266- إنه لا يحب أحد منكم أن يكون له بستان من نخيل وأعناب تجري خلالها الأنهار وقد أثمر له البستان من كل الثمرات التي يريدها ، وأصابه ضعف الكبر وله ذرية ضعاف لا يقدرون على الكسب ولا يستطيع هو لكبره شيئاً ، وجفَّ بستانه في هذه الحال العاجزة بسبب ريح شديدة فيها نار فأحرقته{[27]} ، وصاحبه وذريته أحوج ما يكونون إليه ، وكذلك شأن من ينفق ويتصدق ثم يعقب النفقة والصدقة بالمن والأذى والرياء فيبطل بذلك ثواب نفقته ولا يستطيع أن يتصدق من بعد ذلك طيبة نفسه ، ومثل هذا البيان يبين الله لكم الآيات لتتفكروا فيها وتعملوا بها .
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
وهذا المثل مضروب لمن عمل عملا لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها ثم عمل أعمالا تفسده ، فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل الثمرات ، وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما ، لكونهما غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى ، وتلك الجنة فيها{[149]} الأنهار الجارية التي تسقيها من غير مؤنة ، وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته ، ثم إنه أصابه الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه ، وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة له ، بل هم كل عليه ، ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة ، فبينما هو كذلك إذ أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو ، وفي ذلك الإعصار نار فاحترقت تلك الجنة ، فلا تسأل عما لقي ذلك الذي أصابه الكبر من الهم والغم والحزن ، فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله الحزن ، كذلك من عمل عملا لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع والثمار ، ولا يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية الحسن والبهاء ، وتلك المفسدات التي تفسد الأعمال بمنزلة الإعصار الذي فيه نار ، والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة لا يقدر معها على العمل ، فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه .
والله سريع الحساب فلو علم الإنسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف الإيمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت من مجنون لا يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما ، فلهذا أمر تعالى بالتفكر وحثَّ عليه ، فقال : { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون }
ثم ساق القرآن آية كريمة حذر فيها الناس من ارتكاب ما نهى الله عنه وبين فيها كيف أن المن والأذى والرياء وما يشبه ذلك من رذائل يؤدي إلى ذهاب الشيء النافع من بين يدي صاحبه وهو أحوج ما يكون إليه . استمع إلى القرآن وهو يصور نهاية هذا الإِنسان البائس .
{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ . . . }
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ( 266 )
قوله : { أَيَوَدُّ } هو من الود بمعنى المحبة الكاملة للشيء وتمنى حصوله ، والاستفهام فيه للإِنكار و ( الإِعصار ) ريح عاصفة تنعكس من الأرض إلى السماء مستديرة كالعمود ، وهي التي يسميها بعض الناس زوبعة . وسميت إعصاراً لأنها تعصر ما تمر به من الأجسام ، أو تلتف كما يلتف الثوب المعصور . والريح مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإِعصار فإنه مذكر ولذا قيل { فِيهِ نَارٌ } أي سموم وصواعق .
والمعنى : أيحب أحدكم - أيها المنانون المراءون - أن تكون له جنة معظم شجرها { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } تجري من تحت أشجارها { الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } النافعة ، والحال أنه قد أصابه الكبر الذي أقعده عن الكسب من غير تلك الحديقة اليانعة ، وله فضلا عن شيخوخته وعجزه ذرية ضعفاء لا يقدرون على العمل ، وبينما هو على هذه الحالة إذا بالجنة ينزل عليها إعصار فيه نار فيحرقها ويدمرها ففقدها صاحبها وهو أحوج ما يكون إليها وبقى هو وأولاده في حالة شديدة من البؤس والحيرة والغم والحسرة لحرمانه من تلك الحديقة التي كانت محط آماله .
فالآية الكريمة قد اشتملت على مثل آخر لحالة الذين يبطلون أعمالهم وصدقاتهم بالمن والأذى والرياء ، وغير ذلك من الأفعال القبيحة والصفات السيئة فقد شبه - سبحانه - حال من يعمل الأعمال الحسنة ثم يضم إليها ما يفسدها فإذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إليها وجدها محبطة ذاهبة ، شبه هذ الإِنسان في حسرته وألمه وحزنه بحال ذلك الشيخ الكبير العاجز الذي له ذرية ضعفاء لا يملك سوى حديقة يانعة يعتمد عليها في معاشه هو وأولاده فنزل عليها إعصار فيه نار فأحرقها ودمرها تدميراً .
وحذف - سبحانه - حالة المشبه وهو الذي يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء وما يشبه ذلك ، لظهورها من المقام .
وقد وصف - سبحانه - تلك الجنة بثلاث صفات :
وصفها أولا : بأنها من نخيل وأعناب أي معظمها من هذين الجنسين النفيسين اللذين هما أنفع الفواكه وأجملها منظراً .
ووصفها ثانياً : بأنها تجري من تحتها الأنهار ، أي تجري من تحت أشجارها الأنهار التي تسر النفس . وتبهج القلب ، وتزيد في حسن الجنة وبهائها .
أما صاحبها فقد وصفه - سبحانه - بأنه قد أصابه الكبر وله ذريه ضعفاء أي أنه في منتهى الاحتياج إليها لكبر سنه وعجزه عن الاكتساب من غيرها ولمسئوليته عن الإنفاق على أولاد صغار لا يعولهم أحد سواه .
تلك هي حالة الجنة وحالة صاحبها في احتياجه إليها ، فمادذا حدث بعد ذلك ؟ لقد أصابها { إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فاحترقت } فماذا يكون حال هذا الإِنسان الذي أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء وهو يرى جنته ومحط أمله قد احترقت وهو في أشد الحاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها ؟
إن الكلمات لتعجز عن تصوير ما يصيب هذا البائس من غم وهم وحزن وحسرة ، وهو يرى جنته قد احترقت وهو في أشد أوقاته حاجة إلى ظلها وثمارها ومنافعها ! ؟
ولكأن الله - تعالى - يقول للناس بعد هذا التصوير البديع المؤثر : احذروا أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بإرتكابكم لما نهى الله عنه ، فلا تجدون لها نفعاً يوم القيامة وأنتم في أشد الحاجة إليها في هذا اليوم العصيب ، لأنكم إذا فعلتم ذلك كان مثلكم في التحسر والحزن كمثل هذا الشيخ الكبير الذي احترقت جنته وهو في أشد الحاجة إليها .
وإنه لتصوير قرآني في أسمى درجات البلاغة والتأثير ، وفي أعلى ألوان التأديب والتهذيب .
قال القرطبي : روى البخاري عن عبيد بن عمير قال : " قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت وهي قوله - تعالى - : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ } الآية . قالوا الله أعلم . فغضب عمر فقال : قولوا نعمل أو لا نعلم فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، قال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك . قال ابن عباس : ضربت مثلا لرجل غني عمل بطاعة الله . ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق عمله . وروى ابن أبي مليكه أن عمر تلا هذه الآية وقال : هذا مثل ضربه الله للإِنسان يعمل عملا صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل العمل السيء " .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية بقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }
أي : كما يبين الله في هذه الآية ما يهديكم وينفعكم يبين لكم آياته وهداياته في سائر أمور دينكم لكي تتفكروا فيما يصلحكم ، وتعملوا ما يرضى خالقكم .