما يرضيه عنكم... وهو من برأ الله الخلق يبرؤه فهو بارئ. والبريّة: الخلق... والبَرَى: التراب. فكأن تأويله على قول من تأوله كذلك أنه مخلوق من التراب.
وقال بعضهم: إنما أخذت البرية من قولك بريت العود، فلذلك لم يهمز.
"ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ": فإنه يعني بذلك توبتكم بقتلكم أنفسكم وطاعتكم ربكم خير لكم عند بارئكم لأنكم تنجون بذلك من عقاب الله في الاَخرة على ذنبكم، وتستوجبون به الثواب منه.
"فتَاب عَلَيْكُمْ": أي بما فعلتم مما أمركم به من قتل بعضكم بعضا. وهذا من المحذوف الذي استغني بالظاهر منه عن المتروك، لأن معنى الكلام: فتوبوا إلى بارئكم، فاقتلوا أنفسكم، ذلكم خير لكم عند بارئكم، فتبتم فتاب عليكم. فترك ذكر قوله «فتبتم» إذْ كان في قوله: فتَابَ عَلَيْكُمْ دلالة بينة على اقتضاء الكلام فتبتم.
ويعني بقوله: "فَتابَ عَلَيْكُمْ "رجع لكم ربكم إلى ما أحببتم من العفو عن ذنوبكم، وعظيم ما ركبتم، والصفح عن جرمكم.
"إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيمُ": يعني الراجع لمن أناب إليه بطاعته إلى ما يحبّ من العفو عنه. ويعني بالرحيم: العائد إليه برحمته المنجية من عقوبته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
حمل قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} على الظاهر وهو البخع وقيل: معناه قتل بعضهم بعضاً...
فإن قلت: ما الفرق بين الفاآت؟ قلت:
الأولى للتسبيب لا غير، لأن الظلم سبب التوبة.
والثانية للتعقيب لأن المعنى فاعزموا على التوبة فاقتلوا أنفسكم، من قِبَلِ أن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم. ويجوز أن يكون القتل تمام توبتهم. فيكون المعنى: فتوبوا، فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم.
والثالثة متعلقة بمحذوف، ولا يخلو إما أن ينتظم في قول موسى لهم، فتتعلق بشرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وإمّا أن يكون خطاباً من الله تعالى لهم على طريقة الالتفات، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم.
فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئاً من التفاوت {مَا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} [الملك: 3] ومتميزاً بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطف حكمته على الأشكال المختلفة أبرياء من التفاوت والتنافر، إلى عبادة البقرة التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: أبلد من ثور، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم، حين لم يشكروا النعمة في ذلك، وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا القول من موسى صلى الله عليه وسلم كان بأمر من الله تعالى.
اعلم أن هذا الإنعام الخامس. قال بعض المفسرين: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم، وذلك لأنها أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وهذا ضعيف من وجوه؛
أحدها: أن الله تعالى نبههم على عظم ذنبهم، ثم نبههم على ما به يتخلصون عن ذلك الذنب العظيم وذلك من أعظم النعم في الدين، وإذا كان الله تعالى قد عدد عليهم النعم الدنيوية فبأن يعدد عليهم هذه النعمة الدينية أولى، ثم إن هذه النعمة وهي كيفية هذه التوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضا في تمام النعمة. فصار كل ما تضمنته هذه الآية معدودا في نعم الله فجاز التذكير بها.
وثانيها: أن الله تعالى لما أمرهم بالقتل رفع ذلك الأمر عنهم قبل فنائهم بالكلية فكان ذلك نعمة في حق أولئك الباقين، وفي حق الذين كانوا موجودين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه تعالى لولا أنه رفع القتل عن آبائهم لما وجد أولئك الأبناء فحسن إيراده في معرض الامتنان على الحاضرين في زمان محمد عليه الصلاة والسلام،
وثالثها: أنه تعالى لما بين أن توبة أولئك ما تمت إلا بالقتل مع أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان يقول لهم: لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل، بل إن رجعتم عن كفركم وآمنتم، قبِل الله إيمانكم منكم، فكان بيان التشديد في تلك التوبة تنبيها على الإنعام العظيم بقبول مثل هذه التوبة السهلة الهينة.
ورابعها: أن فيه ترغيبا شديدا لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه في التوبة، فإن أمة موسى عليه السلام لما رغبوا في تلك التوبة مع نهاية مشقتها على النفس، فلأن يرغب الواحد منا في التوبة التي هي مجرد الندم كان أولى. ومعلوم أن ترغيب الإنسان فيما هو المصلحة المهمة من أعظم النعم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
في هذه الآيات ضرب من ضروب التذكير غير ما سبقه، ومن البلاغة والحكمة أن يجيء تاليا له ومتأخرا عنه:
مهد أولا للتذكير تمهيدا يسترعي السمع، ويوجه الفكر ويستميل القلب، وهو الابتداء بذكر النعمة مجملة والتفضيل على العالمين ولا يرتاح الإنسان لحديث كحديث مناقب قومه ومفاخرهم
– ثم طفق يفصل النعمة ويشرحها؛ فبدأ بذكر فرد من أفرادها لا يقترن به ذكر سيئة من سيئاتهم وهو تنجيتهم من ظلم آل فرعون، ولكن ذكر معه أكبر ضروب ذلك الظلم وهو قتل الأبناء-: يخفض من عتو تلك النفوس المعجبة المتكبرة التي تعتقد أن الله لا يسود عليهم شعبا آخر، وهو مع هذا لا يفر بها عن الإصغاء والتدبر، لأنه لم يفاجئها بشيء فيه نسبة التقصير وعمل السوء إليها.
ثم ثنى بذكر نعمة خاصة خالصة تسكن النفس إلى ذكرها، إذ لا يشوب الفخر بهما تنغيص من تذكر غضاضة تتصل بواقعتها، وهي فرق البحر بهم، وإنجاؤهم، وإغراق عدوهم. لا جرم أن نفوس الإسرائيليين كانت تهتز وتأخذها الأريحية عندما تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية لما فيها من الشهادة بعناية الله تعالى بهم، ولا سيما إذا قارنوا بين هذا التذكير وبين تذكير مشركي العرب بتلك القوارع الشديدة، لم يتركها بعد هذه الهزة تجمح في عجبها وفخرها، وتتمادى في إبائها وزهوها، بل عقب عليها فذكر بعد هذه النعمة سيئة لهم هي كبرى السيئات التي ظلموا بها أنفسهم وكفروا نعمة ربهم وهي اتخاذ العجل إلها،
وقدم على ذكرها خبر مواعدة موسى وهي من النعم، وختمها بذكر العفو، ثم قفى عليها بذكر نعمة إيتائهم الكتاب والفرقان
وهذا ما يجعل أنفس السامعين الواعين قلقة يتنازعها شعورا اعتراف المذكر الواعظ لها بالشرف، وشعور رميه إياها بالظلم والسرف. بعد هذا كله استعدت تلك النفوس لأن تسمع آيات مبدوءة بذكر سيئاتها من غير تمهيد ولا توطئة،
فانتقل الكلام إلى هذا الضرب من التذكير مبدوء بقوله تعالى {وإذ قال موسى لقومه} أي واذكر أيها الرسول فيما تلقيه على بني إسرائيل وغيرهم إذ قال موسى لقومه الذين اتخذوا من حليهم عجلا عبدوه إذ كان يناجي ربه في الميقاتين الزماني والمكاني {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} إلها عبدتموه...
{فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} أي فتوبوا إلى خالقكم الذي لا يجوز أن تعبدوا معه إلها آخر بعضكم بعضا، فإن قتل المرء لأخيه كقتله لنفسه، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه ليبخع كل من عبد العجل نفسه انتحارا...
[و] التوبة... محو أثر الرغبة في الذنب من لوح القلب، والباعث عليها هو شعور التائب بعظمه من عصاه وما له من السلطان عليه في الحال، وكون مصيره إليه في المآل، لا جرم أن الشعور بهذا السلطان الإلهي بعد [مقارفة] الذنب يبعث في قلب المؤمن الهيبة والخشية ويحدث في روحه انفعالا مما فعل وندما على صدوره عنه، ويزيد هذا الحال في النفس تذكر الوعيد على ذلك الذنب، وما رتبه الله عليها من العقوبة في الدنيا والآخرة. هذا أثر التوبة في النفس، وهذا الأثر يزعج التائب إلى القيام بأعمال تضاد ذلك الذنب الذي تاب منه وتمحو أثره السيء {11: 114 إن الحسنات يذهبن السيئات}.
فمن علامة التوبة النصوح: الإتيان بأعمال تشق على النفس وما كانت لتأتيها لولا ذلك الشعور الذي يحدثه الذنب. وهذه العلامة لا تتخلف عن التوبة سواء [أكان] الذنب مع الله تعالى [أم] مع الناس. ألا ترى أن أهون ما يكون من إنسان يذنب مع آخر يباهى به أن يجيء معترفا بالذنب معتذرا عنه؟ وهذا ذل يشق على النفس لا محالة،
وقد أمر بنو إسرائيل بأشق الأعمال في تحقيق التوبة من أكبر الذنوب، وهو الرغبة عن عبادة من خلقهم وبرأهم إلى عبادة ما عملوا بأيديهم وقد قال {فتوبوا إلى بارئكم} لينبههم إلى أن الإله الحقيقي هو الخالق البارئ ليتضمن الأمر الاحتجاج عليهم والبرهان على جهلهم. ذلك العمل الذي أمرهم به موسى هو قتل أنفسهم. والقصة في التوراة التي بين أيديهم إلى اليوم: دعا موسى إليه من يرجع إلى الرب، فأجابه بنو لاوي فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضا ففعلوا، وقتل في ذلك اليوم "نحو ثلاثة آلاف"... والقرآن لم يعين العدد، والعبرة المقصودة من القصة لا تتوقف على تعيينه فنمسك عنه. كذا قال الأستاذ الإمام، وهذا مذهبه في جميع مبهمات القرآن عند النص القطعي لا يتعداه، ويثبت أن الفائدة لا تتوقف على سواه.
{ذلكم خير لكم عند بارئكم} لأنه يطهركم من رجس الشرك الذي دنستم به أنفسكم ويجعلكم أهلا لما وعدكم به في الدنيا ولمثوبته في الآخرة
{فتاب عليكم} من كلام الله تعالى لا تتمة لكلام موسى عليه السلام في الظاهر وهو معطوف على محذوف تقديره ففعلتم ما أمركم موسى به فتاب عليكم
{إنه هو التواب الرحيم} أي إنه هو وحده الكثير التوبة على عباده بتوفيقهم لها وقبولها منهم، وإن تعددت قبلها جرائمها، الرحيم بهم، ولولا رحمته لعجل بإهلاكهم ببعض ذنوبهم الكبرى ولا سيما الشرك به...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولم يكن بد من التطهير القاسي؛ فهذه الطبيعة المنهارة الخاوية لا تقومها إلا كفارة صارمة، وتأديب عنيف. عنيف في طريقته وفي حقيقته:
(وإذ قال موسى لقومه: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل، فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم. ذلكم خير لكم عند بارئكم)..
أقتلوا أنفسكم. ليقتل الطائع منكم العاصي. ليطهره ويطهر نفسه.. هكذا وردت الروايات عن تلك الكفارة العنيفة.. وإنه لتكليف مرهق شاق، أن يقتل الأخ أخاه، فكأنما يقتل نفسه برضاه. ولكنه كذلك كان تربية لتلك الطبيعة المنهارة الخوارة، التي لا تتماسك عن شر، ولا تتناهى عن نكر. ولو تناهوا عن المنكر في غيبة نبيهم ما عبدوا العجل. وإذ لم يتناهوا بالكلام فليتناهوا بالحسام؛ وليؤدوا الضريبة الفادحة الثقيلة التي تنفعهم وتربيهم!
وهنا تدركهم رحمة الله بعد التطهير:
(فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابراً لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك} [البقرة: 51] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه، وهو حينئذ منة، إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن، ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان.
فقول موسى لقومه: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلاً حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله {ظلمتم أنفسكم}...وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ذكرهم سبحانه وتعالى بعبادتهم في هذا النص الكريم، وهو {وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} وإذ هنا دالة على الوقت الماضي، والمعنى واذكروا ذلك الوقت، يأمر الحاضرين والماضين لأنهم أمة واحدة في ضلال الفكر، والكفر بالنعمة، اذكروا ذلك العمل الفاجر، وما جرى فيه من نسيان للحق والإيمان، واذكروا كيف كان ضلالكم باستهواء قوم فرعون، واذكروا الوقت الذي ناداكم فيه على أنكم قومه، وأنكم نبذتم الحق، واتبعتم الباطل، واذكروا وقت أن قال موسى لكم {يا قوم} لأنهم قومه الذين ناصرهم وأيدهم، وأحبهم ولم يتركهم للظالمين، فالنداء بقوله {يا قوم} إشارة إلى ما يربطه بهم من مودة ومناصرة وتأييد، وإعزاز، وتنزيه لهم عن الباطل، فالقريب نداؤه محبوب ومجاب، ولقد من الله تعالى على العرب أن بعث فيهم رسولا منهم، فقال تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم (128)} [التوبة] ناداهم موسى: {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل}، وهذا عتب رقيق لإثم قوي، ومعنى اتخاذ العجل أنهم عبدوه، وعبر سبحانه وتعالى عن عبادة العجل بأنهم اتخذوه تنزها عن أن يقول أنهم عبدوه، لأن ما كان منهم وهم باطل لا يسمى عبادة في الحق، والقول الطيب، ولأنهم لم يعبدوه فقط، بل صنع بأيديهم، أو بأيدي بعضهم، وهو ما لا ينفع ولا يضر، ولا يسمع ولا يبصر فهذا كله يدل عليه كلمة اتخذوه.
ولقد أكد موسى نبي الله تعالى عليه السلام أنهم إذ اتخذوا العجل ظلموا أنفسهم، باتخاذهم العجل، أكد ذلك ب"إن" الدالة على التوكيد، وظلمهم لأنفسهم بأن أضلوها عن الحق، ونوره ساطع بينهم إذ قد قامت لديهم البراهين على قدرة الله تعالى في ضرب البحر بعصى موسى، وانشقاقه، وفي نجاتهم من الذل، وظلموا أنفسهم بأن أعادوا إليها عهد الذل والضلال باتخاذهم العجل، كما كان يفعل الذين أذلوها، وظلموا أنفسهم بكفرهم بالله تعالى، وضلوا ضلالا بعيدا.
هذه خطيئة ارتكبوها، ولا يكفرها إلا توبة نصوح يقومون بها، وقد بين لهم موسى الطريق للتوبة النصوح أو حقيقة التوبة النصوح، فقال تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم} الفاء في قوله تعالى: {فتوبوا} هي فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم قد ضللتم هذا الضلال وظلمتم أنفسكم ذلك الظلم فتوبوا إلى بارئكم أي فارجعوا إلى الله تعالى الذي خلقكم على غير مثال سبق، ومعنى "برأ" أبدع وأنشأ وجودكم، والتوبة رجوع إلى الحق، والتعبير ببارئكم يؤكد معنى ظلمهم لأنفسهم، لأنهم تركوا من خلقهم إلى ما خلقوه بأيديهم، وصنعوه تحت نظرهم، ولا يضرهم، ولا ينفعهم.
والطريق الذي بينه موسى هو قوله: {فاقتلوا أنفسكم} أي فابخعوها واجعلوها مطية ذلولا للعقل والإرادة، واقطعوا شهواتها، والتعبير عن ذلك بقتل النفس، لأن النفس الفاجرة الضالة إذا فطمت عن الشهوات كأنها قتلت، وحلت محلها النفس الطاهرة اللوامة التي تقهر الشهوات قهرا، والشرور دائما من الأهواء والشهوات، وقد جاء في الأمثال عند أهل المعرفة: "من لم يعذب نفسه لم ينفعها، ومن لم يقتلها لم يحفظها" وتعذيب النفس الذي يريده أهل المعرفة هو فطمها عن الشهوات.
وقد أخذت الكثرة من المفسرين بظاهر اللفظ وهو القتل، ورووا في ذلك روايات عن بعض الصحابة لم يصح سندها، وبالأولى لم يصح الكلام في نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
واستعمال القتل والبخع بالنسبة للنفوس، وإرادة غير الظاهر كثير في كلام العرب، في القرآن كقوله تعالى: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3)} [الشعراء].
وإن هذا النص الكريم يشير إلى أن التوبة النصوح التي يقبلها الله تعالى، ويغفر بها الذنوب توجب قهر الشهوات والأهواء وقتل منابعها في النفس.
وقد حثهم كليم الله تعالى على هذه التوبة النصوح، فقال: {ذلكم خير لكم} الإشارة إلى بخع النفوس عن شهواتها وسد منابع الأهواء وقتل نوازع الشيطان الذي يوسوس في الصدور، وأشير بالبعيد لبعد ما بين التوبة ورياضة النفس على ترك الأهواء والضبط بالصبر، وقوة الإرادة المسيطرة القاهرة الطاهرة، وكان الخطاب بصيغة الجمع لأن الإشارة إلى عمل صدر منه.
وقد أشار النص إلى قبول التوبة النصوح التي كانت على هذه الشاكلة فقال: {فتاب عليكم}. أي رجع سبحانه عليهم وقد طهرت نفوسهم وزكيت قلوبهم بالانخلاع عن الشهوات وقتلها، رجع عليهم سبحانه وتعالى بالغفران. وعبر سبحانه وتعالى ب "على" للإشارة إلى علوه سبحانه وتعالى عليهم في كفرهم وتوبتهم، وأن ذلك لرحمته بهم لا لحاجته إلى طاعتهم، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى بقوله: {إنه هو التواب الرحيم}. والتواب كثير قبول التوبة إذا قيل ذلك عن الله تعالى، أو كثير التوبة إذا قيل عن العبد، والتواب صيغة مبالغة من التائب، والتائب تطلق على التائب من الذنب، وتطلق على من يقبل التوبة، وهو الله سبحانه وتعالى، وهي هنا على هذا المعنى.
وقد اقترن وصف التواب بوصف الرحيم؛ لأن كليهما وصف لله تعالى، ولأن قبول التوبة من رحمة الله تعالى بعباده، ولقد قال: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82)} [طه].
وقد أكد سبحانه اتصافه بهذين الوصفين اللذين كانا من فضل الله تعالى، ومنته، بصيغة المبالغة، وبالجملة الاسمية، وبالتأكيد ب"إن".