وبعد أن بين - سبحانه - حال السعداء والأشقياء يوم القيامة ، أتبع ذلك بضرب مثل لهما زيادة فى التوضيح والتقرير فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً . . . } .
والخطاب فى قوله { أَلَمْ تَرَ . . . } للرسول - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح للخطاب ، والاستفهام للتقرير ، والرؤية مستعملة فى العلم الناشئ عن التأمل والتفكر فى ملكوت السموات والأرض .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } هذا التعبير قد يذكر لمن تقدم علمه فيكون للتعجب ، وقد يذكر لمن ليس كذلك ، فيكون لتعريفه وتعجيبه ، وقد اشتهر فى ذلك حتى أجرى مجرى المثل فى ذلك ، بأن شبه من لم ير الشئ بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه ، ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى ، قصدا إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب .
والمثل : يطلق على القول السائر المعروف للماثلة مضربه لمورده .
وقوله { مثلا } انتصب على أنه مفعول به لضرب ، وقوله { كلمة } بدل منه أو عطف بيان .
والمراد بالكلمة الطيبة : كلمة الإِسلام ، وما يترتب عليها من عمل صالح ، وقول طيب .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والمراد بالشجرة الطيبة - المشبه بها - النخلة عند الأكثرين وروى ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد . .
وأخرج عبد الرازاق والترمذى وغيرهما عن شيعب بن الحجاب قال : كنا عند أنس ، فأتينا بطيق عليه رطب ، فقال أنس لأبى العالية : كل يا أبا العالية ، فإن هذا من الشجرة التى ذكرها الله - تعالى - فى كتابه { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ . . . }
وأخرج الترمذى - أيضا - والنسائى وابن حبان والحاكم وصححه عن أنس قال : " أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقناع من بسر - أى بطبق من تمر لم ينضج بعد فقال : " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة . . قال : هى النخلة " " .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند .
وأخرج ابن حرير وابن أبى حاتم أنها شجرة فى الجنة ، وقيل كل شجرة مثمرة كالنخلة ، وكشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك ثم قال :
" وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغى العدول عنه " .
وكأن الإِمام الآلوسى بهذا القول يريد أن يرجح أن المراد بالشجرة الطيبة النخلة ، لتصريح الآثار بذلك .
وقد رجح ابن جرير - أيضا - أن المراد بها النخلة فقال ما ملخصه : " واختلفوا فى المراد بالشجرة الطيبة ، فقال بعضهم : هى النخلة . . وقال آخرون : هى شجرة فى الجنة . .
وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول من قال هى النخلة ، لصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى ذلك . . . "
والمعنى : ألم تر - أيها المخاطب - كيف اختار الله - تعالى - مثلا ، وضعه فى موضعه اللائق به ، والمناسب له ، وهذا المثل لكلمتى الإِيمان والكفر ، حيث شبه - سبحانه الكلمة الطيبة وهى كلمة الإِسلام ، بالشجرة الطيبة ، أى النافعة فى جميع أحوالها ، وهى النخلة .
ثم وصف - سبحانه - هذه الشجرة بصفات حسنة فقال : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } .
أى : ضارب بعروقه فى باطن الأرض فصارت بذلك راسخة الأركان ثابتة البنيان .
{ وَفَرْعُهَا } أى : أعلاها وما امتد منها من أغصان ، مشتق من الاقتراع بمعنى الاعتلاء { فِي السمآء } أى : فى جهة السماء من حيث العلو والارتفاع ، وهذا ما يزيد الشجرة جمالا وحسن منظر .
قوله : { ألم تر } بمعنى ألم تعلم ، و { مثلاً } مفعول بضرب ، و { كلمة } مفعول أول بها ، و { ضرب } هذه تتعدى إلى مفعولين ، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها : جعل ضربها . وقال المهدوي : { مثلاً } مفعول ، و { كلمة } بدل منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد ، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في { ضرب } هذه .
والكاف في قوله : { كشجرة } في موضع الحال ، أي مشبهة شجرة .
قال القاضي أبو محمد : وقال ابن عباس وغيره : «الكلمة الطيبة » هي لا إله إلا الله ، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة » ، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين ، فكأن هذه الكلمة { أصلها ثابت } في قلوب المؤمنين ، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته - هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد ، ويتنزل بها من قبل الله تعالى .
وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها »{[7060]} وقالت فرقة : إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة » المؤمن نفسه ، إذ «الكلمة الطيبة » لا تقع إلا منه ، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها . وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة ، فهو كشجرة فرعها في السماء ، وما يكون أبداً من المؤمن من الطاعة ، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين .
وقوله عن الشجرة { وفرعها في السماء } أي في الهواء نحو السماء ، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء ، وفي الحديث : «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً »{[7061]} ، وفي كتاب سيبويه : والقيدودة : الطويل في غير سماء{[7062]} .
قال القاضي أبو محمد : كأنه انقاد وامتد .
وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد : «الشجرة الطيبة » في هذه الآية هي النخلة ، وروي ذلك في أحاديث {[7063]}وقال ابن عباس أيضاً : هي شجرة في الجنة .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات{[7064]} فيدخل في ذلك النخلة وغيرها . وقد شبه الرسول عليه السلام المؤمن الذي يقرا القرآن بالأترجة{[7065]} ، فلا يتعذر أيضاً أن يشبه بشجرتها .
استئناف ابتدائي اقتضته مناسبة ما حكي عن أحوال أهل الضلالة وأحوال أهل الهداية ابتداء من قوله تعالى : { وبرزوا لله جميعاً إلى قوله تحيتهم فيها سلام } ، فضرب الله مثلاً لكلمة الإيمان وكلمة الشرك . فقوله : { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً } إيقاظ للذهن ليترقب ما يرد بعد هذا الكلام ، وذلك مثل قولهم : ألم تعلم . ولم يكن هذا المثَل مما سبق ضربه قبل نزول الآية بل الآية هي التي جاءت به ، فالكلام تشويق إلى علم هذا المثل . وصوغ التشويق إليه في صيغة الزمن الماضي الدال عليها حرف لَمْ } التي هي لنفي الفعل في الزمن الماضي والدالّ عليها فعل { ضرب } بصيغة الماضي لقصد الزيادة في التشويق لمعرفة هذا المثل وما مثل به .
والاستفهام في { ألم تر } إنكاري ، نُزل المخاطب منزلة من لم يعلم فأنكر عليه عدم العلم ، أو هو مستعمل في التعجيب من عدم العلم بذلك مع أنه مما تتوفر الدواعي على علمه ، أو هو للتقرير ، ومثله في التقرير كثير ، وهو كناية عن التحريض على العلم بذلك .
والخطاب لكل من يصلح للخطاب . والرؤية علمية معلّق فعلها عن العمل بما وليها من الاستفهام ب { كيف } . وإيثار { كيف } هنا للدلالة على أن حالة ضرب هذا المثل ذات كيفية عجيبة من بلاغته وانطباقه .
وتقدم المثَل في قوله : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة ( 17 ) .
وضَرْب المثل : نَظْم تركيبه الدال على تشبيه الحالة . وتقدم عند قوله : { أن يضرب مثلاً ما } في سورة البقرة ( 26 ) .
وإسناد { ضرب } إلى اسم الجلالة لأن الله أوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام .
والمثَل لما كان معنى متضمناً عدة أشياء صح الاقتصار في تعليق فعل { ضرب } به على وجه إجمال يفسره قوله : { كلمة طيبة كشجرة } إلى آخره ، فانتصب { كلمة } على البدلية من { مثلاً } بدلَ مفصّل من مجمل ، لأن المثل يتعلق بها لما تدل عليه الإضافة في نظيره في قوله : { ومثل كلمة خبيثة } .
والكلمة الطيبة قيل : هي كلمة الإسلام ، وهي : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والكلمة الخبيثة : كلمة الشرك .
والطيبة : النافعة . استعير الطيب للنفع لحُسن وقعه في النفوس كوقع الروائح الذكية . وتقدم عند قوله تعالى : { وجرين بهم بريح طيبة } في سورة يونس ( 22 ) .
والفَرع : ما امتد من الشيء وعَلا ، مشتق من الافتراع وهو الاعتلاء . وفرع الشجرة غصنها ، وأصل الشجرة : جذرها .
والسماء مستعمل في الارتفاع ، وذلك مما يزيد الشجرة بهجة وحسن منظر .
وفي « جامع الترمذي » عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثل كلمة طيّبة كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " قال : هي النخلة ، { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار } قال : هي الحَنْظَل .