ثم ساق - سبحانه - على لسان عبد صالح من عباده ، جملة من الوصايا الحكيمة ، لتكون عظة وعبر للناس ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ . . . الأصوات لَصَوْتُ الحمير } .
قال ابن كثير - رحمه الله - : اختلف السلف فى لقمان ، هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة ؟ والأكثرون على أنه لم يكن نبيا .
وعن ابن عباس وغيره : كان لقمان عبدا حبشا نجارا . . .
قال له مولاه : اذبح لنا شاة وجئنى بأخبث ما فيها ؟ فذبحها وجهاءه بلسانها وقلبها . ثم قال له مرة ثانية : اذبح لنا شاة وجئنى بأحسن ما فيها ؟ فذبحها وجاءه - أيضاً بقلبها ولسانها ، فقال له مولاه ما هذا ؟ فقال لقمان : إنه ليس من شئ أطيب منهما إذا طابا ، وليس من شئ أخبث منها إذا خبثا .
وقال له رجل : ألست عبد فلان ؟ فما الذى بلغ بك ما أرى من الحكمة ؟ فقال لقمان : قدر الله وأداء الأمانة ، وصدق الحديث ، وتركى مالا يعنينى .
ومن أقواله لابنه : يا بنى اتخذ تقوى الله لك تجارة ، يأتك الربح من غير بضاعة . يا بنى ، لا تكن اعجز من هذا الديك الذى يصوت بالأسحار ، وأنت نائم على فراشك ، با بنى ، اعتزل الشر كما يعتزلك ، فإن الشر للشر خلق .
يا بنى ، عليك بمجالس العلماء ، وبسماع كلام الحكماء ، فإن الله - تعالى - يحيى القلب الميت بنور الحكمة .
يا بنى ، إنك منذ نزلت الدنيا استدبرتها ، واستقبلت الآخرة ، ودار أنت إليها تسير ، أقرب من دار أنت عنها ترتحل .
وقال الآلوسى ما ملخصه : ولقمان : اسم أعجمى لا عربى وهو ابن باعوراء . قيل : كان فى زمان داود - عليه السلام - وقيل : كان زمانه بين عيسى وبين محمد - عليهما الصلاة والسلام - .
ثم قال الآلوسى : وإنى اختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ، ولم يكن نبيا .
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } كلام مستانف مسوق لإِبطال الإِشراك بالله - تعالى - عن طرق النقل ، بعد بيان إبطال عن طريق العقل ، فى قوله - سبحانه - قبل ذلك : { هذا خَلْقُ الله فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ . . . } والحكمة : اكتساب العلم النافع والعمل به . و هى : العقل والفهم . أو هى الإِصافة فى القول والعمل .
والمعنى : والله لقد أعطينا - بفضلنا وإحساننا - عبدنا لقمان العلم النافع والعمل به .
وقوله - سبحانه - { أَنِ اشكر للَّهِ } بيان لما يقتضيه إعطاء الحكمة . أى : أتيناه الحكمة وقلنا له أن اشكر لله على ما أعطاك من نعم لكى يزيدك منها .
قال الشوكانى : قوله : { أَنِ اشكر للَّهِ } أن هى المفسرة : لأن فى إيتاء الحكمة معنى القول . وقيل التقدير : قلنا له أن اشكر لى . . وقيل : بأن اشكر لى فشكر ، فكان حكيما بشكره .
والشكر لله : الثناء عليه فى مقابلة النعمة - واستعمالها فيما خلقت له - ، وطاعته فيما أمر به .
ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة الشكر وسوء عاقبة الجحود فقال : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
أى : ومن يشكر الله - تعالى - على نعمه ، فإن نفع شكره إنما يعود إليه ، ومن جحد نعم الله - تعالى - واستحب الكفر على الإِيمان ، فالله - تنعالى - غنى عنه وعن غيره ، حقيق بالحمد من سائر خلقه لإِنعامه عليهم بالنعم التى لا تعد ولا تحصى : فحميد بمعنى محمود .
فالجملة الكريمة المقصود بها ، بيان غنى الله - تعالى - عن خلقه ، وعدم انتفاعهم بطاعتهم ، لأن منفعتها راجعة إليهم ، وعدم تضرره بمعصيتهم . وإنما ضرر ذلك يعود عليهم . وعبر - سبحانه - فى جانب الشكر بالفعل المضارع ، للإِشارة إلى أن من شأن الشاكرين أنهم دائما على تذكر لنعم الله - تعالى - ، وإذا ما غفلوا عن ذلك لفترة من الوقت ، عادوا إلى طاعته - سبحانه - وشكره .
وعبر فى جانب الكفر بالفعل الماضى ، للإِشعار بأنه لا يصح ولا ينبغى من أى عاقل ، بل كل عاقل عليه أن يهجر ذلك هجرا تاما ، وأن يجعله فى خبر كان .
وجواب الشرط محذوف ، وقد قام مقامه قوله - تعالى - : { فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } والتقدير : ومن كفر فضرر كفره راجع إليه . لأن الله - تعالى - غنى حميد .
{ لقمان } رجل حكيم بحكمة الله تعالى وهي الصواب في المعتقدات والفقه في الدين والعقل{[9354]} ، واختلف هل هو نبي مع ذلك أو رجل صالح فقط ، فقال بنبوءته عكرمة والشعبي ، وقال بصلاحه فقط مجاهد وغيره ، وقال ابن عباس : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «لم يكن لقمان نبياً ولكن كان عبداً كثير التفكر حسن اليقين أحب الله فأحبه فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله خليفة يحكم بالحق ، فقال يا رب إن خيرتني قبلت العافية وتركت البلاء وإن عزمت علي فسمعاً وطاعة فإنك ستعصمني{[9355]} وكان قاضياً في بني إسرائيل نوبياً أسود مشقق الرجلين ذا مشافر » ، قاله سعيد بن المسيب ومجاهد وابن عباس ، وقال له رجل كان قد رعى معه الغنم ما بلغ بك يا لقمان ما أرى ؟ قال : صدق الحديث والصمت عما لا يعني ، وقال ابن المسيب : كان سودان مصر من النوبة ، وقال خالد بن الربيع{[9356]} : كان نجاراً ، وقيل كان خياطاً ، وقيل كان راعياً ، وحكم لقمان كثيرة مأثورة ، قيل له وأي الناس شر ؟ قال الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئاً .
وقوله تعالى : { أن اشكر } يجوز أن تكون { أن } في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي «بأن اشكر لله » ، ويجوز أن تكون مفسرة أي كانت حكمته دائرة على الشكر لله ومعانيه وجميع العبادات والمعتقدات داخلة في شكر الله تعالى ، ثم أخبر تعالى أن الشاكر حظه عائد عليه وهو المنتفع بذلك . و { الله } تعالى { غني } عن الشكر فلا ينفعه شكر العباد { حميد } في نفسه فلا يضره كفر الكافرين و { حميد } بمعنى محمود أي هو مستحق ذلك بذاته وصفاته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.