القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد يوم تقوم الساعة أهل كل ملة ودين جاثية : يقول : مجتمعة مستوفزة على ركبها من هول ذلك اليوم . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال على الركب مستوفِزِين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال قال ابن زيد ، في قوله : وَتَرَى كُلّ أُمّةٍ جاثِيَةً قال : هذا يوم القيامة جاثية على ركبهم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : وَتَرَى كُلّ أمّةٍ جاثِيَةً يقول : على الركب عند الحساب .
وقوله : كُلّ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها يقول : كل أهل ملة ودين تُدعى إلى كتابها الذي أملت على حفظتها . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كُلُ أُمّةٍ تُدْعَى إلى كِتابِها ، يعلمون أنه ستدعى أُمة قبل أُمة ، وقوم قبل قوم ، ورجل قبل رجل . ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُمَثّلُ لِكُلّ أُمّةٍ يَوْمَ القِيامَةِ ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ حَجَرٍ ، أوْ وَثَنٍ أوْ خَشَبَةٍ ، أوْ دَابّةٍ ، ثُمّ يُقالُ : مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَتَكُونُ ، أوْ تُجْعَلُ تِلْكَ الأوْثانُ قادَةً إلى النّارِ حتى تَقْذِفَهُمْ فِيها ، فَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عَليهِ وَسلّمَ وأهْلُ الكِتاب ، فَيَقُولُ للْيَهُودِ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَعُزَيْرا إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ، فَيُقالُ لَهَا : أمّا عُزَيْرٌ فَلَيْسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشّمالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا ، ثُمّ يُدْعَى بالنّصَارَى ، فَيُقالُ لَهُمْ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَالمَسِيحَ إلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَيُقالُ : أمّا عِيسَى فلَيسَ مِنْكُمْ وَلَسْتُمْ مِنْهُ ، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشمّالِ ، فَيَنْطَلِقُونَ وَلا يسْتَطِيعُونَ مُكُوثا ، وَتَبْقَى أُمّةُ مُحَمّدٍ صَلى اللّهُ عليهِ وسلّمَ ، فَيُقالُ لَهُمْ : ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : كُنّا نَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ ، وإنّمَا فارَقْنا هَؤُلاءِ فِي الدّنيْا مَخافَةَ يَوْمِنا هَذَا ، فَيُؤْذَنُ للْمُؤْمِنِينَ فِي السّجُودِ ، فَيَسْجُدُ المُؤْمِنُونَ ، وَبينَ كُلّ مُؤْمِنٍ مُنافِقٌ ، فَيْقْسُو ظَهْرُ المُنافِقِ عَنِ السّجُودِ ، وَيجْعَلُ اللّهُ سُجُودَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ تَوْبِيخا وَصَغارا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الزهريّ ، عن عطاء بن يزيدالليثي ، عن أبي هريرة ، قال : «قَالَ الناسُ : يا رسُولَ اللّهِ هَلْ نَرَى ربّنَا يومَ القيامَةِ ؟ قال : «هَلْ تُضَامّونَ فِي الشّمْسِ لَيْسَ دُونَها سَحَابٌ ، قالُوا : لاَ يَا رسُولَ اللّهِ ، قال : «هَلْ تُضَارّونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ » قالوا : لا يا رسُول الله ، قَالَ : فإنّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلكَ . يَجْمَعُ اللّهُ النّاسَ فَيَقُولُ : مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلْيَتْبَعْهُ ، فَيَتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ القَمَرَ القَمَرَ ، وَمَنْ كانَ يَعْبُدُ الشّمْسَ الشّمْسَ ، وَيَتْبَع مَنْ كانَ يَعْبُدُ الطّوَاغِيتَ الطّوَاغِيتَ ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمّةُ فِيها مُنافِقُوها ، فيَأتِيهِمْ رَبّهُمْ فِي صورَةٍ ، وَيُضْرَبُ جِسْرٌ على جَهَنّمَ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «فَأكُونُ أوّلَ مَنْ يُجِيزَ ، وَدَعْوَةُ الرّسُلِ يَوْمَئِذٍ : اللّهُمّ سَلّمْ ، اللّهُمّ سَلّمْ وَبها كَلالِيبُ كَشَوْكِ السّعْدانِ هَلْ رَأيْتُمْ شَوْكَ السّعْدانِ ؟ قالوا : نعم يا رسول الله قال : فإنّها مِثْلُ شَوْكِ السّعْدانِ غَيرَ أنّهُ لا يَعْلَمُ أحَدٌ قَدْرَ عِظَمِها إلاّ اللّهُ ويُخْطَفُ النّاسُ بأعمالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ المُوبَقُ بعَمَلِهِ ، وَمِنْهُمُ المُخَرْدَلُ ثُمّ يَنْجُو ، ثُمّ ذَكَرَ الحدِيثَ بِطُولِه » .
وقوله : اليَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . يقول تعالى ذكره : كلّ أُمة تُدعى إلى كتابها ، يقال لها : اليوم تجزون : أي تثابون وتعطون أجور ما كنتم في الدنيا من جزاء الأعمال تعملون بالإحسان الإحسانَ ، وبالإساءة جزاءها .
والخطاب في { ترى } لكل من يصلح له الخطاب بالقرآن فلا يقصد مخاطب معين ، ويجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم والمضارع في { ترى } مراد به الاستقبال فالمعنى : وترى يومئذٍ .
والأمة : الجماعة العظيمة من الناس الذين يَجمعهم دين جاء به رسول إليهم .
و { جاثية } اسم فاعل من مصدر الجُثُوِّ بضمتين وهو البروك على الرُكبتين باستئفاز ، أي بغير مباشرة المقعدة للأرض ، فالجاثي هو البارك المستوفز وهو هيئة الخضوع .
وظاهر كون { كتابها } مفرداً غير معرف باللام أنه كتاب واحد لكل أمة فيقتضي أن يراد كتاب الشريعة مثل القرآن ، والتوراة ، والإنجيل ، وصحف إبراهيم وغير ذلك لا صحائف الأعمال ، فمعنى { تدعى إلى كتابها } تدعى لتعرض أعمالها على ما أُمرت به في كتابها كما في الحديث « القرآن حجةٌ لك أو عليك » وقيل : أريد بقوله : { كتابها } كتاب تسجيل الأعمال لكل واحد ، أو مراد به الجنس وتكون إضافته إلى ضمير الأمة على إرادة التوزيع على الأفراد لأن لكل واحد من كل أمة صحيفة عمله خاصة به كما قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] ، وقال : { وَوضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه } [ الكهف : 49 ] أي كل مجرم مشفق مما في كتابه ، إلا أن هذه الآية الأخيرة وقع فيها الكتاب معرفاً باللام فقبل العمومَ . وأما آية الجاثية فعمومها بدليّ بالقرينة . فالمراد : خصوص الأمم التي أرسلت إليها الرسل ولها كتب وشرائع لقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] .
ومسألة مؤاخذة الأمم التي لم تجئها الرسل بخصوص جحد الإله أو الإشراكِ به مقررة في أصول الدين ، وتقدمت عند قوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } في سورة الإسراء ( 15 ) .
وقرأ الجمهور { كل أمة تدعى إلى كتابها } برفع { كل } على أنه مبتدأ و { تدعى } خبر عنه والجملة استئناف بياني لأن جُثو الأمة يثير سؤال سائل عما بعد ذلك الجثوّ . وقرأه يعقوب بنصب { كلَّ } على البدل من قوله : { وترى كل أمة } . وجملة { تدعى } حال من { كل أمة } فأعيدت كلمة { كل أمة } دون اكتفاء بقوله { تدعَى } أو يدعون للتهويل والدعاء إلى الكتاب بالأمم تجثو ثم تدعى كل أمة إلى كتابها فتذهب إليه للحساب ، أي يذهب أفرادها للحساب ولو قيل : وترى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها لأوهم أن الجثو والدعاء إلى الكتاب يحصلان معاً مع ما في إعادة الخبر مرة ثانية من التهويل .
وجملة { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } بدل اشتمال من جملة { تدعى إلى كتابها } بتقدير قول محذوف ، أي يقال لهم اليوم تجزون ، أي يكون جزاؤكم على وفق أعْمالِكم وجريها على وفق ما يوافق كتاب دينكم من أفعالكم في الحسنات والسيئات ، وهذا البدل وقع اعتراضاً بين جملة { وترى كل أمة جاثية } وجملة { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية : 30 ] الآيات .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.