{ 82 - 86 } { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }
يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين ، وإلى ولايتهم ومحبتهم ، وأبعدهم من ذلك : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين ، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم ، وذلك لشدة بغضهم لهم ، بغيا وحسدا وعنادا وكفرا .
{ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } وذكر تعالى لذلك عدة أسباب :
منها : أن { مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } أي : علماء متزهدين ، وعُبَّادًا في الصوامع متعبدين . والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف القلب ويرققه ، ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة ، فلذلك لا يوجد فيهم غلظة اليهود ، وشدة المشركين .
ومنها : { أنهم لَا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : ليس فيهم تكبر ولا عتو عن الانقياد للحق ، وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم ، فإن المتواضع أقرب إلى الخير من المستكبر .
{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ . . . }
أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : بعث النجاشي وفدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، قال : فأنزل الله فيهم : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود } إلى آخر الآية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم النجاشي فلم يزل مسلما حتى مات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشي بالحبشه .
ثم قال ابن جرير بعد أن ساق روايات أخرى في سبب نزول هذه الآيات : والصواب في ذلك من القول عندي ، أن الله - تعالى - وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى ، وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس مودة لأهل الإِيمان بالله ورسوله ، ولم يسم لنا أسماءهم وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإِسلام فأسلموا ، لما سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق ، ولم يستكبروا عنه .
فقوله - تعالى - { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ } جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من آيات سجلت على اليهود كثيراً من الصفات القبيحة والمسالك الخبيثة .
وقد أكد - سبحانه - هذه الجملة بلا القسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم ويصح أن يكون لكل من يصلح للخطاب للإِيذان بأن حالهم لا تخفى على أحد من الناس .
والمعنى : أقسم لك يا محمد بأنك عند مخالطتك للناس ودعوتهم إلى الدين الحق ، ستجد أشدهم عداوة لك ولأتباعك فريقين منهم : وهما اليهود والذين أشركوا ، لأن عداوتهم منشؤها الحقد والحسد والعناد والغرور . وهذه الرذائل متى تمكنت في النفس حالت بينها وبين الهداية والإِيمان بالحق .
وقوله { أَشَدَّ الناس } مفعول أول لقوله { لتجدن } ومفعول الثاني { اليهود } وقوله { عداوة } تمييز .
قال الآلوسي : والظاهر أن المراد من اليهود العموم ، أي من كان منهم بحضرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدنية وغيرهم ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله " وقيل المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد ، وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا . والمراد من { الناس } كما قال أبو حيان - الكفار : أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء .
ووصفهم - سبحانه - بذلك لشدة كفرهم ، وانهماكهم في اتباع الهوى ، وقربهم إلى التقليد ، وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء ، وقد قيل : إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة .
وقوله : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } معطوف على ما قبله لزيادة التوضيح والبيان .
أي : لتجدن يا محمد أشد الناس عداوة لك ولأتباعك - اليهود - والذين أشركوا . ولتجدن أقربهم مودة ومحبة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى .
قال ابن كثير : أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإِسلام وأهله في الجملة : وما ذاك إلا لما في قلوبهم - من لين عريكة - إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال - تعالى - { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } وفي كتابهم : " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر " وليس القتال مشروعا في ملتهم .
وقال الجمل : فإن قلت : كفر النصارى أشد من كفر اليهود لأن النصارى ينازعون في الألوهية فيدعون أن لله ولدا ، واليهود ينازعون في النبوة فينكرون نبوة بعض الأنبياء فلم ذم اليهود ومدح النصارى ؟
قلت : هذا مدح في مقابلة ذم وليس مدحاً على إطلاقه ، وإيضاً الكلام في عداوة المسلمين وقرب مودتهم لا في شدة الكفر وضعفه .
وقوله : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } تعليل لقرب مودة النصارى للمؤمنين .
والقسيسين : جمع قسيس . وأصله من قس إذا تتبع الشيء فطلبه ، وهم علماء النصارى والمرشدون لهم .
والرهبان : جمع رابه كركبان جمع راكب وتطلق كلمة رهبان على المفرد كما تطلق على الجمع ، والراهب هو الرجل العابد الزاهد المنصرف عن الدنيا ، مأخوذ من الرهبة بمعنى الخوف . يقال : رهب فلان ربه يرهبه ، أي : خافه .
والمعنى : ولتجدن يا محمد أقرب الناس مودة لك ولأتباعك الذين قالوا إنا نصارى ، وذلك لأن من القسيسين الذين يرغبون في طلب العلم ويرشدون غيرهم إليه ، ومنهم الرهبان الذين تفرغوا لعبادة الله وانصرفوا عن ملاذ الدنيا وشهواتهم وأيضاً فلأن هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى من صفاتهم أنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم متواضعون وليسوا مغرورين أو متكبررين .
وفي ذلك تعريض باليهود والمشركين لأن غرورهم واتسكبارهم جعلهم ينصرفون عن الحق فاليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار ، وأن النبوة يجب أن تكون فيهم والمشركون يرون أن النبوة يجب أن تكون في أغنيائهم وزعمائهم ، وقد حملهم هذا الغرور على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا أكثر أتباعه من الفقراء .
قال الآلوسي : وفي الآية دليل على أن صفات التواضع والإِقبال على العلم والعمل والإِعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت .
{ لَتَجِدَنّ أَشَدّ النّاسِ عَدَاوَةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنّ أَقْرَبَهُمْ مّوَدّةً لّلّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ قَالُوَاْ إِنّا نَصَارَىَ ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لَتَجِدَنّ يا محمد أشَدّ النّاسِ عَدَاوَةٍ للذين صدّقوك واتبعوك وصدّقوا بما جئتهم به من أهل الإسلام ، اليَهُودَ والّذِينَ أشْرَكُوا يعني عبدة الأوثان الذين اتخذوا الأوثان آلهة يعبدونها من دون الله . وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةٍ للّذِينَ آمَنُوا يقول : ولتجدنّ أقرب الناس مودّة ومحبة . والمودّة : المفعلة ، من قول الرجل : وَدِدْتُ كذا أودّه وُدّا ووِدّا ووَدّا ومودّة : إذا أحببته . للذين آمنوا ، يقول : للذين صدّقوا الله ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم . الّذِينَ قالوا إنّا نَصَارَى ذَلكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحقّ واتباعه والإذعان به . وقيل : إن هذه الاَية والتي بعدها نزلت في نفر قِدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى الحبشة ، فلما سمعوا القرآن أسلموا واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنها نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحاب له أسلموا معه .
حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خَصِيف ، عن سعيد بن جبير ، قال : بعث النجاشيّ وفدا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا . قال : فأنزل الله تعالى فيهم : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالّذِينَ أشْرَكُوا . . . إلى آخر الاَية . قال : فرجعوا إلى النجاشي فأخبروه ، فأسلم النجاشيّ ، فلم يزل مسلما حتى مات . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أخاكُمُ النّجاشِي قَدْ ماتَ ، فَصلّوا عَلَيْهِ » فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة والنجاشيّ بالحبشة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله الله : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة خاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشيّ ملك الحبشة فلما بلغ ذلك المشركين ، بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ذكر أنهم سبقوا أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى النجاشيّ ، فقالوا : إنه خرج فينا رجل سفّه عقول قريش وأحلامها زعم أنه نبيّ ، وإنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم . قال : إن جاءوني نظرت فيما يقولون . فقدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا بباب النجاشي ، فقالوا : أتأذن لأولياء الله ؟ فقال : ائذن لهم ، فمرحبا بأولياء الله فلما دخلوا عليه سلموا ، فقال له الرهط من المشركين : ألا ترى أيها الملك أنا صدقناك ، لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها ؟ فقال لهم : ما منعكم أن تحيّوني بتحيتي ؟ فقالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة . قال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه ؟ قال : يقول : هو عبد الله وكلمة من الله ألقاها إلى مريم وروح منه ، ويقول في مريم : إنها العذراء البتول . قال : فأخذ عودا من الأرض ، فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم قدر هذا العود فكره المشركون قوله ، وتغيرت وجوههم . قال لهم : هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم ؟ قالوا : نعم . قال : اقرأءوا فقرأوا ، وهنالك منهم قسيسون ورهبان وسائر النصارى ، فعرفوا كلّ ما قرأوا ، وانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحقّ . قال الله تعالى ذكره : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسيّسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ . . . الاَية .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : ثني أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط عن السديّ : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى . . . الاية . قال : بعث النجاشيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر رجلاً من الحبشة ، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا ، ينظرون إليه ويسألونه . فلما لقوه فقرأ عليهم ما أنزل الله بكوا وآمنوا ، فأنزل الله عليه فيهم : وإنّهُمْ لا يَسْتَكبرُونَ وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يَقُولُونَ رَبّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ فآمنوا ، ثم رجعوا إلى النجاشيّ . فهاجر النجاشيّ معهم ، فمات في الطريق ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء في قوله : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ قالُوا إنّا نَصَارَى . . . الاية ، هم ناس من الحبشة آمنوا ، إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين .
وقال آخرون : بل هذه صفة قوم كانوا على شريعة عيسى من أهل الإيمان فلما بعث الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم آمنوا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَتَجِدَنّ أقْرَبَهُمْ مَوَدّةً للّذِينَ آمَنُوا ، فقرأ حتى بلغ : فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ : أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحقّ مما جاء به عيسى ، ويؤمنون به وينتهون إليه ، فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم صدّقوا به وآمنوا ، وعرفوا الذي جاء به أنه الحقّ ، فأثنى عليهم ما تسمعون .
والصواب في ذلك من القول عندي أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا : إنا نصارى ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله ، ولم يسمّ لنا أسماءهم . وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشيّ ، ويجوز أن يكون أريد به قوم كانوا على شريعة عيسى فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحقّ ، ولم يستكبروا عنه .
وأما قوله تعالى : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا فإنه يقول : قربت مودّة هؤلاء الذين وصف الله صفتهم للمؤمنين من أجل أن منهم قسيسين ورهبانا . والقسيسون : جمع قسيس ، وقد يجمع القسيس : «قُسوس » ، لأن القسّ والقسيس بمعنى واحد . وكان ابن زيد يقول في القسيس بما :
حدثنا يونس ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : القسيسين : عُبّادهم .
وأما الرّهبان ، فإنه يكون واحدا وجمعا فأما إذا كان جمعا ، فإن واحدهم يكون راهبا ، ويكون الراهب حينئذ فاعلاً من قول القائل : رَهب الله فلان ، بمعنى : خافه ، يَرْهَبُه رَهَبا ورَهْبا ، ثم يجمع الراهب رهبان ، مثل راكب وركبان ، وفارس وفرسان . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب جمعا قول الشاعر :
رُهْبانُ مَدْيَنَ لَوْ رأوْكِ تَنَزّلُوا ***والعُصْمُ منْ شَعَفِ العُقولِ الفادِرِ
وقد يكون الرهبان واحدا ، وإذا كان واحدا كان جمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجُردان وجرادين . ويجوز جمعه أيضا رهابنة إذا كان كذلك . ومن الدليل على أنه قد يكون عند العرب واحدا قول الشاعر :
لَوْ عايَنَتْ رُهْبانَ دَيْرٍ فِي القُلَلْ ***لانحَدَرَ الرّهْبانُ يَمْشِي وَنَزَلْ
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا فقال بعضهم : عني بذلك قوم كانوا استجابوا لعيسى ابن مريم حين دعاهم ، واتبعوه على شريعته . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن حصين عمن حدّثه ، عن ابن عباس في قوله : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : كانوا نَوَاتيّ في البحر يعني مَلاّحين قال : فمرّ بهم عيسى ابن مريم ، فدعاهم إلى الإسلام فأجابوه . قال : فذلك قوله : قِسّيسِينَ وَرُهْبانا .
وقال آخرون : بل عنى بذلك القوم الذين كان النجاشيّ بعثهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام بن سلم ، قال : حدثنا عنبسة عمن حدثه ، عن أبي صالح في قوله : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : ستة وستون ، أو سبعة وستون ، أو اثنان وستون من الحبشة ، كلهم صاحب صومعة ، عليهم ثياب الصوف .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهديّ ، عن سفيان ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : بعث النجاشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم خمسين أو سبعين من خيارهم ، فجعلوا يبكون ، فقال : هم هؤلاء .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا قال : هم رسل النجاشيّ الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلاً اختارهم الخير فالخير . فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليهم : يس والقُرْآنِ الحَكِيمِ فبكوا وعرفوا الحقّ ، فأنزل الله فيهم : ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا ، وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ، وأنزل فيهم : الّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . . . إلى قوله : يُؤْتَوْنَ أجْرَهْمْ مَرّتينِ بِمَا صَبرُوا .
والصواب في ذلك من القول عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن النفر الذين أثنى عليهم من النصارى بقرب مودتهم لأهل الإيمان بالله ورسوله ، أن ذلك إنما كان منهم لأن منهم أهل اجتهاد في العبادة وترهيب في الديارات والصوامع ، وأن منهم علماء بكتبهم وأهل تلاوة لها ، فهم لا يبعدون من المؤمنين لتواضعهم للحقّ إذا عرفوه ، ولا يستكبرون عن قبوله إذا تبينوه ، لأنهم أهل دين واجتهاد فيه ونصيحة لأنفسهم في ذات الله ، وليسوا كاليهود الذين قد دَرِبُوا بقتل الأنبياء والرسل ومعاندة الله في أمره ونهيه وتحريف تنزيله الذي أنزله في كتبه .
{ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى ، وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق ، وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم . { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى } للين جانبهم ورقة قلوبهم وقلة حرصهم على الدنيا وكثرة اهتمامهم بالعلم والعمل وإليه أشار بقوله : { ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون } عن قبول الحق إذا فهموه ، أو يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود . وفيه دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمود وإن كانت من كافر .