28- إذا كان الله - سبحانه وتعالى - هو - وحده - مالك الملك ، ويعز ويذل ، وبيده وحده الخير والخلق والرزق ، فلا يصح للمؤمنين أن يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم ، متجاوزين نصرة المؤمنين ؛ لأن في هذا خذلاناً للدين وإيذاء لأهله ، وإضعافاً للولاية الإسلامية ، ومن يسلك هذا المسلك فليس له من ولاية الله مالك الملك شيء ، ولا يرضى مؤمن بولايتهم إلا أن يكون مضطرا لذلك ، فيتقي أذاهم بإظهار الولاء لهم . وعلى المؤمنين أن يكونوا في الولاية الإسلامية دائماً وهي ولاية الله ، وليحذروا أن يخرجوا إلى غير ولايته فيتولى عقابهم بنفسه بكتابة الذلة عليهم بعد العزة . وإليه - وحده - المصير فلا مفرَّ من سلطانه في الدنيا ولا في الآخرة .
{ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالاة الكافرين بالمحبة والنصرة والاستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين ، وتوعد على ذلك فقال : { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } أي : فقد انقطع عن الله ، وليس له في دين الله نصيب ، لأن موالاة الكافرين لا تجتمع مع الإيمان ، لأن الإيمان يأمر بموالاة الله وموالاة أوليائه المؤمنين المتعاونين على إقامة دين الله وجهاد أعدائه ، قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } فمن والى - الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين ، وصار من حزب الكافرين ، قال تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وفي هذه الآية دليل على الابتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم ، والميل إليهم والركون إليهم ، وأنه لا يجوز أن يولى كافر ولاية من ولايات المسلمين ، ولا يستعان به على الأمور التي هي مصالح لعموم المسلمين . قال الله تعالى : { إلا أن تتقوا منهم تقاة }{[155]} أي : تخافوهم على أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان وإظهار ما به تحصل التقية . ثم قال تعالى : { ويحذركم الله نفسه } أي : فلا تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك { وإلى الله المصير } أي : مرجع العباد ليوم التناد ، فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها ويجازيهم ، فإياكم أن تفعلوا من الأعمال القباح ما تستحقون به العقوبة ، واعملوا ما به يحصل الأجر والمثوبة .
وبعد أن بين - سبحانه - أنه هو وحده مالك الملك ، وأنه على كل شيء قدير ، عقب ذلك بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه بسبب قرابة أو صداقة أو نحوهما ، فقال - تعالى- : { لاَّ يَتَّخِذِ . . . ) .
أورد المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات :
منها أن جماعة من اليهود كانوا يصادقون جماعة من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعيد بن خيشمة لأولئك النفر من الأنصار : اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا ملازمتهم ومباطنتهم لئلا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية " .
وقوله { أَوْلِيَآءَ } جمع ولي ، والولاء والتوالى - كما يقول الراغب : أن يحصل شيئان فصاعداً حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ، ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ، ومن حين النسبة ومن حين الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد .
والولاية - بكسر الواو - النصرة والولاية - تولى الأمر ، وقيل هما بمعنى واحد " .
و " لا " ناهية . والفعل " يتخذ " مجزوم بها ، وهو متعد لمفعولين :
والمعنى : لا يحل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء ونصراء ، بل عليهم أن يراعوا ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأن يقدموها على ما بينهم وبين الكفار من قرابة أو صداقة أو غير ذلك من ألوان الصلات لأن في تقديم مصلحة الكافرين على مصلحة المؤمنين تقديما للكفر على الإيمان ومن شأن المؤمن الصادق في إيمانه أن لا يصدر منه ذلك .
وقد ورد مثل هذا النهي فى كثير من الآيات ومن ذلك قوله - تعالى - { يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } وقوله- تعالى- { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قال الألوسي : وقوله { مِن دُونِ المؤمنين } حال من الفاعل ، أى متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ، ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والَوْا الكفار دون المؤمنين فهو لبيان الواقع . أو لأن ذكره للإشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون ، وفى موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار " .
قالوا : والموالاة الممنوعة هي التي يكون فيها خذلان للدين أو إيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم ، وأما ما عدا ذلك كالنجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النهي ، لأنها ليس معاملة فيها أذى للإسلام والمسلمين " .
وكرر - سبحانه - لفظ " المؤمنين " بأداة التعريف أل للإشارة إلى أن الثاني هو عين الأول ، وفي ذلك إشعار بأن المؤمنين الذين يتخذون الكافرين أولياء ونصراء ، يتركون أنفسهم ويهملونها ويتخذون من عدونهم نهاية لها .
ثم قال - تعالى - { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أى : ومن يتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين ، فإنه في هذه الحالة يكون بعيدا عن ولايته لله ، ومنسلخا منها رأسا وليس بينه وبين الله صلة تذكر .
فاسم الإشاراة { ذلك } يعود على الاتخاذ المفهوم من الفعل يتخذ ؟
والتنوين في { شَيْءٍ } للتحقير أى ليس في شىء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية ، لأن موالاة الولى وموالاة عدوه متنافيان كما قال الشاعر :
تود عدوى ثم تزعم أنني . . . صديقك ليس النوك عنك بعازب
و " من " شرطية ، و { يَفْعَلْ } فعل الشرط ، وجوابه " فليس من الله في شيء " واسم ليس ضمير يعود على " من " وقوله { فِي شَيْءٍ } خبرها . أى فليس الموالى في شيء كائن من الله - تعالى - والجملة معترضى بين المستثى والمستثنى منه .
وقال - سبحانه - { فَلَيْسَ مِنَ الله } ولم يقل " فليس من ولاية الله " للإشعار بأن من اختار مناصرة المشركين وموالاتهم فقد ترك ذات الله - تعالى - وكان مؤثرا لقوة الكفار على قوة العزيز الجبال ، فهو في هذه الحالة يعاند الله نفسه ، ثم استثنى - سبحانه - من أحوال النهى حال التقية فقال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } وقوله : { تَتَّقُواْ } من الاتقاء بمعنى تجنب المكروه ، وعدى بمن لتضمينه معنى تخافوا { تُقَاةً } مصدر تقيته - كرميته - بمعنى اتقيته ووزنه فعلة ويجمع على تقى : كرطبة ورطب . وأصل تقاة : وقية من الوقاية . فأبدلت الواو المضمومة تاء والياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها .
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال ، والتقدير : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكافرين أولياء في أى حال من الأحوال إلا في حال اتقائكم منهم أى إلا أن تخافوا منهم مخافة . أو إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه من الضرر في النفس أو المال أو العرض .
كأن يكون الكفار غالبين ظاهرين . أو كنتم في قوم كفار فيرخص لكم في مداراتهم باللسان ، على ألا تنطوى قلوبكم على شيء من مودتهم ، بل دارونهم وأنتم لهم كارهون . وألا تعملوا ما هو محرم كشرب الخمر ، أو إطلاعهم على عورات المسلمين أو الانحياز إليهم في مجافاة بعض المسلمين ، وإذن فلا رخصة إلا في المداراة باللسان . ثم ختم - سبحانه - الآية بهذا التهديد الشديد حيث قال - تعالى - { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ وإلى الله المصير } .
والتحذير : هو التخويف لأجل الحذر واليقظة ، من أن يقع الإنسان في قول أو عمل منهى عنه .
ونفسه : منصوب على نزع الخافض . والمصير : المرجع والمآب .
أى : ويحذركم الله - تعالى - من نفسه أى من عقابه وانتقامه ، وإليه - سبحانه - مرجعكم ومصيركم فيحاسبكم على أعمالكم .
وقوله { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } فيه ما فيه من التهديد والتخويف من موالاة الكافرين ، لأن التحذير من ذات الله ، يقتضى الخوف ووقع الرهبة في النفس من الذات العلية ، وذلك كما يقال : - والله المثل الأعلى - احذر الأسد ، فإن هذا القائل يريد أن ذات الأسد في كل أحوالها موهوبة ، ولأن كلمة " نفس " تقال لتأكيد التعبير عن الذات .
أى أن التحذير قد جاءكم من الله - تعالى - لا من غيره فعليكم أن تمتثلوا أمره ، فإن إليه وحده المآل وانتهاء أمر العباد .
وسيجازيهم على أعمالهم بما يستحقون فاحذروا التعرض لعقابه ، وقوله { وَإِلَيَّ المصير } تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه . هذا ، ولبعض العلماء كلام طويل عن التقية - وهى أن يظهر الإنسان خلاف ما يبطن مخافة الأذى الشديد - فقد قال الآلوسى ما ملخصه :
" وفي الآية دليل على مشروعية التقية ، وعرفوها بالمحافظة على النفس أو العرض من شر الأعداء . .
الأول : من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم .
والثاني : من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والإمارة ، ومن هنا صارت التقية قسمين :
أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له فيه أن يظهر دينه لتعرض المخالفين له بالعداوة فإنه يجب عليه أن يهاجر من ذلك المكان إلى مكان يستطيع فيه أن يظهر دينه ، إلا إذا كان ممن لهم عذر شرعي كالنساء والصبيان والعجزة فقد قال تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فأولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنسآء والولدان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } وإذا كان التخويف بالقتل ونحوه جاز له المكث والموافقة لهم ظاهرا بقدر الضرورة مع السعى في حيلة للخروج والفرار بدينه .
والموافقة لهم حينئذ رخصة ، وإظهار ما في قلبه عزيمة فلو مات مات شهيداً بدليل ما روي من أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : " أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، نعم ، نعم فقال له : أتشهد أني رسول الله ؟ قال : نعم . ثم دعا الثاني فقال له أتشهد أني رسول الله ؟ قال إنى أصم ، قالها ثلاثا ، فضرب عنقه ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه فهنيئا له . وأما الآخر فقد قبل رخصة الله فلا تبعة عليه " .
وأما القسم الثانى وهو من كانت عداواته بسبب المال والإمارة وما إلى ذلك ، فقد اختلف فى وجوب هجرة صاحبه ، فقال بعضهم تجب لأن الله قد نهى عن إضاعة المال . وقال آخرون لا تجب ، لأنها لمصلحة دنيوية ولا يعود على من تركها نقصان في الدين .
وعد قوم من باب التقية الجائزة مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم والتبسم في وجوههم لكف أذاهم وصيانة العرض منهم - بشرط أن لا تكون هذه المدارة مخالفة لأصول الدين وتعاليمه - فإن كانت مخالفة لذلك فلا تجوز .
روى البخاري عن عائشة قالت : " استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس أخو العشيرة ، ثم أذن له فألان له القول ، فقلت يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ؟ فقال : " يا عائشة إن من شر الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه " إلى غير ذلك من الأحاديث . لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ، ويرتكب المنكر ، وتسيء الظنون .
{ لاّ يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاّ أَن تَتّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذّرْكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }
وهذا نهي من الله عزّ وجلّ المؤمنين أن يتخذوا الكفار أعوانا وأنصارا وظهورا ، ولذلك كسر «يتخذ » لأنه في موضع جزم بالنهي ، ولكنه كسر الذال منه للساكن الذي لقيه وهي ساكنة . ومعنى ذلك : لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهرا وأنصارا ، توالونهم على دينهم ، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين ، وتدلونهم على عوراتهم ، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء¹ يعني بذلك ، فقد برىء من الله ، وبرىء الله منه بارتداده عن دينه ، ودخوله في الكفر ، إلا أن تتقوا منهم تقاة ، إلا أن تكونوا في سلطانهم ، فتخافوهم على أنفسكم ، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم ، وتضمروا لهم العداوة ، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر ، ولا تعينوهم على مسلم بفعل . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : { لا يَتّخَذِ المُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُوءْمِنِينَ } قال : نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ، أو يتخذوهم وليجة من دون المؤمنين ، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين ، فيظهرون لهم اللطف ، ويخالفونهم في الدين . وذلك قوله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد ، قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم . فقال رفاعة بن المنذر بن زبير وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومباطنتهم ، لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم ولزومهم ، فأنزل الله عزّ وجل : { لا يَتّخِذِ المُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِينَ } . . . إلى قوله : { وَاللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { لا يَتّخِذِ المُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُوءْمِنِينَ } يقول : لا يتخذ المؤمن كافرا وليا من دون المؤمنين .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لا يَتّخِذِ المُوءْمِنُونَ الكافِرِينَ } إلى : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } أما أولياء : فيواليهم في دينهم ، ويظهرهم على عورة المؤمنين ، فمن فعل هذا فهو مشرك ، فقد برىء الله منه ، إلا أن يتقي منهم تقاة ، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم والبراءة من المؤمنين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : { إلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } قال : التقاة : التكلم باللسان ، وقلبه مطمئنّ بالإيمان .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا الحكم بن أبان ، عن عكرمة في قوله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } قال : ما لم يهرق دم مسلم ، وما لم يستحل ماله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لا يَتّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِينَ } إلا مصانعة في الدنيا ومخالقة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { لا يَتّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُؤمِنِينَ } إلى : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } قال : قال أبو العالية : التقية باللسان وليس بالعمل .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ قال : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } قال : التقية باللسان مَنْ حُمِلَ على أمر يتكلم به وهو لله معصية ، فتكلم مخافة على نفسه ، وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، فلا إثم عليه ، إنما التقية باللسان .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } فالتقية باللسان : من حمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله فيتكلم به مخافة الناس وقلبه مطمئنّ بالإيمان ، فإن ذلك لا يضرّه ، إنما التقية باللسان .
وقال آخرون : معنى : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } إلا أن يكون بينك وبينه قرابة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { لا يَتّخَذِ المُؤمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياءَ مِنْ دُونِ المُوءْمِنِينَ إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولوهم دون المؤمنين ، وقال الله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } الرحم من المشركين من غير أن يتولوهم في دينهم ، إلا أن يصل رحما له في المشركين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { لا يَتّخِذِ المُؤمِنُونَ الكافِرِينَ أوْلِياء } قال : لا يحلّ لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في دينه ، وقوله : { إِلاّ أن تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } قال : أن يكون بينك وبينه قرابة ، فتصله لذلك .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } قال : صاحبهم في الدنيا معروفا الرحم وغيره ، فأما في الدين فلا .
وهذا الذي قاله قتادة تأويل له وجه ، وليس بالوجه الذي يدلّ عليه ظاهر الاَية : إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة .
فالأغلب من معاني هذا الكلام : إلا أن تخافوا منهم مخافة . فالتقية التي ذكرها الله في هذه الاَية إنما هي تقية من الكفار ، لا من غيرهم ، ووجهه قتادة إلى أن تأويله : إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة ، فتصلون رحمها . وليس ذلك الغالب على معنى الكلام والتأويل في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمل فيهم .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } على تقدير فعلة مثل تخمة وتؤدة وتكأة من اتقيت ، وقرأ ذلك آخرون : «إلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تَقِيّةً » على مثال فعيلة .
والقراءة التي هي القراءة عندنا ، قراءة من قرأها : { إِلاّ أنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً } لثبوت حجة ذلك بأنه القراءة الصحيحة ، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ .
القول في تأويل قوله تعالى : { ويُحَذّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وإلى اللّهِ المَصِيرُ } .
يعني تعالى ذكره بذلك : ويخوّفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه أو توالوا أعداءه ، فإن لله مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم ، ويوم حشركم لموقف الحساب ، يعني بذلك : متى صرتم إليه ، وقد خالفتم ما أمركم به ، وأتيتم ما نهاكم عنه من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، نالكم من عقاب ربكم ما لا قبل لكم به ، يقول : فاتقوه واحذوره أن ينالكم ذلك منه ، فإنه شديد العذاب .