المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

8- ولئن اقْتضت حكمتنا تأخير عذاب كفرهم في الدنيا إلى وقت مُحدد عندنا هو يوم القيامة ، ليقولون مستهزئين : ما الذي يمنعه عنا الآن ؟ فليأت به إن كان صادقاً في وعيده . ألا فليعلم هؤلاء أن العذاب آتٍ حتماً ، وأنه لا خلاص لهم منه حين يأتيهم ، وأنه سيحيط بهم بسبب استهزائهم واستهتارهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك لونا من ألوان غرور المشركين ، كما بين أحوال بعض الناس فى حالتى السراء والضراء فقال - تعالى - :

{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب . . . }

قال القرطبي ما ملخصه : الأمة : اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه : فالأمة تكون الجماعة ، كقوله - تعالى - : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس . . } والأمة : أيضا أتباع الأنبياء عليهم السلام ، والأمة : الرجل الجامع للخير الذى يقتدى به ، كقوله - تعالى - { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } والأمة : الدين والملة ، كقوله - تعالى - : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } والأمة : الحين والزمان كقوله - تعالى - : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } والأمة : القامة وهو طول الإِنسان وارتفاعه ، يقال من ذلك : فلان حسن الأمة ، أى القامة ، والأمة : الرجل المنفرد بدينه وحده ، لا يشركه فيه أحد . قال - صلى الله عليه وسلم - " يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده " والأمة : الأم . يقال : " هذه أمة زيد ، أى أم زيد . . . " والمراد بالأمة هنا : الحين والزمان والمدة .

والمعنى : ولئن أخرنا - بفضلنا وكرمنا - عن هؤلاء المشركين " العذاب " المقتضى لجحودهم لآياتنا ، وتكذيبهم لرسلنا " إلى أمة معدودة " أى : إلى وقت ومعين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا : " ليقولن " على سبيل التهكم والاستهزاء ، واستعجال العذاب ، " ما يحبسه " أى : ما الذى جعل هذا العذاب الذى حذرنا منه محمد - صلى لله عليه وسلم - محبوسا عنا ، وغير نازل بنا . .

ولا شك أن قولهم هذا ، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان ، حيث قابلوا رحمة الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذا رد الله - تعالى - المتمثلة هنا فى تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذارد الله - تعالى - عليهم بقوله : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } أى : ألا إن ذلك العذاب الذى استعجلوه واستخفوا به ، يوم ينزل بهم ، لن يصرفه عنهم صارف ، ولن يدفعه عنهم دافع ، بل سيحيط بهم من كل جانب ، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه .

واللام فى قوله { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب } موظئة للقسم ، وجواب القسم قوله " ليقولن ما يحبسه " .

والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا : عذاب الاستئصال الدنيوى ، إذ هو الذى استعجلوا نزوله ، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا ، كما حكى عنهم - سبحانه - فى الآية السابقة فى قوله : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } قال الآلوسى : والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبى حاتم عن قتادة قال : لما نزل { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا ، فتناهى القوم قليلا ، ثم عادوا إل أعمالهم السوء : فأنزل الله - تعالى -

{ أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر الله - تعالى - قد أتى ، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء ، فأنزل الله هذه الآية .

وفى قوله - سبحانه - { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة ، لأن ما يحصره العد : جرت العادة فى أساليب العرب أن يكون قليلا ، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم فى غزوة بدر القتل الذى أهلك صناديهم ، والأسر الذى أذل كبرياءهم .

وافتتحت جملة { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } بأداة الاستفتاح { ألا } للاهتمام بمضون الخبر ، وللإِشارة إلى تحقيقه ، وإدخال الروع فى قلوبهم .

وعبر بالماضى { حاق } مع أنه لم ينزل بهم بعد ، للإِشارة ، إلى أنه آت لا ريب فيه ، عندما يأذن الله - تعالى - بذلك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

وقوله تعالى : { ولئن أخرنا عنهم العذاب } الآية ، المعنى : ولئن تأخر العذاب الذي توعدتم به عن الله قالوا ما هذا الحابس لهذا العذاب ؟ على جهة التكذيب . و «الأمة » في هذه الآية : المدة كما قال { وادكر بعد أمة }{[6270]} [ يوسف : 45 ] . قال الطبري سميت بذلك المدة لأنها تمضي فيها أمة من الناس وتحدث فيها أخرى ، فهي على هذه المدة الطويلة .

ثم استفتح بالإخبار عن أن هذا العذاب يوم يأتي لا يرده ولا يصرفه . و { حاق } معناه : حل وأحاط وهي مستعملة في المكروه و { يوم } منتصب بقوله : { مصروفاً }{[6271]} .


[6270]:- من الآية 545- من سورة (يوسف).
[6271]:-فهو معمول لخبر [ليس]، وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين، وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه لا يجوز، ولا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل، وأيضا فإن الظرف والمجرور يتوسع فيهما ما لا يتوسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

{ ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما سحبسه }

مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فنّ من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية ، فإذا خبّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأنّ شركهم سببٌ لتعذيبهم جعلوا كلامه سحراً ، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه ، فإذا تأخّر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربّانيّة استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تَهكم ظناً أن تأخره عجز .

واللام موطئة للقسم . وجملة { ليقولن مَا يَحبسه } جواب القسم مغنية من جواب الشرط .

والأمّة : حقيقتها الجماعة الكثيرة من النّاس الذين أمْرُهُمْ واحد ، وتطلق على المُدة كأنهم رَاعَوا أنّها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة ، أي بعد مدة .

و { معدودة } معناه مقدرة ، أي مؤجلة . وفيه إيماء إلى أنّها ليست مديدة لأنّه شاع في كلام العرب إطلاق العَدّ والحساب ونحوهما على التّقليل ، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد ، ولذلك يقولون في عكسه : بغير حساب ، مثل { والله يرزق من يشاء بغير حساب } [ البقرة : 212 ] .

والحبس : إلزام الشيء مكاناً لا يتجاوزه . ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا ، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم .

{ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } .

هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب ، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة . وهذا تهديد وتخويف بأنّه لا يصرف عنهم ولكنه مؤخر .

وافتُتح الكلام بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم .

وتقديم الظرف للإيماء بأنّ إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقّت بوقت .

والصرف : الدفع والإقصاء .

والحَوْق : الإحاطة .

والمعنى : أنه حالّ بهم حلولاً لا مخلص منه بحال .

وجملة { وحَاقَ بهم } في موضع الحال أو معطوفة على خبر { ليس } .

وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق ، وهذا عذاب القتل يوم بدر .

وماصدق { ما كانوا به يستهزئون } هو العذاب ، وباء { به } سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سبباً لاستهزائهم حين توعدهم به النّبيء صلى الله عليه وسلم .

والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضب الله عليهم . وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصاً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَئِنۡ أَخَّرۡنَا عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابَ إِلَىٰٓ أُمَّةٖ مَّعۡدُودَةٖ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحۡبِسُهُۥٓۗ أَلَا يَوۡمَ يَأۡتِيهِمۡ لَيۡسَ مَصۡرُوفًا عَنۡهُمۡ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِۦ يَسۡتَهۡزِءُونَ} (8)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} يعني كفار مكة، {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}، يعني إلى سِنينَ معلومةٍ... يعني بعد سنين، يعني القتل ببَدْرٍ، {لَيَقُولُنَّ} يا محمّد {مَا يَحْبِسُهُ} عنّا، يَعنُون العذابَ تكذيباً، يقول الله: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} العذابُ {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} يقول: ليس أحدٌ يَصْرِفُ العذابَ عنهم، {وَحَاقَ} يعني ودارَ {بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ} يعني بالعذاب {يَسْتَهْزِءُونَ} بأنه ليس بنازلٍ بهم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"ولئن أخرنا" عن هؤلاء المشركين من قومك يا محمد "العذاب "فلم نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم إلى "أمة معدودة" ووقت محدود وسنين معلومة. وأصل الأمة ما قد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت، وإنما قيل للسنين المعدودة والحين في هذا الموضع ونحوه أمة، لأن فيها تكون الأمة. وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها...

وقوله: "لَيَقُولُنّ ما يَحْبِسُهُ" يقول: ليقولنّ هؤلاء المشركون ما يحبسه؟ أيّ شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعدنا به؟ تكذيبا منهم به، وظنّا منهم أن ذلك إنما أخر عنهم لكذب المتوعد...

وقوله: "ألا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفا عَنْهُمْ" يقول تعالى ذكره تحقيقا لوعيده وتصحيحا لخبره: ألا يوم يأتيهم العذاب الذي يكذّبون به "ليس مصروفا عنهم"، يقول: ليس يصرفه عنهم صارف، ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحلّ بهم فيهلكهم. "وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ" يقول: ونزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله، وكان استهزاؤهم به الذي ذكره الله قيلهم قبل نزوله: ما يحبسه؟ و "هلا يأتينا"؟

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) قيل:... هو البعث كرامةً، والله أعلم، لأنه وقتٌ به تنقضي آجالُ الأممِ جميعا...

وقوله تعالى: (وحاقَ بِهِمْ) قيل:... يَحِقُّ عليهم (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) جزاءَ استهزائهم بالرسول والكِتاب...

(أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) أي لا يُصْرَفُ عنهم بشفاعةِ من طَمِعُوا بشفاعته... لأنهم كانوا يعبُدون الأصنام رجاءَ أن تَشْفَعَ لهم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

يقول: إنْ أَمْهَلْنَا، وأخَّرْنا عليهم العذابَ لا يَرْعَوُون، بل يستعجلون العقوبة. ولئن عَجَّلْنا لهم العقوبةَ لا يتوبون ولا يستغفرون... استولى عليهم الجهلُ في الحاليْن، وعَمِيَتْ بصائرُهم عن شهودِ التقدير والإيمان بالغيب في النوعين. ويوم يأتيهم العذابُ فلا مناصً ولا منجاةَ ولا مراحَ لهم منه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{العذاب}: عذاب الآخرة. وقيل عذاب يوم بدر...

{إلى أُمَّةٍ}: إلى جماعة من الأوقات.

{مَا يَحْبِسُهُ}: ما يمنعه من النزول استعجالاً له على وجه التكذيب والاستهزاء... {وَحَاقَ بِهِم}: وأحاط بهم {مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون} العذاب الذي كانوا به يستعجلون. وإنما وضع يستهزئون موضع يستعجلون؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة الاستهزاء.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

... قال الحسن: معنى حُكم الله في هذه الآية أنه لا يُعَذِّب أحداً منهم بعذاب الاستئصال، وأَخَّر ذلك إلى يوم القيامة...

ما المراد بقوله: {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}؟ الجواب من وجهين:

...

.

الثاني: أن اشتقاق الأُمّة من الأَمِّ، وهو القَصْدُ، كأنه يعني الوقتَ المقصودَ بإيقاع هذا الموعودِ فيه...

لِمَ قال: {وَحَاقَ} على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يَقَعْ؟

والجواب: قد مَرَّ في هذا الكِتاب آياتٌ كثيرةٌ من هذا الجنس، والضّابطُ فيها أنه تعالى أَخبَر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغةً في التأكيد والتقرير...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم بالأخذ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلاً منه وكرماً، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال: {ولئن أخرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء {عنهم} أي الكفار {العذاب} أي المتوعد به {إلى أمة} أي مدة من الزمان ليس فيها كدر {معدودة} أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس {ليقولن} على سبيل التكرار {ما يحبسه}...ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع، أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلاماً بأنهم عكسوا في السؤال، وتحقيقاً لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة، فقال مؤكداً لشديد إنكارهم: {ألا يوم} وهو منصوب بخبر "ليس "الدال على جواز تقدم الخبر {يأتيهم ليس} أي العذاب {مصروفاً عنهم} أي بوجه من الوجوه؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقاً ومبالغة في التهديد فقال: {وحاق بهم} أي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة {ما كانوا} أي بجبلاتهم وسيء طبائعهم، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال: {به} ولما كان استعجالهم استهزاء، وضع موضع يستعجلون قوله: {يستهزءون} أي يوجدون الهزء به إيجاداً عظيماً حتى كأنهم يطلبون ذلك.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} الآية شرطية مؤكدة بالقسم والمراد بالعذاب ما تقدم من قوله: {وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} [هود: 3] على ما اخترناه فيه، والأمة هنا الطائفة أو المدة من الزمن ومثله في سورة يوسف {وادكر بعد أمة} [يوسف: 45] وأصلها الجماعة من جنس أو نوع واحد أو دين واحد أو زمن واحد، وتطلق على الدين والملة الخاصة والزمن الخاص. أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا ومحدودة في نظام تقديرنا، وسنتنا في خلقنا، المبين في قولنا {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38] أو إلى أمة قليلة من الزمن قعد بالسنوات، أو ما دونها من الشهور أو الأيام، {ليقولن ما يحبسه} يعنون أي شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع إن كان حقا كما يقول هذا النذير؟ وإنما يقولون هذا ويستعجلون بالعذاب إنكارا له واستهزاء به.

{ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} أي ألا إن له يوما يأتيهم فيه إذ تنتهي الأمة المعدودة المضروبة دونه، ويومئذ لا يصرفه عنهم صارف ولا يحبسه حابس {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب ما كانوا يستهزئون به من العذاب قبل وقوعه، فلا هو يصرف عنهم ولا هم ينجون منه، عبر بحاق الماضي للإيذان بتحقيق وقوعه حتى كأنه وقع بالفعل، وعبر عن الفاعل بما الموصولة بفعل الاستهزاء المستمر للإيذان بعليته وسببه، وهذا الموضوع قد تقدم في سورة يونس مفصلا في الآيات 39 و 45 و 55 وبينا في تفسيرها حكمة إبهام هذا العذاب بما يحتمل عذاب الدنيا وعذاب الآخرة مع الشواهد من السور.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

شأْنُهم في التكذيب بالبعث، وجهلِهم بارتباطه بناموس الكون، هو شأنُهم في مسألة العذاب الدنيوي، فهم يستعجلونه ويتساءلون عن سبب تأخيره، إذا ما اقتضت الحكمةُ الأزليّةُ أن يتأخَّر عنهم فترةً من الوقت... [و] لقد كانت القرون الأولى تَهْلِكُ بعذابٍ من عند الله يستأصِلها، بعد أن يأتيَهم رسولهم بالخَوارق التي يطلبونها ثم يَمضون هم في التكذيب. ذلك أنها كانت رسالاتٍ مؤقَّتةً لأُمّةٍ من الناس، ولِجِيلٍ واحدٍ من هذه الأُمّة. والمعجزةُ كذلك لا يَشهَدها إلا هذا الجيلُ، ولا تَبقى لِتُشاهدها أجيالٌ أخرى لعلها تؤمن بها أكثرَ ممّا آمَن الجيلُ الذي شهِدها أولَ مَرّةٍ. فأمّا الرسالة المحمَّدية فقد كانت خاتمةَ الرسالات، ولجميع الأقوام وجميعِ الأجيال، وكانت المعجزة التي صاحَبَتْها معجزةً غيرَ مادّيّةٍ، فهي قابلةٌ للبقاء، قابلةٌ لأن تتدبَّرها أجيالٌ وأجيالٌ، وتؤمِن بها أجيالٌ وأجيالٌ، ومِن ثَمَّ اقتضت الحِكمةُ ألّا تؤخَذ هذه الأُمَّةُ بعذاب الاستئصال. وأن يقع العذابُ على أفرادٍ منها في وقتٍ معلومٍ.. وكذلك كان الحالُ في الأُمم الكتابيّةِ قبلها من اليهود والنصارى، فلم يَعُمَّ فيهم عذابُ الاستئصال. ولكن المشركين في جهلهم بنواميس الله الخاصةِ بخَلْق الإنسان على هذا النَّحْو من القدرة على الاختيار والاتجاهِ؛ وخَلْقِ السماوات والأرض على نحوٍ يَسْمَحُ له بالعمل والنشاطِ والبلاءِ يُنكِرون البعث. وفي جَهْلهم بسُنن الله في الرسالات والمعجزات والعذابِ يتساءلون إذا ما أُخِّرَ عنهم إلى أُمَّةٍ من السنوات أو الأيام... ما يَحْبِسه؟ وما يؤخِّرُه؟ فلا يُدركون حكمة الله ولا رحمتَه...

إن عذاب الله لا تستعجِله نفْسٌ مؤمنةٌ ولا نفسٌ جادّةٌ. وإذا ما أبطأ فهي حكمةٌ ورحمةٌ. لِيؤمن من يتهيَّأ للإيمان. وفي فترة التأجيل التي صَرَفَ اللهُ العذابَ فيها عن مشركي قريشٍ، كم آمَن منهم من رجالٍ حَسُنَ إسلامُهم وأَبْلَوْا أحسنَ البلاء. وكم وُلِدَ لِكُفّارهم من ذُرِّيّةٍ نشأت فيما بعدُ في الإسلام...

.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{مَعْدُودَةٍ} معناه مُقَدَّرةٍ، أي مؤجَّلةٍ. وفيه إيماءٌ إلى أنّها ليست مديدةً لأنّه شاع في كلام العرب إطلاقُ العَدّ والحِسابِ ونحوِهما على التّقليل، لأن الشيء القليل يمكن ضبطُه بالعَدد، ولذلك يقولون في عكْسه: بغير حِساب، مثل {وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة: 212]...

{أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}...

وافتُتِح الكلامُ بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخالِ الرَّوْعِ في ضمائرهم. وتقديمُ الظّرْف للإيماء بأنّ إتيانَ العذابِ لا شكَّ فيه حتى إنه يُوَقَّتُ بوقتٍ...

والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضبِ الله عليهم...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} أَلَا للتنبيه الزاجرِ الموقِظِ لغَفْلتهم التي كانت من فَرْطِ الِاغترارِ بقوَّتهم الظاهرةِ...

{لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} أي ساعةَ أن يَجيئهم لا يَصْرِفُه عنهم رجاءٌ...، وإنهم إذ يَنْدَمُون فقد فاتَ وقتُ النَّدم، كذلك كان الأمرُ في ماضي الأممِ مع الكافرين، وإنّ ما قَدَّرَه اللهُ لكم مَعْشَرَ كفارِ قريشٍ إذا جاء العذابُ على أيدي المجاهدين بأمرٍ من الله تعالى لن يُرْفَعَ عنكم حتى تستسلموا خاضعين، وحتى يتمكَّن الإيمانُ من الكفر والكافرين...

{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}... وخلاصةُ المعنى... أنه أحاط بهم ونزل الأمرُ الذي كانوا به يستهزئون، وهو حَقٌ عليهم استَحَقُّوه بأعمالهم واستهزائهم فكان جزاءً وِفاقاً لِمَا فَعَلوا مِن قَبْلُ، وقوله تعالى: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يفيد أن استهزاءهم كان دائماً ومستمِرّاً، ولذا عَبَّر بالماضي الدّالِّ على وقوعه في ماضيهم واستمرارِه في حاضرهم ومستقبلِهم حتى نزل بهم ما تَعَجَّلوه...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}... حين يتوعَّدُهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم بعذابٍ، فللعذاب ميلادٌ، وقد يؤخَّر ليَرى المحيطون بالكافرين الضلالَ والفسادَ، فإذا ما وقع عذابُ الله سبحانه على هؤلاء الكافرين، فلن يَحزَن عليهم أحدٌ. وهكذا أراد الله سبحانه الإمهالَ والإملاءَ ليكون لهما معنىً واضحٌ في الحياة، والإملاءُ للظالم؛ لتزداد مظالِمُه زيادةً تَجعل الأُمّةَ التي يعيش فيها تَكره ظلمَه، فإذا وقع عليه عذابٌ، لا يَعطِف عليه أحدٌ...

{مَعْدُودَةٍ}... والسبب في فهمنا لكلمة "معدودةٍ "أنها تفيد القلة، هو أننا لا نُقْبِل على عَدّ الشيءِ إلا مَظِنَّةَ أَننا قادرون على عَدّه؛ لأنه قليلٌ، لكن ما لا نُقْبِل على عَدّه فهو الكثير...