208- يا أيها الذين آمنوا كونوا جميعاً مسالمين فيما بينكم ، ولا تثيروا العصبيات الجاهلية وغيرها من أسباب النزاع والخلاف ، ولا تسيروا في طريق الشيطان الذي يدفعكم إلى الشقاق فإنه لكم عدو مبين{[16]} .
وبعد أن عرض القرآن هذين النوعين اللذين نجدهما في كل زمان ومكان ، وجه نداء إلى المؤمنين دعاهم فيه إلى الاستجابة التامة لخالقهم فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا . . . }
{ السلم } - بكسر السين وفتحها مع إسكان اللام - بمعنى واحد ، ويطلقان على الإِسلام وعلى المسالمة - وبعضهم فرق بين اللفظين فجعل { السلم } بكسر السين - للإِسلام ، و { السلم } - بفتحها - للمسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة .
قال الفخر الرازي : وأصل هذه الكلمة من الانقياد . قال - تعالى - : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } والإِسلام إنما سمى إسلامها لهذا المعنى . وغلب اسم السلم على الصلح وترك الحرب ، وهذا أيضاً راجع إلى هذا المعنى . لأن عند الصلح ينقاد كل واحد إلى صاحبه " .
و { كَآفَّةً } أي جميعاً ، وهي في الأصل صفة من كف بمعنى منع ، واستعملت بمعنى الجملة والجميع بعلاقة أنها مانعة من التفرق وهي حال من قوله : { السلم } أي : يأيها المؤمنون ادخلوا في الإِسلام والتزاموا بكل تعاليمه ، ونفذوا جميع أحكامه وآدابه ، واعملوا بكل أوامره ونواهيه ، ولا تكونوا ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض . فالمقصود التزام جميع شرائع الإِسلام وأحكامه وآدابه .
وبعضهم يرى أن قوله : { كَآفَّةً } حال من فاعل ادخلوا وهو ضمير الجماعة والمعنى عليه : ادخلوا في الإِسلام جميعاً ، وانقادوا لأحكامه مجتمعين غير متفرقين ، لأنه الدين الذي ألف الله به بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .
وسواء أكان لفظ { كَآفَّةً } حالا من { السلم } أو من فاعل { ادخلوا } فالمقصود من الآية دعوة المؤمنون إلى التمسك بجميع شعب الإِسلام وشرائعه مع التزامهم برباط الإِخاء الذي ربط الله به بين قلوبهم بسبب اتباعهم لهذا الدين الحنيف .
وإذا كان المراد بكلمة { السلم } المسالمة والمصالحة كان المعنى : يأيها الذين آمنوا إن إيمانكم يوجب عليكم فيما بينكم أن تكونوا متصالحين غير متعادين ، متحابين غير متباغضين ، متجمعين غير متفرقين ، كما أنه يوجب عليكم بالنسبة لغيركم ممن هو ليس على دينكم أن تسالموه متى سالمكم ، وأن تحابوه متى اعتدى عليكم ، فإن دينكم ما جاء للحرب والخصام وإنما جاء للهداية وللسلام العزيز القوي الذي يرد الاعتداء بمثله .
هذا هو المعنى الذي نراه ظاهراً في الآية ، وهو ما سار عليه المحققون من المفسرين .
وبعضهم ذكر أن الخطاب في الآية لمؤمني أهل الكتاب ، لما روى عن ابن عباس أنه قال : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام - فعظموا السبت وكرهوا لحم الإِبل وألبانها بعد أن أسلموا ، فأنكر عليهم المسلمون فقالوا ، إنا نقوى على هذا وهذا ؛ وقالوا النبي صلى الله عليه وسلم إن التوراة كتاب الله فدعنا فلنعمل بها فأنزل الله هذه الآية . فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب .
وبعضهم ذكر أن المراد بالآية المنافقون والتقدير : يأيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإِسلام ولا تتبعوا خطوات الشيطان .
وهذان القولان ضعفهما ظاهر ، إذ لا سند لهما يعتمد عليه ، ولا يؤيدها سياق الآية الكريمة ، لأن الآية الكريمة صريحة في دعوة المؤمنين إلى التمسك بجميع تعاليم الإِسلام ، وإلى الإِخاء الجامع ونبذ التفرق والاختلاف والاعتداء .
وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تحذير لهم مما يصدهم عن الدخول في السلم .
أي : ادخلوا في السلم واحذورا أن تتبعوا مدارج الشيطان وطرقه إنه لكم عدو ظاهر العداوة بحيث لا تخفى عداوته على عاقل .
والخطوات . جمع خطوة - بفت الخاء وضمها - وهي ما بين قدمي من يخطو .
وفي قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } إشعار بأن الشيطان كثيراً ما يجر الإِنسان إلى الشر خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردد ، وبذلك يكون ممن استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله . والعاقل من الناس هو الذي يبتعد عن كل ما هو من نزغات الشيطان ووساوسه ، فإن صغير الذنوب قد يوصل إلى كبيرها ، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه .
وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } جملة تعليلية ، مؤكدة للنهي ومبينة لحكمته .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ( 208 )
ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم ، وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي " السلم " بفتح السين ، وقرأ الباقون بكسرها في هذا الموضع( {[1947]} ) ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يقعان للإسلام وللمسالمة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : السِّلم بكسر السين الإسلام ، وبالفتح المسالمة ، وأنكر المبرد هذه التفرقة ، ورجح الطبري حمل اللفظة على معنى الإسلام ، لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالانتداب إلى الدخول في المسالمة ، وإنما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسلم إذا جنحوا لها ، وأما أن يبتدىء بها فلا .
واختلف بعد حمل اللفظ على الإسلام من المخاطب ؟ فقالت فرقة : جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده ، ويستغرق { كافة } حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع( {[1948]} ) ، فتكون الحال من شيئين( {[1949]} ) ، وذلك جائز ، نحو قوله تعالى : { فأتت به قومها تحمله }( {[1950]} ) [ مريم : 27 ] ، إلى غير ذلك من الأمثلة .
وقال عكرمة : «بل المخاطب من آمن بالنبي من بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره » .
وذلك أنهم ذهبوا إلى تعظيم يوم السبت وكرهوا لحم الجمل وأرادوا استعمال شيء من أحكام التوارة وخلط ذلك بالإسلام فنزلت هذه الآية فيهم ، ف { كافة } على هذا لإجزاء الشرع فقط .
وقال ابن عباس : «نزلت الآية في أهل الكتاب » ، والمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد كافة ، ف { كافة } على هذا لإجزاء الشرع وللمخاطبين على من يرى السلم الإسلام ، ومن يراها المسالمة يقول : أمرهم بالدخول في أن يعطوا الجزية ، و { كافة } معناه جميعاً ، والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها( {[1951]} ) ، وقيل : إن { كافة } نعت لمصدر محذوف ، كأن الكلام : دخله كافة ، فلما حذفت المنعوت بقي النعت حالاً ، وتقدم القول في { خطوات } ، والألف واللام في { الشيطان } للجنس ، و { عدو } يقع على الواحد والاثنين والجميع ، و { مبين } يحتمل أن يكون بمعنى أبان عداوته( {[1952]} ) وأن يكون بمعنى بان في نفسه أنه عدو ، لأن العرب تقول : بان الأمر وأبان بمعنى واحد .