المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

5- اليوم - منذ نزول هذه الآية - أحل الله لك كل طيب تستطيبه النفوس السليمة ، وأحل لكم طعام أهل الكتاب ، وذبائحهم ، مما لم يرد نص بتحريمه ، كما أحل لهم طعامكم ، وأحل لكم زواج الحرائر والعفائف من المؤمنات ومن أهل الكتاب ، إذا أديتم لهن مهورهن قاصدين الزواج ، غير مستبيحين العلاقات غير الشرعية علانية ، أو بطريق اتخاذ الخلائل . ومن يجحد الدين فقد ضاع ثواب عمله الذي كان يظن أنه قربى ، وهو في الآخرة من الهالكين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

ثم حكى - سبحانه - جانباً آخر من مظاهر نعمه على عباده ، ورحمته بهم وتيسيره عليهم في أمور دينهم ودنياهم فقال :

{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات . . . }

قوله : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ } . يصح أن يراد به اليوم الذي نزلت فيه . فإنه يجوز أن تكون هذه الآية وما قبلها من قوله - تعالى - { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } قد نزلت جميعها في يوم واحد وهو يوم عرفة من عام حجة الوداع .

ويصح أن يراد به الزمان الحاضر مع ما يتصل به من الماضي والمستقبل . والراد بالطيبات : ما يستطاب ويشتهي مما أحله الشرع .

والمراد بطعام الذين أوتوا الكتاب : ذبائحهم خاصة . وهذا مذهب جمهور العلماء .

قالوا : لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب ، وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة . ولأن ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح . فحمل هذه الآية عليه أولى ، لأن سائر الطعام لا يختلف من تولاه من كتابي أو غيره . وإنما تختلف الذكاة . فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم .

وقيل المراد بطعام أهل الكتاب هنا : الخبز والحبوب والفاكهة وغير ذلك مما لا يحتاج إلى تذكية . وينسب هذا القول إلى بعض طوائف الشيعة .

وقيل المراد به : ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة . وقد روى هذا القول عن ابن عباس ، وأبي الدرداء ، وقتادة ومجاهد وغيرهم .

والمراد بالذين أوتوا الكتاب : اليهود والنصارى .

ال الآلوسي : وحكم الصابئين كحكم أهل الكتاب عند أبي حنيفة . وقال صاحباه الصائبة صنفان : صنف يقرأون الزبور ويعبدون الملائكة وصنف لا يقرأون كتابا ويعبدون النجوم فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .

واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم غير الله - كعزير وعيسى - فقال ابن عمر : لا تحل . وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل . وهو قول الشعبي وعطاء قالا : " فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون " .

والمعنى : إن الله أسبغ عليكم نعمه - أيها المؤمنون - وأكمل لكم دينه ، ويسر لكم شرعه ، ومن مظاهر ذلك أنه - سبحانه - أحل لكم التمتع بالطيبات ، كما أحل لكم أن تأكلوا من ذبائح أهل الكتاب . وأن تطعموهم من طعامكم .

قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، أن ذبائحهم حلال للمسلمين ، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه - تعالى وتقدس - .

وإنما قال : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم للتنبيه على أن الحكم مختلف في الذبائح عن المناكحة .

فإن إباحة الذبائح حاصلة من الجانبين ، بخلاف إباحة المنكاحات فإنها في جانب واحد ، إذ لا يحل لغير المسلم أن يتزوج بمسلمة ، لأنه لو جاز ذلك لكان لأزواجهن الكفار ولاية شرعية عليهن ، والله - تعالى - لم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعيا ، بخلاف إباحة الطعام من الجانبين فإنها لا تستلزم محظوراً .

قال بعض العلماء : والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم ، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح ، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص ، وأما غير الذبائح فهو قسمان :

القسم الأول : ما لا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر وهو حلال بالاتفاق .

والقسم الثاني : ما لهم يه عمل وهو قسمان - أيضاً - أحدهما ، ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات وهذا قد اختلف فيه الفقهاء . فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ، ومن هؤلاء : ابن عباس ، لأن احتمال النجاسة ثابت ، وهو يمنع الحل . وقد تبع هذا الرأي بعض المالكية ، ومن هؤلاء الطرطوسي وقد صنف في تحريم جبن النصارى ويجري مجرى الجبن الزيت ، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه . ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة ، والثاني : المحرم ، وهو ما ثبت أنه قد دخله أجزاء من الخمر أو الميتة ، أو الخنزير ، أو غير ذلك من المحرمات .

ثم بين - سبحانه - حكم نكاح نساء أهل الكتاب بعد بيان حكم ذبائحهم فقال { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } .

وقوله : { والمحصنات } عطف على { الطيبات } وهو جمع محصنة .

والإِحصان يطلق على معان منها : الإِسلام . ولا موضع له هنا لأن الكلام في غير المسلمات ، ويطلق على التزوج ، ولا موضع له هنا - أيضاً - لأنه لا يحل تزوج ذات الزوج .

ويطلق على العفة وعلى الحرية وهذان المعنيان هما المختاران هنا .

فمن الفقهاء من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا العفيفات ويكون الوصف للترغيب في طلف العفة ، والعمل على اختيار من هذه صفتها .

ومنهم من قال : المراد بالمحصنات من أهل الكتاب هنا : الحرائر أي أنه لا يحل الزواج بنساء أهل الكتاب إلا إذا كن حرائر .

والمراد بقوله { أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن . وعبر عن المهر بالأجر لتأكيد وجوبه . وعدم الاستهانة بأي حق من حقوقهن .

وقوله : محصنين - بكسر الصاد - أي متعففين بالزواج عن اقتراب الفواحش .

يقال أحصن الرجل فهو محصن أي : تعفف فهو متعفف وأحصن بالزواج الرجل فهو محصن - بفتح الصاد - أي : أعفه بالزواج عن الوقوع في الفاحشة .

وقوله { مُسَافِحِينَ } جمع مسافح . والسفاح . الزنا . يقال : سافح الرجل المرأة إذا ارتكب معها فاحشة الزنا ، وسمى الزاني مسافحاً .

لأنه سفح ماءه أي : صبه ضائعاً .

وقوله : { أَخْدَانٍ } جمع خدان - بكسر الخاء وسكون الدال - بمعنى الصديق . ويطلق على الذكر والأنثى .

والمراد بالخدن هنا . المرأة البغي التي يخادنها الرجل أي يصادقها ليرتكب معها فاحشة الزنا . وغالبا ما تكون خاصة به .

والمعنى : وكما أحل الله لكم - أيها المؤمنون - الطيبات من الرزق ، وأحل لكم ذبائح أهل الكتاب ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، فقد أحل لكم - أيضاً - نكاح المحصنات من المؤمنات . أي العفيفات الحرائر لأنهن أصون لعرضكم . وأنقى لنطفكم ، وأحل لكم نكاح النساء المحصنات أيِ : الحرائر العفيفات { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أي : من اليهود والنصارى .

قال الآلوسي : وتخصيص المحصنات بالذكر في الموضعين ، للحث على ما هو الأولى والأليق ، لا لنفي ما عداهن ، فإن نكاح الإِماء المسلمات بشرطه ، صحيح بالاتفاق . وكذا نكاح غير العفائف منهن . وأما الإِماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم " .

وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : مهورهن ، وهي عوض عن الاستمتاع بهن .

وقالوا : وهذا الشرط بيان للأكمل والأولى لا لصحة العقد ، إذ لا تتوقف صحة العقد على دفع المهر ، إلا أن الأولى هو إيتاء الصداق قبل الدخول .

وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } أمر لهم بالعفة والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن . وقوله { مُحْصِنِينَ } حال في فاعل { آتَيْتُمُوهُنَّ } .

وقوله : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } صفة لمحصنين ، أو حال من الضمير المستتر في محصنين .

وقوله : { وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } يحتمل أن يكون مجروراً على أنه عطف على مسافحين ، وزيدت فيه " لا " لتأكيد النفي المستفاد من لفظ غير . ويحتمل أن يكون منصوباً على أنه عطف على { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .

والمعنى : أبحنا لكم الزواج بالكتابيات المحصنات لتشكروا الله - تعالى - على تيسيره لكم فيما شرع ، ولتطلبوا من وراء زواجكم العفة والبعد عن الفواحش ، والصون لأنفسكم ولأنفس أزواجكم عن انتهاك حرمات الله في السر أو العلن .

وقدم - سبحانه - المحصنات من المؤمنات على المحصنات من الذين أوتوا الكتاب للتنبيه على أن المحصنات من المؤمنات أحق باختيار الزواج بهن من غيرهن ، وأن المحصنة المؤمنة الزواج بها أولى وأجدر وأحسن من الزواج بالمحصنة الكتابية .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .

أي : ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه التي أنزلها على نبيه صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله ، أي : خاب سعيه . وفسد عمله الذي عمله . وهو في الآخرة من الهالكين الذين ضيعوا ما عملوه في الدنيا من أعمال بسبب انتهاكهم لحرمات الله وأحكام دينه .

فالمقصود من هذه الجملة الكريمة : الترهيب من مخالفة أوامر الله والترغيب في طاعته - سبحانه - .

هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من الآية الكريمة .

1 - إباحة التمتع بالطيبات التي أنعم بها - سبحانه - على عباده ، ولم يرد نص بحرمتها .

2 - إباحة الأكل من ذبائح أهل الكتاب وإباحة إطعامهم من طعامنا .

3 - الترغيب في نكاح المرأة المحصنة أي التي أحصنت نفسها عن الفواحش وصانتا عن كل ريبة واعتصمت بالعفاف والشرف ، وكان سلوكها المستقيم دليلا على أنها متمسكة بتعاليم دينها . وبالآداب الحميدة التي جاءت بها شريعة الإِسلام .

وقد وردت أحاديث كثيرة في هذا المعنى ، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " .

ومعنى ( تربت يداك ) : افتقرت وندمت إن لم تبحث عن ذات الدين ، وتجعلها محط طلبك للزواج بها .

وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن امرأتي لا تمنع يد لامس . قال صلى الله عليه وسلم : " غربها - أي طلقها - " . قال : أخاف أن تتبعها نفسي - أي : أرتكب معها ما نهى الله عنه بعد طلاقها - قال صلى الله عليه وسلم : " فاستمتع بها " أي أبقها مع المحافظة عليها .

4 - إباحة نكاح النساء الكتابيات - وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، لأن هذا هو الظاهر من معى قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } .

قال ابن كثير : وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله - تعالى - { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } فحجز الناس عنهن حتى نزلت : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } فنكح الناس نساء أهل الكتاب .

وقد تزود جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية ، وجعلوها مخصصة للتي في سورة البقرة وهي قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها . وإلا فلا معارضة بينها وبينها ؛ لأن أهل الكتاب انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع . كقوله - تعالى - { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } وقال بعض العلماء ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أخذه الجمهور على عمومه ، فأباحوا التزوج من أهل الكتاب وإن غيروا وبدلوا ، ذميين كانوا أو حربيين . وقيد جماعة بالذميين دون الحربيين .

وذهب جماعة من السلف إلى أن أهل الكتاب قد غيروا أو بدلوا وعبدوا المسيح .

وقالوا : إن الله ثالث ثلاثة . فهم بذلك والمشركون في العقيدة سواء وقد حرم الله التزوج من المشركات ونسب هذا الرأي إلى عبدالله بن عمر وغيره من الصحابة .

وتأولوا الآية بوجوه أقر بها أنها رخصة خاصة في الوقت الذي نزلت فيه . قال عطاء : إنما رخص الله في التزوج بالكتابية في ذلك الوقت ؛ لأنه كان في المسلمات قلة . أما الآن ففيهن الكثرة العظيمة ، فزالت الحاجة فلا جرم زالت الرخصة .

والذي نراه في المسألة أنه ليس في الآية ما يدل على أنه رخصة ، ولا نعلم في الشريعة ما يدل على أنه رخصة . والآية دالة على الإِباحة المطلقة ، ولم تقيد بوقت خاص ، ولا بحالة خاصة .

نعم إن ما نراه اليوم في بعض المسلمين من رغبة التزوج بنساء الإِفرنج لا لغاية سوى أنها إفرنجية . ثم يضع نفسه وأولاده تحت تصرفها فتنشئهم على تقاليدها وعاداتها التي تأباها تعاليم الإِسلام .

نعم إن ما نراه من كل ذلك يجعلنا نوجب على الحكومات التي تدين بالإِسلام وتغار على قوميتها وشعائرها . . أن تمنع من التزوج بالكتابيات ، وأن تضع حدا لهؤلاء الذين ينسلخون عن قوامتهم على المرأة . حفاظاً على مبادئ الدين وعلى عقيدة أولاد المسلمين .

وإن العمل على تقييد هذا احلكم في التشريع الإِسلامي أو منعه ، لألزم وأوجب مما تقوم به بعض الحكومات الإِسلامية ، أو تحاول أن تقوم به ، من تحديد سن الزواج للفتاة . وتقييد تعدد الزوجات ، وتقييد الطلاق ، وما إلى ذلك من التشريعات التي ينشط لها كثير من رجال الحكم ، سيراً وراء مدنية الغرب المظلمة .

ألا وإن انحلال الكثرة الغالبة ممن يميلون إلى التزوج بالكتابيات للمعاني التي أشرنا إليها لمما يوجب الوقوف أمام هذه الإِباحة التي أصبحت حالتنا لا تتفق والغرض المقصود منها .

وهذا معىن تشهد به كليات الدين وقواعده التي يتجلى فيها شدة حرصه على حفظ شخصية الأمة الإِسلامية ، وعدم انحلالها وفنائها في غيرها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (5)

{ اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } .

يجيء في التقييد ( باليوم ) هنا ما جاء في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } [ المائدة : 3 ] وقولِه : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] ، عدا وجه تقييد حصول الفعل حقيقة بذلك اليوم ، فلا يجيء هنا ، لأنّ إحلال الطيّبات أمر سابق إذ لم يكن شيء منها محرّماً ، ولكن ذلك اليوم كان يوم الإعلام به بصفة كليّة ، فيكون كقوله : { ورَضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] في تعلّق قوله : { اليوم } به ، كما تقدّم .

ومناسبة ذكر ذلك عقب قوله { اليوم يئسَ } [ المائدة : 3 ] و { اليوم أكملت } [ المائدة : 3 ] أنّ هذا أيضاً منّة كبرى لأنّ إلقاء الأحكام بصفة كلّيّة نعمة في التفقّه في الدين .

والكلام على الطيّبات تقدّم آنفاً ، فأعيدَ ليُبنى عليه قوله : { وطعام الذين أتوا الكتاب } . وعطفُ جملة { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } على جملة { اليومَ أحلّ لكم الطيّبات } لأجل ما في هذه الرخصة من المنّة لكثرة مخالطة المسلمين أهل الكتاب فلو حرّم الله عليهم طعامهم لشقّ ذلك عليهم .

والطعام في كلام العرب ما يطعَمه المرء ويأكله ، وإضافته إلى أهل الكتاب للملابسة ، أي ما يعالجه أهل الكتاب بطبخ أو ذبح . قال ابن عطية : الطعام الذي لا محاولة فيه كالبُرّ والفاكهة ونحوهما لا يغيّره تملّك أحد له ، والطعام الذي تقَع فيه محاولة صنعته لا تعلّق للدين بها كخَبز الدقيق وعصر الزيت . فهذا إن تُجنِّبَ من الذميّ فعلى جهة التقذّر . والتذكية هي المحتاجة إلى الدّين والنية ، فلمَّا كان القياس أن لا تجوز ذبائحهم رخص الله فيها على هذه الأمّة وأخرجها عن القياس . وأراد بالقياس قياس أحوال ذبائحهم على أحوالهم المخالفة لأحوالنا ، ولهذا قال كثير من العلماء : أراد الله هنا بالطعام الذبائح ، مع اتّفاقهم على أنّ غيرها من الطعام مباح ، ولكن هؤلاء قالوا : إنّ غير الذبائح ليس مراداً ، أي لأنّه ليس موضع تردّد في إباحة أكله . والأولى حمل الآية على عمومها فتشمل كلّ طعام قد يظن أنَّه محرّم علينا إذ تدخله صنعتهم ، وهم لا يتَوَقَّوْنَ ما نتوقّى ، وتدخله ذكاتهم وهم لا يشترطون فيها ما نشترطه . ودخل في طعامهم صيدهم على الأرجح .

و { الذين أوتوا الكتاب } : هم أتباع التوراة والإنجيل ، سواء كانوا ممّن دعاهم موسى وعيسى عليهما السلام إلى اتّباع الدين ، أم كانوا ممّن اتّبعوا الدينيين اختياراً ؛ فإنّ موسى وعيسى ودعَوا بني إسرائيل خاصّة ، وقد تهوّد من العرب أهل اليمن ، وتنصّر من العرب تغلب ، وبهراء ، وكلب ، ولخم ، ونَجران ، وبعض ربيعة وغسّان ، فهؤلاء من أهل الكتاب عند الجمهور عدا عليّا بن أبي طالب فإنه قال : لا تحلّ ذبائح نصارى تغلب ، وقال : إنّهم لم يتمسّكوا من النصرانية بشيء سوى شرب الخمر .

وقال القرطبي : هذا قول الشافعي ، وروى الربيع عن الشافعي : لا خير في ذبائح نصارى العرب من تغلب . وعن الشافعي : من كان من أهل الكتاب قبل البعثة المحمّدية فهو من أهل الكتاب ، ومن دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن فلا يقبل منه إلاّ الإسلام ، ولا تقبل منه الجزية ، أي كالمشركين .

وأمَّا المجوس فليسوا أهل كتاب بالإجماع ، فلا تؤكل ذبائحهم ، وشذّ من جعلهم أهل كتاب . وأمَّا المشركون وعبدة الأوثان فليسوا من أهل الكتاب دون خلاف .

وحِكمة الرخصة في أهل الكتاب : لأنّهم على دين إلهي يُحرّم الخبَائث ، ويتقي النجاسة ، ولهم في شؤونهم أحكام مضبوطة متّبعة لا تظنّ بهم مخالفتها ، وهي مستندة للوحي الإلهي ، بخلاف المشركين وعبدة الأوثان . وأمّا المجوس فلهم كتاب لكنّه ليس بالإلهي ، فمنهم أتباع ( زَرَادشْت ) ، لهم كتابُ ( الزندفستا ) وهؤلاء هم محلّ الخلاف . وأمّا المجوس ( المَانَويَّة ) فهم إباحية فلا يختلف حالهم عن حال المشركين وعبدة الأوثان ، أو هم شرّ منهم . وقد قال مالك : ما ليس فيه ذكاة من طعام المجوس فليس بحرام يعني إذا كانوا يتّقون النجاسة . وفي « جامع الترمذي » : أنّ أبا ثعلبة الخشني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدور المجوس . فقال له : " أنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها " وفي البخاري : أنّ أبا ثعلبة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آنِيَة أهل الكتاب . فقال له : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثمّ كلوا فيها " قال ابن العربي : « فغسل آنية المجوس فرض ، وغسل آنية أهل الكتاب ندب » . يُريد لأنّ الله أباح لنا طعام أهل الكتاب فقد علم حالهم ، وإنَّما يسري الشكّ إلى آنيتهم من طعامهم وهو مأذون فيه ، ولم يبح لنا طعام المجوس ، فذلك منزع التفرقة بين آنية الفريقين .

ثم الطعامُ الشامل للذكاة إنّما يعتبر طعاماً لهم إذاكانوا يستحلّونه في دينهم ، ويأكله أحبارهم وعلماؤهم ، ولو كان ممّا ذكر القرآنُ أنَّه حرّمه عليهم ، لأنَّهم قد تأوّلوا في دينهم تأويلات ، وهذا قول مالك . وأرى أنّ دليله : أنّ الآية عمّمت طعامهم فكان عمومها دليلاً للمسلمين ، ولا التفات إلى ما حكَى الله أنّه حرّمه عليهم ثم أباحه للمسلمين ، فكان عموم طعامهم في شرعنا مُباحاً ناسخاً للمحرّم عليهم ، ولا نصِيرُ إلى الاحتجاج « بشرع من قبلنا . . . » إلاّ إذا لم يكن لنا دليل على حُكمهِ في شرعنا . وقيل : لا يؤكل ما علِمْنا تحريمه عليهم بنصّ القرآن ، وهو قول بعض أهل العلم ، وقيل به في مذهب مالك ، والمعتمد عن مالك كراهة شحوم بقر وغنم اليهود من غير تحريم ؛ لأنّ الله ذكر أنه حرّم عليهم الشحوم .

ومن المعلوم أن لا تعمل ذكاة أهل الكتاب ولا إباحة طعامهم فيما حرّمه الله علينا بعينه : كالخنزير والدم ، ولا ما حرّمه علينا بوصفه ، الذي ليس بذكاة : كالميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وأكيلة السبع ، إذا كانوا هم يستحلّون ذلك ، فأمَّا ما كانت ذكاتهم فيه مخالفة لذكاتنا مخالفةَ تقصير لا مخالفة زيادة فذلك محلّ نظر كالمضروبة بمحدّد على رأسها فتموت ، والمفتولة العنق فتتمزّق العروق ، فقال جمهور العلماء : لا يؤكل .

وقال أبو بكر ابن العربي من المالكية : تؤكل . وقال في « الأحكام » : فإن قيل فما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطْم الرأس فالجواب : أنّ هذه ميتة ، وهي حرام بالنصّ ، وإن أكلوها فلا نأكلها نحْن ، كالخنزير فإنّه حلال لهم ومن طعامهم وهو حرام علينا يريد إباحته عند النصارى ثم قال : ولقد سُئِلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها ؛ هل تؤكل معه أو تؤخذ طعاماً منه ، فقلت : تؤكل لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه ، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا ولكن الله تعالى أباح طعامهم مطلقاً وكلّ ما يرونه في دينهم فإنّه حلال لنا في ديننا » . وأشكل على كثير من الناظرين وجه الجمع بين كلامي ابن العربي ، وإنّما أراد التفرقة بين ما هو من أنواع قطع الحلقوم ، والأوداج ولو بالخنق ، وبين نحو الخنق لحبس النفَس ، ورَضّ الرأس وقول ابن العربي شذوذ .

وقوله : { وطعامكم حلّ لهم } لم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة بذكر { وطعامكم حلّ لهم } . والذي أراه أنّ الله تعالى نبّهنا بهذا إلى التيسير في مخالطتهم ، فأباح لنا طعامهم ، وأباح لنا أن نُطعمهم طعَامنا ، فعُلم من هذين الحكمين أنّ علّة الرخصة في تناولنا طعامهم هو الحاجة إلى مخالطتهم ، وذلك أيضاً تمهيد لقوله بعد : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } لأنّ ذلك يقتضي شدّة المخالطة معهم لتزوّج نسائهم والمصَاهرة معهم .

{ والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } .

عُطف { والمحصنات من المؤمنات } على { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } عطفَ المفرد على المفرد . ولم يعرّج المفسّرون على بيان المناسبة لذكر حِلّ المحصنات من المؤمناتتِ في أثناء إباحة طعام أهل الكتاب ، وإباحةِ تزوّج نسائهم . وعندي : أنّه إيماء إلى أنَّهنّ أولى بالمؤمنين من محصنات أهل الكتاب ، والمقصودُ هو حكم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب فإنّ هذه الآية جاءت لإباجة التزوّج بالكتابيات . فقوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } عطف على { وطعام الذين أوتُوا الكتاب حلّ لكم } . فالتقدير : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم .

والمُحصنات : النسوة الّلاءِ أحْصَنَهُنّ ما أحْصَنَهُنّ ، أي منعهنّ عن الخنا أو عن الريب ، فأطلق الإحصان : على المعصومات بعصمة الأزواج كما في قوله تعالى في سورة النساء ( 24 ) عطفاً على المحرّمات { المحصنات من النساء } ؛ وعلى المسلمات لأنّ الإسلام وَزَعَهن عن الخنا ، قال الشاعر :

ويصدّهن عن الخنا الإسلام

وأطلق على الحرائر ، لأنّ الحرائر يترفّعن عن الخنا من عهد الجاهلية . ولا يصلح من هذه المعاني هنا الأوّل ، إذ لا يحلّ تزوّج ذات الزوج ، ولا الثاني لقوله : { من المؤمنات } الذي هو ظاهر في أنّهنّ بعض المؤمنات فتعيّن معنى الحرية ، ففسّرها مالك بالحرائر ، ولذلك منع نكاح الحرّ الأمةَ إلاّ إذا خشي العنت ولم يجد للحرائر طَوْلا ، وجوّز ذلك للعبد ، وكأنّه جعل الخطاب هنا للأحرار بالقرينة وبقرينة آية النساء ( 25 ) { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات } وهو تفسير بيِّن ملتئم . وأصل ذلك لعمر بن الخطاب ومجاهد . ومن العلماء من فسّر المحصنات هنا بالعفائف ، ونقل عن الشعبي وغيره ، فمنعوا تزوّج غير العفيفة من النساء لرقّة دينها وسوء خلقها .

وكذلك القول في تفسير قوله : { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي الحرائر عند مالك ، ولذلك منع نكاح إماء أهل الكتاب مطلقاً للحرّ والعبد . والذين فسّروا المحصنات بالعفائف منعوا هنا ما منعوا هناك .

وشمل أهلُ الكتاب : الذمّييّن ، والمعاهدين ، وأهل الحرب ، وهو ظاهر ، إلاّ أنّ مالكاً كره نكاح النساء الحربيّات ، وعن ابن عبّاس : تخصيص الآية بغير نساء أهل الحرب ، فمنع نكاح الحربيات . ولم يذكروا دليله .

والأجور : المهور ، وسمَّيت هنا ( أجوراً ) مجازاً في معنى الأعْواض عن المنافع الحاصلة من آثار عُقدة النكاح ، على وجه الاستعارة أوْ المجاز المرسل . والمَهْر شِعار متقادم في البشر للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة . ولو كانت المهور أجوراً حقيقة لوجب تحْديد مدّة الانتفاع ومقدارِه وذلك مِمَّا تنزّه عنه عقدة النكاح .

والقول في قوله : { محصنات غير مسافحين ولا متخذي أخدان } كالقول في نظيره { محصنات غير مسافحات } [ النساء : 25 ] تقدّم في هذه السورة .

وجملة { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } معترضة بين الجمل . والمقصود التنبيه على أنّ إباحة تزوّج نساء أهل الكتاب لا يقتضي تزكية لحالهم ، ولكن ذلك تيسير على المسلمين . وقد ذُكر في سبب نزولها أنّ نساء أهل الكتاب قلن « لولا أنّ الله رضي ديننا لم يبح لكم نكاحنا » . والمرادُ بالإيمان الإيمانُ المعهود وهو إيمان المسلمين الذي بسببه لُقّبوا بالمؤمنين ، فالكفر هنا الكفر بالرسل ، أي : ينكر الإيمان ، أي ينكر ما يقتضيه الإيمان من المعتقدات ، إذ الإيمان صار لَقباً لمجموع ما يجب التصديق به .

والحبْط بسكون الموحّدة والحُبوط : فساد شيء كان صالحاً ، ومنه سمّي الحَبَط بفتحتين مرض يصيب الإبل من جرّاء أكل الخَضِر في أوّل الربيع فتنتفخ أمعاؤها وربما ماتت . وفعل ( حَبِط ) يؤذن بأنّ الحابط كان صالحاً فانقلب إلى فساد . والمراد من الفساد هنا الضياع والبطلان ، وهو أشدّ الفساد ، فدلّ فعل ( حبِط ) على أنّ الأعمال صالحة ، وحُذف الوصف لدلالة الفعل عليه . وهذا تشبيه لضياع الأعمال الصالحة بفَساد الذواتِ النافعة ، ووجه الشبه عدم انتفاع مكتسبها منها . والمراد ضياع ثوابها وما يترقّبه العامل من الجزاء عليها والفوْز بها .

والمراد التحذير من الارتداد عن الإيمان ، والترغيبُ في الدخول فيه كذلك ، ليعلم أهل الكتاب أنّهم لا تنفعهم قرباتهم وأعمالهم ، ويعلم المشركون ذلك .