ثم حكى القرآن بعض الدعاوى الباطلة التي كان يدعيها اليهود في العصر النبوي ورد عليها بما يدحضها فقال : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي : قال اليهود الذين كانوا في العهد النبوي : قلوبنا يا محمد مغطاة بأغطية حسية مانعة من نفوذ ما جئت به فيها . ومقصدهم من ذلك ، إقناطه صلى الله عليه وسلم من إجابتهم لدعوته حتى لا يعيد عليهم الدعوة من بعد .
والغلف : جمع أغلف ، وهو الذي جعل له غلاف ، ومنه قيل للقلب الذي لا يعى ولا يفهم ، قلب أغلف ، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف .
قال ابن كثير : وقرأ ابن عباس - بضم اللام - وهو جمع غلاف . أي : قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك .
وقد رد الله - تعالى - على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال :
{ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي : أن قلوبهم ليست غلفاً بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق ، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى .
والفاء في قوله : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها و { مَّا } في قوله { فَقَلِيلاً مَّا } لتأكيد معنى الفلة .
والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سبباً لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلا ، وقلة الإِيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإِيمان به . وقد وصفهم الله - تعالى - فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض .
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود ، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد ، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد ، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم .
{ وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ } ( 88 )
وقرأ جمهور القراء «غلْف » بإسكان اللام على أنه جمع أغلف مثل «حمْر » و «صفْر » ، والمعنى قلوبنا عليها غَلَف وغشاوات( {[921]} ) فهي لا تفقه( {[922]} ) ، قاله ابن عباس ، وقال قتادة : «المعنى عليها طابع » ، وقالت طائفة : غلْف بسكون اللام جمع غلاف ، أصله غلّف( {[923]} ) بتثقيل اللام فخفف .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا( {[924]} ) قلما يستعمل إلا في الشعر . وقرأ الأعمش والأعرج وابن محيصن «غلّف » بتثقيل اللام( {[925]} ) جمع غلاف ، ورويت عن أبي عمرو ، فالمعنى هي أوعية للعلم والمعارف بزعمهم ، فهي لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { بل لعنهم الله بكفرهم } ، و { بل } في هذه الآية نقض للأول ، وإضراب عنه ، ثم بين تعالى أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترامهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب فالذنب أعظم منه( {[926]} ) ، واللعن الإبعاد والطرد ، و { قليلاً } نعت لمصدر محذوف تقديره فإيماناً قليلاً ما يؤمنون ، والضمير في { يؤمنون } لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم ، ويتجه قلة هذا الإيمان : إما لأن من آمن بمحمد منهم قليل فيقل لقلة الرجال ، قال هذا المعنى قتادة ، وإما لأن وقت إيمانهم عندما كانوا يستفتحون به قبل مبعثه قليل ، إذ قد كفروا بعد ذلك ، وإما لأنهم لم يبق لهم بعد كفرهم غير التوحيد على غير وجهه ، إذ هم مجسمون فقد قللوه بجحدهم الرسل وتكذيبهم التوراة ، فإنما يقل من حيث لا ينفعهم كذلك ، وعلى هذا التأويل يجيء التقدير فإيماناً قليلاً( {[927]} ) ، وعلى الذي قبله فوقتاً قليلاً ، وعلى الذي قبله فعدداً من الرجال قليلاً ، و { ما } في قوله : { فقليلاً ما يؤمنون } زائدة مؤكدة ، و { قليلاً } نصب ب { يؤمنون } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.