القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } ( 126 ) .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم ، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة ، ولئن صبرتم عن عقوبته ، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم ، ووكلتم أمره إليه ، حتى يكون هو المتولى عقوبته ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) يقول : للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتسابا ، وابتغاء ثواب الله ؛ لأن الله يعوّضه مِنَ الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذّة الانتصار ، وهو من قوله ( لَهُوَ ) كناية عن الصبر ، وحسن ذلك ، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله : ( وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ ) عليه .
وقد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية . وقيل : هي منسوخة أو محكمة ، فقال بعضهم : نزلت من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقسموا حين فعل المُشركون يوم أُحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المُثْلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يومًا ، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم ، ثم أمرهم بعد ذلك بترك التمثيل ، وإيثار الصبر عنه بقوله وَاصْبِرْ { وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ } ، فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المُثلة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن عامر : أن المسلمين قالوا لما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد : لئن ظهرنا عليهم لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنزل الله تعالى : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) قالوا : بل نصبر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا عبد الوهاب ، قال : ثنا داود ، عن عامر ، قال : لما رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أُحد ، من تبقير البطون ، وقطع المذاكير ، والمُثلة السيئة ، قالوا : لئن أظفرنا الله بهم ، لنفعلنّ ولنفعلنّ ، فأنزل الله فيهم وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة ، وهي مكية ، إلا ثلاث آيات في آخرها نزلت في المدينة بعد أُحد ، حيث قُتِل حمزة ومُثِّل بِه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لَئِنْ ظَهَرْنا عَلَيْهمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِثَلاثِينَ رَجُلا مِنْهُمْ " فلما سمع المسلمون بذلك ، قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلنّ بهم مُثْلة لم يمثِّلْها أحد من العرب بأحد قطُّ فأنزل الله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) . . . إلى آخر السورة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، قال المسلمون يوم أُحد فقال : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) . . . إلى قوله : ( لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، ثم قال بعد : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما أصيب في أهل أُحد المُثَل ، فقال : المسلمون : لئن أصبناهم لنمثلنّ بهم ، فقال الله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، ثم عزم وأخبر فلا يمثل ، فنهي عن المُثَل ، قال : مثَّل الكفار بقتلى أُحد ، إلا حنظلة بن الراهب ، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك .
وقال آخرون : نسخ ذلك بقوله في براءة : ( اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) ، قالوا : وإنما قال : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، خبرًا من الله للمؤمنين أن لا يبدءوهم بقتال حتى يبدءوهم به ، فقال : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، قال : هذا خبر من الله نبيه أن يُقاتل من قاتله . قال : ثم نزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ، قال : فهذا من المنسوخ .
وقال آخرون : بل عنى الله تعالى بقوله : ( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ ) ، نبيّ الله خاصة دون سائر أصحابه ، فكان الأمر بالصبر له عزيمة من الله دونهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، قال : أمرهم الله أن يعفوا عن المشركين ، فأسلم رجال لهم منعة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنزل القرآن : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ) ، واصبر أنت يا محمد ، ولا تكن في ضيق ممن ينتصر ، وما صبرك إلا بالله ، ثم نسخ هذا وأمره بجهادهم ، فهذا كله منسوخ .
وقال آخرون : لم يُعْنَ بهاتين الآيتين شيء مما ذكر هؤلاء ، وإنما عُنِيَ بهما أن من ظُلِم بظُلامة ، فلا يحلّ له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه ، وقالوا : الآية محكمة غير منسوخة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، يقول : إن أخذ منك رجل شيئا ، فخذ منه مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله . قال الحسن : قال عبد الرزاق : قال سفيان : ويقولون : إن أخذ منك دينارًا فلا تأخذ منه إلا دينارًا ، وإن أخذ منك شيئا فلا تأخذ منه إلا مثل ذلك الشيء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ) ، لا تعتدوا .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به ، إن اختار عقوبته ، وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته ، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر ، وذلك أن ذلك هو ظاهر التنزيل ، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه ، محتملها الآية كلها . فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أيّ ذلك عنى بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه ؛ وأن يقال : هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قِبَل غيرهم من حقّ من مال أو نفس ، الحقّ الذي جعله الله لهم إلى غيره ، وأنها غير منسوخة ، إذ كان لا دلالة على نسخها ، وأن للقول بأنها محكمة وجهًا صحيحًا مفهوما .
{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ، لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة ، ومراعاة العدل مع من يناصبهم ، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات ، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال . وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزة وقد مثل به فقال : " والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك " ، فنزلت . فكفر عن يمينه ، وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه ، وحث على العفو تعريضا بقوله : { وإن عاقبتم } ، وتصريحا على الوجه الآكد بقوله : { ولئن صبرتم لهُو } ، أي : الصبر . { خير للصابرين } ، من الانتقام للمنتقمين .
عَطف على جملة { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة } [ سورة النحل : 125 ] ، أي إن كان المقام مقام الدعوة فلتكن دعوتك إيّاهم كما وصفنا ، وإن كنتم أيها المؤمنون معاقبين لمشركين على ما نالكم من أذاهم فعاقبوهم بالعدل لا بِتجاوُز حدّ ما لقيتم منهم .
فهذه الآية متّصلة بما قبلها أتم اتّصال ، وحسبك وجود العاطف فيها . وهذا تدرّج في رتب المعاملة من معاملة الذين يدعون ويوعظون إلى معاملة الذين يجادلون ثم إلى معاملة الذين يجازون على أفعالهم ، وبذلك حصل حسن الترتيب في أسلوب الكلام .
وهذا مختار النحاس وابن عطية وفخر الدين ، وبذلك يترجّح كون هذه الآية مكية مع سوابقها ابتداء من الآية الحادية والأربعين ، وهو قول جابر بن زيد ، كما تقدم في أول السورة . واختار ابن عطية أن هذه الآية مكّية .
ويجوز أن تكون نزلت في قصة التّمثيل بحَمزة يوم أُحُد ، وهو مرويّ بحديث ضعيف للطبراني . ولعلّه اشتبه على الرّواة تذكر النبي الآيةَ حين توعّد المشركين بأن يمثّل بسبعين منهم إن أظفره الله بهم .
والخطاب للمؤمنين ويدخل فيه النبي .
والمعاقبة : الجزاء على فعل السوء بما يسوء فاعل السوء .
فقوله : { بمثل ما عوقبتم } مشاكَلَةٌ لِ { عاقبتم } . استعمل { عوقبتم } في معنى عوملتم به ، لوقوعه بعد فعل { عاقبتم } ، فهو استعارة وجه شبهها هو المشاكلة . ويجوز أن يكون { عوقبتم } حقيقة لأن ما يلقونه من الأذى من المشركين قصدوا به عقابهم على مفارقة دين قومهم وعلى شتم أصنامهم وتسفيه آبائهم .
والأمر في قوله : { فعاقبوا } للوجوب باعتبار متعلّقه ، وهو قوله : { بمثل ما عوقبتم به } فإن عدم التجاوز في العقوبة واجب .
وفي هذه الآية إيماء إلى أن الله يُظهر المسلمين على المشركين ويجعلهم في قبضتهم ، فلعلّ بعض الذين فتنهم المشركون يبعثه الحَنق على الإفراط في العقاب . فهي ناظرة إلى قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [ سورة النحل : 110 ] .
ورغّبهم في الصبر على الأذى ، أي بالإعراض عن أذى المشركين وبالعفو عنه ، لأنه أجلب لقلوب الأعداء ، فوصف بأنه خير ، أي خير من الأخذ بالعقوبة ، كقوله تعالى : { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم } [ سورة فصّلت : 34 ] ، وقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ سورة الشورى : 40 ] .
وضمير الغائب عائد إلى الصبر المأخوذ من فعل صبرتم } ، كما في قوله تعالى : { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ سورة المائدة : 8 ] .
وأكّد كون الصبر خيراً بلام القسم زيادة في الحثّ عليه .
وعبّر عنهم بالصابرين إظهاراً في مقام الإضمار لزيادة التنويه بصفة الصابرين ، أي الصبر خبر لجنس الصابرين .