61- ومن الناس منافقون يتعمَّدون إيذاء النبي ، وتناوله بما يكره ، فيتهمونه بأنه محب لسماع كل ما يقال له من صدق وكذب ، وأنه يخدع بما يسمع ، فقل لهم - أيها الرسول - : إن من تتناولونه في غيبته بهذه التهمة ، ليس كما زعمتم ، بل هو أذن خير لا يسمع إلا الصدق ، ولا يخدع بالباطل ، يصدق بالله ووحيه ، ويصدق المؤمنين ، لأن إيمانهم يمنعهم عن الكذب ، وهو رحمة لكل من يؤمن منكم . وإن الله أعد لمن يؤذيه عذاباً مؤلماً دائماً شديداً .
وبعد هذا الحديث عن الصدقات التي كان المنافقون يلمزون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها ، أخذت السورة في مواصلة حديثها عن رذائل المنافقين ، وعن سوء أدبهم . . فقال تعالى - : { وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي . . . } .
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما أخرجه ابن أبى حاتم عن السدى أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت ورفاعة ابن عبد المنذر ، وديعة بن ثابت وغيرهم ، قالوا مالا ينبغى في حقه - صلى الله عليه وسلم - .
فقال رجل منهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمداً ما تقولونه فيقع فينا . فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا ، ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمداً أذن .
فمرادهم بقولهم " هو أذن " أى : كثير الاستماع والتصديق لكل ما يقال له .
قال صاحب الكشاف : الأذن : الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد سمى بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للربيئة - أى الطليعة - عين .
وقال بعضهم : " الأذن " الرجل المستمع القابل لما يقال له . وصفوا به الذكر والانثى والواحد والجمع . فيقال : رجل أذن ، وامرأة أذن ورجال ونساء أذن ، فلا ينثى ولا يجمع . إنما سموه باسم العضو تهويلا وتشنيعاً فهو مجاز مرسل أطلق فيه الجزع على الكل مبالغة بجعل جملته - لفرط استماعه - آلة السماع ، كما سمى الجاسوس عيناً لذلك .
والمعنى : ومن هؤلاء المنافقين قوم يؤذون النبى - صلى الله عليه وسلم - فيقولون عنه أنه كثير السماع والتصديق لكل ما يقال له بدون تمييز بين الحق والباطل .
وقوله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } رد عليهم بما يخرس ألسنتهم ويكبت أنفسهم وهو من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة على سبيل المبالغة في المدح كقولهم رجل صدق أى قد بلغ النهاية في الصدق والاستقامة .
والمعنى : قبل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والتبكيت : سلمنا . كما تزعمون . أنى كثير السماع والتصديق لما يقال ، لكن هذه الكثرة ليست للشر والخير بدون تمييز وإنما هي للخير ولما وافق الشرع فحسب .
ويجوز أن تكون الإِضافة فيه على معنى " في " ، أى هو اذن في الخير والحق ، وليس بأذن في غير ذلك من وجوه الباطل والشر .
وهذه الجملة الكريمة من أسمى الأساليب وأحكمها في الرد على المرجفين والفاسقين ، لأنه - سبحانه - صدقهم في كونه - صلى الله عليه وسلم - أذناً ، وذلك بما هو مدح له ، حيث وصفه بأنه أذن خير لا شر .
قال صاحب الإِنصاف : لا شئ أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه ، لأن في الأول إطماع لهم بالموافقة ثم كر على طمعهم بالحسم ، وأعقبهم في تنقصه باليأس ، منه ، ولا شئ أقطع من الإِطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه .
وقوله : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } تفسير وتوضيح لكونه - صلى الله عليه وسلم - أذن خير لهم لا أذن شر عليهم .
أى : أن من مظاهر كونه - صلى الله عليه وسلم - أذن خير ، أنه " يؤمن بالله " إيماناً حقاً لا يحوم حوله شئ من الرياء ، أو الخداع أو غيرهما من ألوان السوء " ويؤمن للمؤمنين " أى : يصدقهم فيما يقولونه من أقوال توافق الشرع لأنهم أصحابه الذين أطاعوه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه ، فهم أهل للتصديق والقبول . دون غيرهم من المنافقين والفاسقين .
قال الفخر الرازى : فإن قيل لماذا عدى الإِيمان إلى الله بالباء ، وإلى المؤمنين باللام ؟
قلنا : لأن الإِيمان المعدى إلى الله المراد منه التصديق الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء . والإِيمان المعدى إلى المؤمنين المراد منه الاستماع منهم ، والتسليم لقولهم فعدى باللام ، كما في قوله { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } أى بمصدق لنا . وقوله : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } وقوله : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } وقوله : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } معطوف على قوله : { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } .
أى : أن هذا الرسول الكريم بجانب أنه أذن خير لكم هو رحمة للذين آمنوا منكم - أيها المنافقون - إيماناً صحيحاً ، لأنه عن طريق إرشاده لهم إلى الخير ، واتباعهم لهذا الإِرشاد يصلون إلى ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم .
وعلى هذا يكون المارد بالذين آمنوا من المنافقين : أولئك الذيم صدقوا في إيمانهم ، وأخلصوا لله قلوبهم ، وتركوا النفاق والرياء .
أو أن المراد بالذين آمنوا بهم : أولئك الذين أظهروا الإِيمان ، فيكون المعنى : أن هذا الرسول الكريم رحمة للذين أظهروا الإِيمان منكم - أيها المنافقون - حيث إنه - صلى الله عليه وسلم - عاملهم بحسب الظاهر ، دون أن يشكف أسرارهم ، أو يهتك أستارهم ؛ لأن الحكمة تقتضى ذلك .
وعلى هذا المعنى سار صاحب الكشاف فقد قال : وهو رحمة لمن آمن منكم ، أى : أظهر الإِيمان - أيها المنافقون - ، حيث يسمع منكم ، ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ، ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإِبقاء عليكم . .
وقوله : { والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } تذييل قصد به تهديدهم وزجرهم عن التعرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآية إساءة .
أى : والذين يؤذون رسول الله بأى لون من ألوان الأذى ، لهم عذاب أليم في دنياهم وآخرتهم ؛ لأنهم بإيذائهم له يكونون قد استهانوا بمن أرسله الله رحمة للعالمين .
{ ومنهم الذين يُؤذون النبيّ ويقولون هو أُذُنٌ } يسمع كل ما يقال له ويصدقه ، سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عينا لذلك ، أو اشتق له فعل من أذن أذناً إذا استمع كأنف وشلل . روي أنهم قالوا محمد أذن سامعه نقول ما شئنا ثم تأتيه فيصدقنا بما نقول . { قل أُذنٌ خير لكم } تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من حيث أنه يسمع الخير ويقبله ، ثم فسر ذلك بقوله : { يؤمن بالله } يصدق به لما قام عنده من الأدلة . { ويؤمن للمؤمنين } ويصدقهم لما علم من خلوصهم ، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان . { ورحمة } أي وهو رحمة . { للذين آمنوا منكم } لمن أظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سره ، وفيه تنبيه عل أنه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما عليكم . وقرأ حمزة { ورحمة } بالجر عطفا على { خير } . وقرئ بالنصب على أنها علة فعل دل عليه { أُذنَ خير } أي يأذن لكم رحمة . وقرأ نافع { أذن } بالتخفيف فيهما . وقرئ { أذن خير } على أن { خير } صفة له أو خبر ثان { والذين يُؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } بإيذائه .
عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين : وهو تعلّلهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحَذر ، وما يطَّلعون عليه من فلتات نفاقهم ، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنّه يُصدّق القالَة فيهم ، ويتّهمهم بما يبلغه عنهم ممّا هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين ، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشكّ في نفوس المسلمين في كمالات نبيئهم عليه الصلاة والسلام .
والتعبير بالنبي إظهار في مقام الإضمار لأنّ قبله { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] فكان مقتضى الظاهر أن يقال : « ومنهم الذين يؤذونك » فعُدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوءة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلاّ بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه .
وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه . وقد عُدّ من هؤلاء المنافقين ، القائلين ذلك : الجُلاَسُ بن سُويد ، قبل توبته ، ونَبْتَل بن الحارث ، وعتاب بن قشير ، ووديعة بن ثابت . فمنهم من قال : إن كان ما يقول محمّد حقّاً فنحن شرّ من الحمير ، وقال بعضهم : نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنّا ما قلنا فيقبل قولنا .
والأذَى : الإضرار الخفيف ، وأكثر ما يطلق على الضرّ بالقول والدسائس ، ومنه قوله تعالى : { لن يضروكم إلا أذى } وقد تقدّم في سورة آل عمران ( 111 ) ، وعند قوله تعالى : { وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } في سورة الأنعام ( 34 ) .
ومضمون جملة : ويقولون هو أذن } عطفُ خاصّ على عامّ ، لأنّ قولهم ذلك هو من الأذى .
والأذن الجارحة التي بها حاسّة السمع . ومعنى { هو أذن } الإخبار عنه بأنّه آلة سمع .
والإخبار ب { هو أذن } من صيغ التشبيه البليغ ، أي كالأذن في تلقّي المسموعات لا يردّ منها شيئاً ، وهو كناية عن تصديقه بكلّ ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود . روي أنّ قائل هذا هو نَبْتَل بن الحارث أحد المنافقين .
وجملة : { قل أذن خير لكم } جملة { قل } مستأنفة استينافاً ابتدائياً ، على طريقة المقاولة والمحاورة ، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظةً لهم ، وكمداً لمقاصدهم ، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يَحمِل فيه المخاطَبُ كلامَ المتكلّم على غير ما يريده ، تنبيهاً له على أنّه الأولى بأن يراد ، وقد مضى عند قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } [ البقرة : 189 ] ومنه ما جَرَى بين الحجّاج والقبعثرَى إذ قال له الحجاج متوعّدا إيّاه « لأحْمِلَنَّك على الأدهْم ( أراد لألْزِمنَّك القَيْد لا تفارقه ) فقال القبعثري : « مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب » فصرف مراده إلى أنّه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفَرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم .
وهذا من غيرة الله على رسوله عليه الصلاة والسلام ، ولذلك لم يعقّبه بالردّ والزجر ، كما أعقب ما قبله من قوله : { ومنهم من يقول ائذن لي } [ التوبة : 49 ] . إلى هنا بل أعقبه ببيان بطلانه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم ما هو إبطال لزعمهم من أصله بصرف مقالتهم إلى معنى لائق بالرسول ، حتّى لا يبقى للمحكي أثر ، وهذا من لطائف القرآن .
ومعنى { أذن خير } أنّه يسمع ما يبلغه عنكم ولا يؤاخذكم ؛ ويسمع معاذيركم ويقبلها منكم ، فقبولهُ ما يسمعه ينفعكم ولا يضرّكم فهذا أذن في الخبر ، أي في سماعه والمعاملة به وليَس أذناً في الشر .
وهذا الكلام إبطال لأن يكون { أذن } بالمعنى الذي أرادوه من الذم فإنّ الوصف بالأذن لا يختصّ بمن يقبل الكلام المفضي إلى شرّ بل هو أعمّ ، فلذلك صحّ تخصيصه هنا بما فيه خير . وهذا إعمال في غير المراد منه . وهو ضرب من المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد في أحد الجانبين ، فلا يُشكلْ عليك بأنّ وصف { أذن } إذا كان مقصوداً به الذّم كيف يضاف إلى الخير ، لأنّ محلّ الذمّ في هذا الوصف هو قبول كلّ ما يسمع ممّا يترتّب عليه شرّ أو خير ، بدون تمييز ، لأنّ ذلك يوقع صاحبه في اضطراب أعماله ومعاملاته ، فأمّا إذا كان صاحبه لا يقبل إلاّ الخير ، ويرفض ما هو شرّ من القول ، فقد صار الوصف نافعاً ، لأنّ صاحبه التزم أن لا يقبل إلاّ الخير ، وأن يحمل الناس عليه . هذا تحقيق معنى المقابلة ، وتصحيح إضافة هذا الوصف إلى الخير ، فأمّا حملهُ على غير هذا المعنى فيصيّره إلى أنّه من طريقة القول بالموجَب على وجه التنازل وإرخاء العنان ، أي هو أذن كما قلتم وَقد انتفعتم بوصفه ذلك إذ قبل منكم معاذيركم وتبرُّؤكم ممّا يبلغه عنكم ، وهذا ليس بالرشيق لأنّ ما كان خيراً لهم قد يكون شرّاً لغيرهم .
وقرأ نافع وحده { أذْن } بسكون الذال فيهما وقرأ الباقون بضمّ الذال فيهما .
وجملة { يؤمن بالله } تمهيد لقوله بعده { ويؤمن للمؤمنين } إذ هو المقصود من الجواب لتمحّضه للخير وبعده عن الشرّ بأنّه يؤمن بالله فهو يعامل الناس بما أمر الله به من المعاملة بالعفو ، والصفح ، والأمر بالمعروف ، والإعراض عن الجاهلين ، وبأنْ لا يؤاخذ أحد إلاّ ببيّنة ، فالناس في أمن من جانبه فيما يبلُغ إليه لأنّه لا يعامل إلاّ بالوجه المعروف فكونه يؤمن بالله وازع له عن المؤاخذة بالظنّة والتهمة .
والإيمان للمؤمنين تصديقهم في ما يخبرونه ، يقال : آمن لفلان بمعنى صدَّقه ، ولذلك عدّي باللام دون الباء كما في قوله تعالى : { وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين } [ يوسف : 17 ] فتصديقه إيّاهم لأنّهم صادقون لا يكذبون ، لأنّ الإيمان وازع لهم عن أن يخبروه الكذب ، فكما أنّ الرسول لا يؤاخذ أحداً بخبر الكاذب فهو يعامل الناس بشهادة المؤمنين ، فقوله : { ويؤمن للمؤمنين } ثناء عليه بذلك يتضمّن الأمر به ، فهو ضدّ قوله : { يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [ الحجرات : 6 ] .
وعطف جملة { ورحمة } على جملتي { يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين } لأن كونه رحمة للذين يؤمنون بعد علمه بنفاقهم أثرٌ لإغضائه عن إجرامهم ولإمهالهم حتّى يَتمكن من الإيمان مَن وفّقه الله للإيمان منهم ، ولو آخذهم بحالهم دون مهل لكان من سَبْقِ السيفِ العذل ، فالمراد من الإيمان في قوله : { آمنوا } الإيمان بالفعل ، لا التظاهر بالإيمان ، كما فَسّر به المفسّرون ، يعنون بالمؤمنين المتظاهرين بالإيمان المبطنين للكفر ، وهم المنافقون .
وقرأ حمزة بجرّ { ورحمةٍ } عطفاً على خير ، أي أذن رحمةٍ ، والمآل واحد .
وقد جاء ذكر هذه الخصلة مع الخصلتين الأخريَين على عادة القرآن في انتهاز فرصة الإرشاد إلى الخير ، بالترغيب والترهيب ، فرغَّبَهم في الإيمان ليكفِّروا عن سيّئاتهم الفارطة ، ثم أعقب الترغيب بالترهيب من عواقب إيذاء الرسول بقوله : { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } وهو إنذار بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا . وفي ذكر النبي بوصف { رسول الله } إيماء إلى استحقاق مُؤذيه العذاب الأليم ، فهو من تعليق الحكم بالمشتقّ المؤذن بالعلية .
وفي الموصول إيماء إلى أنّ علّة العذاب هي الإيذاء ، فالعلةُ مركبة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومنهم}، يعني من المنافقين، {الذين يؤذون النبي} صلى الله عليه وسلم، منهم: الجلاس بن سويد، وشماس بن قيس... قالوا ما لا ينبغي، فقال رجل منهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغ محمدا فيقع بنا، فقال الجلاس: نقول ما شئنا، فإنما محمد أذن سامعة، فنأتيه بما نقول، فنزلت في الجلاس: {ويقولون هو أذن} يعني النبي صلى الله عليه وسلم. {قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} يعني يصدق بالله، ويصدق المؤمنين، {ورحمة للذين ءامنوا منكم} يقول: محمد رحمة للمؤمنين، كقوله: {رؤوف رحيم} [التوبة:128] يعني للمصدقين بتوحيد الله، {رؤوف رحيم} {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} يعني وجيع...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه، ويقولون: هو أذن سامعة، يسمع من كلّ أحد ما يقول فيقبله ويصدّقه، وهو من قولهم: رجل أذنة مثل فعلة: إذا كان يسرع الاستماع والقبول، كما يقال: هو يَقَنٌ ويَقِنٌ: إذا كان ذا يقين بكلّ ما حدّث. وأصله من أذِنَ له يأْذَنُ: إذا استمع له، ومنه الخبر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما أذِنَ اللّهُ لِشَيْءٍ كأَذَنِهِ لِنَبيّ يَتَغَنّى بالقُرآنِ»...
وذكر أن هذه الآية نزلت في نبتل بن الحرث...
يقول الله:"قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ": أي يستمع الخير ويصدّق به.
واختلف القرّاء في قراءة قوله: "قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ "فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بإضافة الأذن إلى الخير، يعني: قل لهم يا محمد: هو أذن خير لا أذن شرّ. وذُكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: «قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ» بتنوين «أذن»، ويصير «خير» خبرا له، بمعنى: قل من يسمع منكم أيها المنافقون ما تقولون ويصدّقكم إن كان محمد كما وصفتموه من أنكر إذا آذيتموه فأنكرتم ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له سمع منكم وصدّقكم، خير لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذّبهم فقال: بل لا يقبل إلا من المؤمنين، يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ...
والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءة من قرأ: "قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ "بإضافة «الأذن» إلى «الخير»، وخفض «الخير»، يعني: قل هو أذن خير لكم، لا أذن شرّ...
عن ابن عباس، قوله: "وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ" يسمع من كل أحد...
عن مجاهد: وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ نقول ما شئنا، ونحلف فيصدّقنا...
وأما قوله: "يُؤْمِنُ باللّهِ" فإنه يقول: يصدّق بالله وحده لا شريك له.
وقوله: "وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِينَ" يقول: ويصدّق المؤمنين لا الكافرين ولا المنافقين. وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا: محمد أذن، يقول جلّ ثناؤه: إنما محمد صلى الله عليه وسلم مستمع خير، يصدّق بالله وبما جاءه من عنده، ويصدّق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله. وقيل: "ويُؤْمِنُ للمُؤْمِنِينَ" معناه: ويؤمن المؤمنين، لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها: آمنت له وآمنته، بمعنى: صدّقته، كما قيل: "رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ" ومعناه: ردفكم، وكما قال: "للّذِينَ هُمْ لِربّهِمْ يَرْهَبُونَ" ومعناه: للذين هم ربهم يرهبون...
وأما قوله: "وَرَحْمَةٌ للّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ" فإنّ القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأ ذلك عامة الأمصار: "وَرَحْمَةٌ للّذِينَ آمَنُوا" بمعنى: قل هو أذن خير لكم، وهو رحمة للذين آمنوا منكم. فرفع «الرحمة» عطفا بها على «الأذن». وقرأه بعض الكوفيين: «وَرَحْمَةٍ» عطفا بها على «الخير»، بتأويل: قل أذن خير لكم، وأذن رحمة...
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي قراءة من قرأ وَرَحْمَةٌ بالرفع عطفا بها على «الأذن»، بمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا منكم، وجعله الله رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه وصدّق بما جاء به من عند ربه، لأن الله استنقذهم به من الضلالة وأورثهم باتباعه جناته.
"والّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيم": يقول تعالى ذكره: لهؤلاء المنافقين -الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون هو أذن وأمثالهم من مكذّبيه والقائلين فيه الهجر والباطل -عذاب من الله موجع لهم في نار جهنم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) أخبر أنهم يؤذون النبيئ ولم يبين بما كانوا يؤذون، فيحتمل (يؤذون النبيئ) بتكذيبهم إياه وتركهم الإجابة له والطاعة فيما يدعوهم إليه، ويحتمل يؤذونه بكلمات يسمعونه بطعن يطعنون ويعيبون عليه. وقوله تعالى: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) قيل: الأذن هو الذي يقبل العذر ممن اعتذر إليه، ويسمع منه، سواء كان له عذر أم لا عذر له لكرمه وشرفه وحسن خلقه. فظن أولئك لما رأوه أنه كان يعاملهم معاملة أهل الكرم والشرف والمجد أنه إنما يعاملهم هذه المعاملة لسلامة قلبه وصغر همته وقصور يده، وهم كانوا أهل كبر وأنفة، قالوا: (هو أذن) نقول ما شئنا، ثم نحلف ونعتذر إليه، فيصدقنا، ويقبل عذرنا. قال الله تعالى: (قل) يا محمد (أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) أي الذي يقبل العذر ويسمع (خير لكم) من الذي لا يقبل ولا يسمع، فكيف تؤذونه، وتطعنونه، وتعيبونه، ولا تصدقونه، ولا تؤمنون به؟ يخبر عن سفههم... وقيل: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) أي ليسر في نفسه ويكتم ولا يكافئ من آذاه ولا يجازي. قال الله تعالى: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) قال بعضهم: (يؤمن بالله) أي يصدق بالله بما ينزل عليه من آياته...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عين العداوة بالمساوئ مُوَكَّلَة، وعين الرضا عن المعايب كليلة. بسطوا اللائمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله، فقالوا: إنه بحسن خُلُقِه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام:"المؤمِن غِرٌّ كريم والمنافق خبٌّ لئيم".
قوله جلّ ذكره: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}. وقيل: مَن العاقلُ؟ قالوا: الفَطِنُ المُتَغافِل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الأذن: الرجل الذي يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كأن جملته أذنٌ سامعة، ونظيره قولهم للربيئة: عين. وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه {هُوَ أُذُنٌ}. وأذن خير، كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن. ويجوز أن يريد: هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله، وليس بأذن في غير ذلك ودلّ عليه قراءة حمزة «ورحمةٍ» بالجرّ عطفاً عليه أي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثم فسر كونه أذن خير بأنه يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة، ويقبل من المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، وهو رحمة لمن آمن منكم، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن كما قلتم، إلاّ أنه أذن خير لكم لا أذن سوء فسلم لهم قولهم فيه، إلا أنه فسر بما هو مدح له وثناء عليه، وإن كانوا قصدوا به المذمّة والتقصير بفطنته وشهامته، وأنه من أهل سلامة القلوب والغرّة. وقيل: إنّ جماعة منهم ذمّوه صلوات الله عليه وسلامه وبلغه ذلك، فاشتغلت قلوبهم فقال بعضهم: لا عليكم فإنما هو أذن سامعة قد سمع كلام المبلغ فأذن، ونحن نأتيه ونعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضاً فيرضى، فقيل: هو أذن خير لكم... فإن قلت: لم عدّي فعل الإيمان بالباء إلى الله تعالى، وإلى المؤمنين باللام؟ قلت: لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، فعدّي بالباء، وقصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدّقه لكونهم صادقين عنده، فعدّي باللام...
اعلم أن هذا نوع آخر من جهالات المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله أنه أذن على وجه الطعن والذم، اعلم أنه تعالى حكى أن من المنافقين من يؤذي النبي، ثم فسر ذلك الإيذاء بأنهم يقولون للنبي أنه أذن، وغرضهم منه أنه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع، فلهذا السبب سموه بأنه أذن، كما أن الجاسوس يسمى بالعين يقال: جعل فلان علينا عينا، أي جاسوسا متفحصا عن الأمور، فكذا ههنا. ثم إنه تعالى أجاب عنه بقوله {قل أذن خير لكم}
والتقدير: هب أنه أذن لكنه خير لكم. وقوله: {أذن خير} مثل ما يقال فلان رجل صدق وشاهد عدل، ثم بين كونه {أذن خير} بقوله: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم} جعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عليه الصلاة والسلام {أذن خير} فلنبين كيفية اقتضاء هذه المعاني لتلك الخيرية؛
أما الأول: وهو قوله: {يؤمن بالله} فلأن كل من آمن بالله خائفا من الله، والخائف من الله لا يقدم على الإيذاء بالباطل.
وأما الثاني: وهو قوله: {ويؤمن للمؤمنين} فالمعنى أنه يسلم للمؤمنين قولهم، والمعنى أنهم إذا توافقوا على قول واحد، سلم لهم ذلك القول، وهذا ينافي كونه سليم القلب سريع الاغترار...
وأما الثالث: وهو قوله: {ورحمة للذين آمنوا منكم} فهذا أيضا يوجب الخيرية لأنه يجري أمركم على الظاهر، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم، ولا يسعى في هتك أستاركم، فثبت أن كل واحد من هذه الأوصاف الثلاثة يوجب كونه {أذن خير}.
ولما بين كونه سببا للخير والرحمة بين أن كل من آذاه استوجب العذاب الأليم، لأنه إذا كان يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم مع كونهم في غاية الخبث والخزي، ثم إنهم بعد ذلك يقابلون إحسانه بالإساءة وخيراته بالشرور، فلا شك أنهم يستحقون العذاب الشديد من الله تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما بين الصنفين السالفين، وختم أمرهما بصفتي العلم والحكمة، أتبعهما بصنف آخر يؤذي بما يجعله نقصاً في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم فليزم الطعن في علم مرسله وحكمته فقال: {ومنهم الذين يؤذون النبي} أي الذي أعلى الله مقداره، فهو ينبئه بما يريد سبحانه من خفايا الأسرار؛ ولما أخبر بمطلق الأذى الشامل للقول والفعل، عطف عليه قوله: {ويقولون هو} أي من فرط سماعه لما يقال له {أذن} ومرادهم أنه يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد... ومرادهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرف مكر من يمكر به وخداع من يخادعه وكذبوا، هو أعرف الناس بذلك، ولكنه يعرض عند المصالح، لا يليق بمحاسن الدين غيرها، بينها تعالى بقوله: {قل أذن خير} ثم بين أن نفع ذلك عائد إليهم بقوله: {لكم} ثم فسر ذلك بقوله: {يؤمن} أي يوقع الإيمان للملائكة الذين يأتونه عن الله من التكذيب بأن يصدقهم معترفاً {بالله} أي بسبب ما يخبرونه عنه به حق الإيمان لما له من كمال العلم بما له سبحانه من صفات الجلال والإكرام؛ وحاصله أن فعل الإيمان ضمن فعل التصديق ثم حذف وانتزعت منه حال أقيمت مقامه ثم حذفت وأتى بصلة تدل عليها كما قالوا في قوله تعالى {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185] أن التقدير: حامدين على ما هداكم، فالتقدير هنا: يؤمن مصدقاً بالله، فهذا حقيقته وهو يثمر محبة المؤمنين وولايتهم، ولذا أتبعه قوله: {ويؤمن للمؤمنين} أي الراسخين، يوقع الإيمان لهم من التكذيب بأن يصدقهم في كل ما يخبرونه به مما يحتمل التصديق، وذلك لأجل مصالحهم والتأليف بينهم مع ما ثبت من صدقهم، فإنه لو حملهم على عقله ومبلغ علمه يحبه الكاذب وعاقب الخائن بمجرد علمه وتفرسه، لقصرت عن ذلك غالب الأفهام وتاهت بسببه أكثر الأوهام، فنفرت القلوب ووقع من الأغلب الاتهام. ولما كان التصديق بوجود الإله على ما له من صفات الكمال المقتضي للأمر والنهي عدي بالباء، وهنا كان التصديق إنما هو للإخبار بأيّ شيء كان عدي باللام وأشير -بقصر الفعل وهو متعد- إلى المبالغة في التصديق بحيث كأنه لا تصديق غيره. ولما بين سبحانه أن تصديقه ظاهراً وباطناً إنما هو للراسخين في الإيمان، بين أن تصديقه لغيرهم إنما هو الظاهر فقال: {ورحمة} أي وهو رحمة {للذين آمنوا} أي أظهروا الإيمان بألسنتهم {منكم} فهو -والله أعلم- إشارة إلى المنافقين ومن في حكمهم ممن جزم لسانه وقلبه مزلزل، أي أن إظهار تصديقهم قبولاً لما ظهر منهم وستر قبائح أسرارهم سبب للكف عن دمائهم، وإظهار المؤمنين لمقتهم ربما كان ذلك سبباً لصدق إيمانهم بما يرون من محاسن الإيمان بتمادي الزمان، ولا يستبعد كون التعبير بالماضي إشارة إلى المنافقين لا سيما بعد التعبير باسم الفاعل... ولما بين ما لمن صدقه باطناً أو ظاهراً من الرحمة، بين ما على من كذبه فآذاه من النقمة فقال: {والذين يؤذون} أي هؤلاء ومن غيرهم {رسول الله} أي الذي أظهر -وهو الملك الأعلى- شرفه وعظمته بالجمع بين الوصفين وأعلاه بإضافته إليه، وزاد في رفعته بالتعبير باسمه الأعظم الجامع، وهو واسطة بين الحق والخلق في إصلاح أحوالهم فإنما يستحق منهم الشكر والإكرام لا الأذى والإيلام. ولما كان أذاهم مؤلماً جعل جزاءهم من جنسه فقال: {لهم عذاب أليم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذا ضرب آخر من دلائل نفاق أولئك المنافقين وآثاره وهو إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالطعن في أخلاقه العظيمة، وشمائله الكريمة، كإيذاء أولئك الذين لمزوه في بعض أفعاله العادلة، وهي قسمة الصدقات، وناهيك بكفر من يصغرون ما عظمه رب العالمين، بقوله لرسوله: {وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم: 4]. أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم إنما محمد أذن، من حدثه شيئاً صدقه، فأنزل الله فيه {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن}. ولكن منطوق الآية يسند هذا القول إلى جماعة منهم وهو أقرب، وإن كان الإسناد إلى الجماعة يصدق بقول واحد وإقرار الباقين. والأول مروي عن السدي عند ابن أبي حاتم قال: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت ومخشي بن حمير ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم فنهى بعضهم بعضاً وقالوا: نخاف أن يبلغ محمداً فيقع بكم، وقال بعضهم: إنما محمد أذن، نحلف له فيصدقنا، فنزل (ومنهم) وذكر الآية. الأذى ما يؤلم الحي المدرك في بدنه أو في نفسه ولو ألماً خفيفا، يقال: أذي الإنسان [كرضي] بكذا أذى، وتأذى تأذياً، إذا أصابه مكروه يسير- كذا قالوا- وآذى غيره إيذاء، وأنكر الفيروزأبادي لفظ الإيذاء، وإن كان هو القياس، لأنه لم يسمع من العرب إلا الأذى والأذاة والأذية، وربما يشهد له قوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} [آل عمران:111] من سورة آل عمران؛ لأنه من آذى المتعدي بنفسه لا من أذي اللازم، إلا أن يقال: إنه اسم مصدر، وتقييدهم للأذى بالمكروه اليسير غير مسلم على إطلاقه، فالظاهر أنه يطلق على اليسير والخفيف وعلى الشديد، وقوله تعالى: {لن يضروكم إلا أذى} من الأول لأنه مستثنى من الضرر، ومثله ما ورد في الأذى من المطر وأذى الرأس من القمل، ومن الثاني قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهيناً والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} [الأحزاب: 57، 58]، فقد ورد في المأثور تفسير الذين يؤذون الله بالذين نسبوا إليه الابن والبنات، والذين يؤذون رسوله بالذين شجوا رأسه يوم أحد، وبالذين كانوا يكذبون برسالته ويقولون ساحر وشاعر وكاهن، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بالطاعنين في الأعراض، وبالزناة الذين يتبعون النساء لمراودتهن. وناهيك بالوعيد الشديد للجميع. وأما قولهم: {أذن} فهو من تسمية الشخص باسم الجارحة للمبالغة في وصفه بوظيفتها وهو كثرة السمع لما يقال وتصديقه كأنه كله أذن سامعة، كقولهم للجاسوس عين، ويطلق على لازمه، وهو عدم الدقة في التمييز بين ما يسمع، وتصديق ما يعقل وما لا يعقل، فيراد به الذم بالغرارة وسرعة الانخداع. وهو من أكبر عيوب الملوك والرؤساء لما يترتب عليه من قبول الغش بالكذب والنميمة، وتقريب المنافقين، وإبعاد الناصحين. وكان صلى الله عليه وسلم يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها عامة المسلمين كما أمره الله تعالى ببناء المعاملة على الظواهر، فظنوا أنه يصدق كل ما يقال له. قرأ الجمهور (أذن) بضمتين، ونافع بسكون الذال، وهما لغتان. وقد لقنه الله تعالى الرد عليهم بقوله {قل أذن خير لكم} أي نعم هو أذن ولكنه نعم الأذن، لأنه أذن لا كما تزعمون، فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الحق وما وافق الشرع، وما فيه الخير والمصلحة للخلق، وليس بأذن في غير ذلك كسماع الباطل والكذب والغيبة والنميمة والجدال والمراء فهو لا يلقي سمعه لشيء من ذلك، وإذا سمعه من غير أن يستمع إليه لا يقبله، ولا يصدق ما لا يجوز تصديقه شرعاً أو عقلاً، كما هو شأن من يوصفون بهذا الوصف من الملوك والزعماء فيستعين المتملقون وأصحاب الأهواء به على السعاية عندهم لإبعاد الناصحين المخلصين عنهم، وحملهم على إيذاء من يبغون إيذاءه، والإضافة هنا إضافة الموصوف إلى الصفة، وقرأ نافع [أذن] بالتنوين و [خير] بالرفع صفة له. والرد من باب أسلوب الحكيم، فهو في أوله يوافقهم على قولهم، ثم يتبعه ما ينقضه عليهم حتى ينقضّ على رؤوسهم، كقوله في سورة [المنافقين] وهم هم {يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] الآية. فهم كانوا يعنون أنهم الأعزة ويعرضون بالرسول والمؤمنين به، فقلب عليهم مرادهم على تقدير تسليم أصل القضية وهي إخراج الأعز للأذل، بإثبات العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والتعريض بأنهم هم الأذلون ولو شاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأخرجهم، ولكنه لا يفعل إلا إذا أظهروا كفرهم، لأن قاعدة شريعته الحكم على الظواهر. وجعله ابن المنير في الانتصاف من قبيل القول بموجب العلة فقال: لا شيء أبلغ من الرد عليهم بهذا الوجه، لأنه في الأول إطماع لهم بالموافقة، ثم كر على طمعهم بالحسم، وأعقبهم في تنقصه باليأس منه، ويضاهي هذا من مستعملات الفقهاء القول بالموجب؛ لأن في أوله إطماعاً للخصم بالتسليم، ثم بالطمع على قرب، ولا شيء أقطع من الإطماع ثم اليأس يتلوه ويعقبه اه.
ثم فسر المراد من أذن الخير بأفضل الخير وأعلاه على طريق البيان المستأنف فقال: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} أي يصدق بالله تعالى وما يوحيه إليه من خبركم وخبر غيركم، وهو الخبر القطعي الصدق، الذي لا يحوم حوله الشك، لأنه برهاني وجداني عياني له بما كشفه الله له من عالم الغيب، وإيمانه به أثبت وأرسخ في اليقين من تصديق غيره بما قامت عليه الأدلة العقلية القطعية، ويصدق في الدرجة الثانية تصديق ائتمان وجنوح للمؤمنين الصادقي الإيمان من المهاجرين والأنصار الذين برهنوا على صدقهم بجهادهم معه في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فهو يصدق أخبارهم لا لذاتها بمجرد سماعها، بل لما علمه من آيات إيمانهم الذي يوجب عليهم الصدق، ولا سيما الصدق بما يحدثونه به، ولما يجده في أخبارهم من أماراته وآياته. ويتضمن هذا أنه لا يؤمن لهؤلاء المنافقين إيمان تسليم وائتمان، ولا يصدقهم في أخبارهم وإن وكدوها بالأيمان، كما ظن من قال منهم [هو أذن] اغتراراً بلطفه وأدبه صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان لا يواجه أحداً بما يكره، وبمعاملته إياهم كما يعامل أمثالهم من عامة أصحابه. وفي هذا تهديد لهم وتخويف بأن ينبئه الله تعالى بما كانوا يسرونه في أنفسهم وفيما بينهم كما سيأتي قريباً في قوله: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} [التوبة: 64]، وتخويف من المؤمنين الذين يسيئون الظن فيهم كعمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يظهروا على كفرهم فيخبروه به فيأذن بالانتقام منهم. وأما كونه صلى الله عليه وسلم أذن خير لهم مع هذا فهو معاملته لهم بالحلم وما يقتضيه حكم الشرع من العمل بالظواهر، ومنها قبول المعاذير قبل نهيها عنها في هذه السورة. ولو كان يعاملهم بمقتضى ما يسمع عنهم -كما تقتضيه استعمال كلمة أذن- لما سلموا من عقابه، لأن أخبار السوء عنهم كثيرة بكثرة أعمال السوء فيهم، فلو كان يقبل أخبار الشر لقبلها من المؤمنين الصادقين فيهم ولعقابهم عليها. وفسر الزمخشري قراءة التنوين في قوله {أذن خير} بأن كلا من اللفظين خبر لمبتدأ محذوف، أي هو أذن هو خير لكم، يعني إن كان كما تقولون فهو خير لكم لأنه يقبل معاذيركم، ولا يكافئكم على سوء دخيلتكم. وقدر غيره: أذن ذو خير لكم، أو بمعنى: أخير لكم. ونكتة تعدية الإيمان بالباء في الله تعالى وباللام في المؤمنين أن الأول على الأصل في آمن به ضد كفر به، وصدق به ضد كذب به. وأما الثاني فقد ضمن معنى الميل والائتمان والجنوح للمؤمنين به، وفي معناه آيات كقوله تعالى: {فآمن له لوط} [العنكبوت: 26] وقوله: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} [يونس: 83] وقوله إخباراً عن قول إخوة يوسف لأبيهم {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17] وقوله في جدال قوم نوح له {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} [الشعراء:111]، ففي كل هذا معنى التصديق المتضمن للائتمان والتسليم والميل عن جانب إلى جانب، وإنما يكون هذا في إيمان الناس بعضهم لبعض لا في الإيمان بالله عز وجل. وبهذا يعلم كذبهم في زعمهم تصديقه صلى الله عليه وسلم لهم فيما يعتذرون له، فهو لا يصدقهم وإن حلفوا لأنه إنما يؤمن للمؤمنين الصادقين، دون المنافقين الكاذبين. {ورحمة للذين آمنوا منكم} أي هو أذن خير لكم على كونه يؤمن للمؤمنين دون غيرهم، هو رحمة للذين آمنوا منكم إيماناً صحيحاً صادقاً إذ كان سبب إيمانهم وهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة، دون من أظهر الإسلام وأسر الكفر منافقاً فهو نقمة عليه في الدارين، كما قال: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} [البقرة: 218] والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولما كان كل منهم يدعي الإيمان كان قوله {منكم} تعريضاً بغير الصادقين منهم لا تصريحا، وفائدته أن يعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عالم بأن منهم منافقين ولكنه لا يعرف أعيانهم وأشخاصهم، ويخشى أن يخبره ربه بهم ويكشف له عن أسرار قلوبهم، كما سيأتي في قوله تعالى: {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم} [التوبة:64]، وقيل: إن المراد بالذين آمنوا منهم الذين أظهروا الإيمان، وأنه رحمة لهم بقبول ظواهرهم ومعاملتهم بها معاملة المؤمنين. ولذلك قال: {الذين آمنوا} فعبر عنهم بالفعل، ولم يقل المؤمنين بالوصف، وهذا القول ضعيف، وكثيرا ما ناط التنزيل الجزاء على الإيمان بالتعبير عن أهله بالفعل الماضي. وقرأ حمزة (ورحمة) بالخفض عطفاً على (خير)، قيل في معناه: أي هو أذن خير ورحمة لكم، وفيه نظر أيضا، فإنه لو أريد هذا لما فصل بين الخير والرحمة بقوله: {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} بل هو يؤيد ما قلناه، والتقدير أذن خير لكم كافة، وأذن رحمة للذين آمنوا منكم خاصة، فكل ما في اختلاف التعبير أن لين الرسول صلى الله عليه وسلم ولطفه وإلقاءه السمع إلى محدثه، وعدم معاملته بمقتضى سره وسريرته، هو خير للمنافقين من عدمه، فإنه لو أمره الله تعالى أن يعاملهم بما يخفون من الكفر لكان ذلك أمراً بقطع رقابهم، وبقاؤهم خير لهم بالمعنى الذي يعتقدونه من لفظ الخير، وخير لهم في نفس الأمر، لأنه إمهال لهم يرجى أن يتوب بسببه من فيه استعداد للإيمان منهم بما يراه من آيات الله وتأييده لرسوله وللمؤمنين. والخيرية دنيوية وهي للجميع، والرحمة دنيوية وأخروية وإنما هي للمؤمنين.
وأما إرساله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فالمراد به عموم دعوته وهدايته، لا أنه رحمة لمن كفر به كمن آمن به. ويؤيد ما اخترناه قوله تعالى: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم} فهو مقابل قوله: {ورحمة للذين آمنوا منكم} يدل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول أو الفعل ينافي الإيمان الذي هو سبب الرحمة، فجزاؤه ضد جزائه وهو العذاب الشديد الإيلام، وفي إضافة الرسول إلى اسم الله عز وجل إيذان بأن إيذاءه إيذاء لمرسله أي سبب لعقابه، كما أن طاعته طاعة له وسبب لثوابه، {من يطع الرسول فقد أطاع الله} [النساء: 80] وقوله: {لهم عذاب أليم} جملة مستقلة هي خبر لما قبلها، وفي هذا تأكيد لمضمونها. الآية وما في معناها دليل على أن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كفر إذا كان فيما يتعلق بصفة الرسالة، فإن إيذاءه في رسالته ينافي صدق الإيمان بطبيعته، وأما الإيذاء الخفيف فيما يتعلق بالعادات والشؤون البشرية فهو حرام، لا كفر، كإيذاء الذين كانوا يطيلون المكث في بيوته عند نسائه بعد الطعام فنزل فيهم {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم} [الأحزاب: 53] – إلى قوله- {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً} [الأحزاب: 53]، وقال في الأعراب الذين كانوا يرفعون أصواتهم في ندائه ويسمونه باسمه {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 2] فهذه آداب المؤمنين التي فرضها عليهم ربهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم وفي التقصير فيها خطر حبوط الأعمال بدون شعور من المقصر. وصرح بعض العلماء بأن إيذاءه صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى كإيذائه في حال حياته الدنيا، ومنه نكاح أزواجه من بعده، قال بعضهم: ومنه الخوض في أبويه وآل بيته بما يعلم أنه يؤذيه لو كان حياً، ولكنهم جعلوه ذنباً لا كفراً، ولا شك أن الإيمان به صلى الله عليه وسلم مانع من تصدي المؤمن لما يعلم أو يظن أنه يؤذيه صلوات الله وسلامه عليه إيذاء ما. ولكن لا يدخل في هذا كل ما يؤذي أحداً من سلائل آله وعترته بأي سبب من أسباب التنازع بين الناس في الحقوق المالية والجنائية والمخاصمات الشخصية، لأنه منها ما يكون فيها المنسوب إلى الآل الكرام جانبا آثماً ومعتدياً ظالماً، وقد قال الله تعالى: {لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم} [النساء: 148]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لصاحب الحق مقالا)، وسببه -كما في صحيح البخاري- أن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهم به أصحابه فقال: (دعوه إن لصاحب الحق مقالاً) الحديث. وهذه فاطمة سيدة نساء أهله -بل سيدة نساء العالمين كمريم عليهما السلام- قد تأذت من الصديق الأكبر الذي كان أحب الرجال إليه، كما كانت أحب النساء إليه، لأنه لم يعطها ما ظنت من ميراثها منه صلى الله عليه وسلم، وعذره أنه منفذ لأمره ومقيم لشرعه، وقد أخبره صلى الله عليه وسلم بنطق فمه أن الأنبياء لا يورثون وما تركوه فهو صدقة، فعمله بوصيته لا يمكن أن يعد إيذاء له، فتأذيها عليها السلام لم يكن عن إيذاء منه عليه الرضوان، وكل منهما معذور...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
..وبعد بيان قواعد الصدقات، التي يرجع إليها التوزيع والتقسيم. ذلك البيان الذي يكشف عن جهل الذين يلمزون الرسول -[ص]- فوق سوء أدبهم حين يلمزون الرسول الأمين. بعد هذا يمضي السياق يعرض صنوف المنافقين، وما يقولون وما يفعلون: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون: هو أذن. قل: إذن خير لكم يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين، ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم. يحلفون باللّه لكم ليرضوكم، واللّه ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين. ألم يعلموا أنه من يحادد اللّه ورسوله فان له نار جهنم خالداً فيها. ذلك الخزي العظيم. يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم. قل: استهزئوا إن اللّه مخرج ما تحذرون. ولئن سألتهم ليقولن: إنما كنا نخوض ونلعب. قل: أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم؛ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)..
إنه سوء الأدب في حق الرسول، يبدو في صورة أخرى غير صورة اللمز في الصدقات. إنهم يجدون من النبي -[صلى الله عليه وسلم]- أدباً رفيعاً في الاستماع إلى الناس بإقبال وسماحة؛ ويعاملهم بظاهرهم حسب أصول شريعته؛ ويهش لهم ويفسح لهم من صدره. فيسمون هذا الأدب العظيم بغير اسمه، ويصفونه بغير حقيقته، ويقولون عن النبي -[صلى الله عليه وسلم]- (هو أذن) أي سماع لكل قول، يجوز عليه الكذب والخداع والبراعة، ولا يفطن إلى غش القول وزوره. من حلف له صدقه، ومن دس عليه قولاً قبله. يقولون هذا بعضهم لبعض تطميناً لأنفسهم أن يكشف النبي -[صلى الله عليه وسلم]- حقيقة أمرهم، أو يفطن إلى نفاقهم. أو يقولونه طعناً على النبي في تصديقه للمؤمنين الخلص الذين ينقلون له ما يطلعون عليه من شؤون المنافقين وأعمالهم وأقوالهم عن الرسول وعن المسلمين. وقد وردت الروايات بهذا وذلك في سبب نزول الآية. وكلاهما يدخل في عمومها. وكلاهما يقع من المنافقين. ويأخذ القرآن الكريم كلامهم ليجعل منه رداً عليهم: (ويقولون: هو أذن).. نعم.. ولكن: (قل: أذن خير لكم).. أذن خير يستمع إلى الوحي ثم يبلغه لكم وفيه خيركم وصلاحكم. وأذن خير يستمع إليكم في أدب ولا يجبهكم بنفاقكم، ولا يرميكم يخادعكم، ولا يأخذكم بريائكم. يؤمن باللّه. فيصدق كل ما يخبره به عنكم وعن سواكم. (ويؤمن للمؤمنين).. فيطمئن إليهم ويثق بهم، لأنه يعلم منهم صدق الإيمان الذي يعصمهم من الكذب والالتواء والرياء. (ورحمة للذين آمنوا منكم).. يأخذ بيدهم إلى الخير. (والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم).. من اللّه غيرة على الرسول أن يؤذى وهو رسول اللّه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
الربع الثالث من الحزب العشرين في المصحف الكريم:
لا يزال كتاب الله يكشف الستار عن فضائح المنافقين فضيحة بعد أخرى، حتى سميت هذه السورة، من كثرة ما فضحت المنافقين، وأظهرت من سوآتهم ومساويهم، سورة "الفاضحة"، وظن الصحابة أنها لا تبقي أحدا. وفي بداية هذا الربع، أشارت الآيات الكريمة إلى تضايق المنافقين كل التضايق، من إطلاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن معرفته الواسعة بمساعيهم الخفية التي يقومون بها من وراء الستار، ومن علمه التام بما يتناجون به من الإثم والعدوان في خلواتهم الخاصة. ومما يدل على تضايقهم البالغ ما أخذوا يتحدثون به فيما بينهم، من أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصغي إلى الأخبار التي تنقل له عنهم، ومن أنه يتأثر بتلك الأخبار وينفعل لها، بينما هي في زعمهم لا أساس لها من الصحة، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {ومنهم الذين يؤذون النبيء ويقولون هو أذن} – أي أن من قال له شيئا عنهم صدقه – {قل أذن خير لكم} – أي أنه عليه الصلاة والسلام يميز الخير من الشر، والصواب من الخطأ، والصدق من الكذب، ولا يلتبس عليه من أمرهما شيء، خلافا لما يزعمه المنافقون – {يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} – أي يصدق المؤمنين ويزكي أخبارهم – {ورحمة للذين آمنوا منكم، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم}...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... من أساليب إيذاء المنافقين للنبيصلى الله عليه وسلم:
وتتنوّع أساليبهم في إرباك المجتمع الإسلامي بالكلمات غير المسؤولة التي يوجهونها إلى النبيّ من أجل أن يخففوا من تقديس الناس له، وذلك بتصويره بصورة الإنسان الذي لا يملك موقفاً ثابتاً في نظرته للأشياء وتقييمه للناس وحكمه على الواقع، ما يجعل من موقعه الذي يمثل الهدى للناس في أمور دينهم ودنياهم، موقعاً قلقاً مهتزّاً يبعث على اهتزاز الثقة به، ويثير القلق حول طبيعة قيادته الروحيّة والعملية للناس.. فكيف كان ذلك، وما هو ردّ الله عليهم؟ إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بالقول إنه أذن {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} بمعنى أنه يسمع من كل أحدٍ ويقبل منه ما يقول، وربما كان الكلام من شخص مناقضاً للكلام من شخصٍ آخر، فيقبل الحديث منهما معاً. {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} فهو لا يقبل ما يسمع من الناس عن اقتناع، بل كل ما هناك أنه يظهر القبول لئلا يحرج المعتذر أو يكذّب القائل، انطلاقاً من سماحته وحسن أخلاقه {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} فيصدّقه في ما يوحي به إليه {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} بمعنى أنه يظهر التصديق لهم. فالمسألة ليست منطلقة من قناعةٍ بالواقع، بل من مراعاة مواقفهم ومواقعهم، فهو يؤمن لأجلهم، وتلك هي سيرة النبيّ في خلقه العظيم الذي يريد أن يوحي للمؤمنين الذين يعيشون معه، بإمكانية التراجع من دون إحراجٍ لهم أو تعقيد لعلاقتهم به، كما أنه يعمل على أساس أن يكون الأذن التي يستمع بها إليهم جميعاً، فيصغي لهذا، ويسمع لذاك، ليدخل السرور عليهم، وليوفّق فيما بينهم، وليسهّل لهم سبيل اللقاء على أكثر من طريق. {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} في أسلوبه العملي الذي يجمع به كلمتهم، ويفتح به قلوبهم، ويوحي إليهم بالخير والرحمة والإيمان. {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} لأن في إيذائهم له إيذاءً لله، في ما يمثله الرسول من موقع يرتبط بالله، وفي ما يعنيه هذا التصرّف من عقدةٍ نفاقيّةٍ ضد الإسلام بالذات، الذي يتحول، بطريقةٍ غير مباشرةٍ، إلى عقدةٍ ضد الله سبحانه وتعالى، ما يجعل المسألة مسألة تمرّد وعصيان وطغيان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تتحدّث الآية كما يفهم من مضمونها عن فرد أو أفراد كانوا يؤذون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهم ويقولون أنّه أُذن ويصدّق كل ما يقال له سريعاً (ومنهم الذين يؤذون النّبي ويقولون هو أُذن).
«الأذن» في الأصل تطلق على الجزء الظاهر من الحاسة السامعة (الصيوان)، لكنّها تطلق على الأفراد الذين يصغون كثيراً لكلام الناس أو كما يقال: سَمّاع.
هؤلاء المنافقون اعتبروا هذه الصفة والتي هي سمة إيجابية للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي يجب توفرها في أي قائد كامل نقطة ضعف في سيرته ومعاملته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكأنّهم غفلوا عن أن القائد إِذا أراد أن يحبه الناس لابدّ أن يظهر لهم كل محبّة ولطف، وأن يقبل عذر المعتذر ما أمكن، ويستر على عيوبهم، (إِلاّ أن تكون هذه الصفة الحميدة سبباً لاستغلالها من قبل البعض).
من هنا نلاحظ أنّ القرآن قد ردّهم مباشرة، وأمر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول لهم بأنّه إِذا كان يصغي لكلامكم، ويقبل أعذاركم، أو كما تظنون بأنّه أُذُن، فإنّ ذلك في مصلحتكم ولمنفعتكم (قل أُذُن خير لكم)، فإنّه بذلك يحفظ ماء وجوهكم وشخصيتكم، ولا يجرح شعوركم وعواطفكم، وبذلك أيضاً يسعى لحفظ وحدتكم واتحادكم ومودتكم، ولو أراد أن يرفع الستار عن أفعالكم القبيحة، ويفضح الكاذبين على رؤوس الأشهاد، لضرّكم ذلك وشق عليكم، وافتضح عدّة منكم، وعندها سيُغلق أمامهم باب التوبة ممّا يؤدي إلى توغلهم في الكفر والابتعاد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن كان من المحتمل هدايتهم.
إِن القائد الرحيم والمحنّك يجب أن يكون مطّلعاً على كل شيء، لكن لا ينبغي له أن يجابه أفراده بأُمورهم الخاصّة والمجهولة عند الآخرين حتى يتربى من لهم الاستعداد والقابلية وتبقى أسرار الناس في طي الكتمان.
ويحتمل في تفسير الآية أن يراد معنى آخر، وهو أنّ الله سبحانه وتعالى يقول في جواب هؤلاء الذين يعيبون على النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إِصغاءه للآخرين: ليس الأمر كما تظنون بأنّه يسمع كل ما يقال له، بل إِنّه يصغي إِلى الكلام الذي فيه نفعكم، أي أنّه يسمع الوحي الإِلهي، والاقتراح المفيد، ويقبل اعتذار الأفراد إِذا كان هذا القبول في صالح المعتذرين والمجتمع.
ومن أجل أن لا يستغل المتتبعون لعيوب الناس ذلك، ولا يجعلون هذه الصفة وسيلة لتأكيد كلامهم، أضاف الله تعالى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤمن بالله ويطيع أوامره، ويصغي إِلى كلام المؤمنين المخلصين، ويقبله ويرتب عليه الأثر، (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين)، وهذا يعني أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان له طريقان وأسلوبان في عمله:
أحدهما: الحفاظ على الظاهر والحيلولة دون هتك الأستار وفضح أسرار الناس.
والثّاني: في مرحلة العمل، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) في البداية يسمع من كل أحد، ولا ينكر على أحد ظاهراً، أمّا في الواقع العملي فإنّه لا يعتني ولا يقبل إلاّ أوامر الله واقتراحات وكلام المؤمنين المخلصين، والقائد الواقعي يجب أن يكون كذلك فإن تأمين مصالح المجتمع لا يتم إلاّ عن هذا الطريق، لذلك عبر عنه بأنّه رحمة للمؤمنين (ورحمة للذين آمنوا).
ويمكن أن يطرح هنا سؤال، وهو أننا نلاحظ في بعض الآيات التعبير عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه (رحمة للعالمين)، لكننا نقرأ هنا أنّه رحمة للمؤمنين، فهل يتطابق ذلك العموم مع هذا التخصيص؟
إِلاّ أنّنا إِذا لاحظنا نقطة دقيقة سيتّضح جواب هذا السؤال، وهي أنّ للرحمة درجات ومراتب متعددة، فإحداها مرتبة (القابلية والاستعداد)، والأُخرى (الفعلية).
فمثلا: المطر رحمة إِلهية، أي أنّ هذه القابلية واللياقة موجودة في كل قطرات المطر، فهي منشأ الخير والبركة والنمو والحياة، لكن من المسلّم أنّ آثار هذه الرحمة لا تظهر إلاّ في الأراضي المستعدّة، وعلى هذا فإنّه يصح قولنا: إِنّ جميع قطرات المطر رحمة، كما يصح قولنا: إِنّ هذه القطرات أساس الرحمة في الأراضي التي لها القابلية والاستعداد لتقبل هذه الرحمة، فالجملة الأُولى إشارة إلى مرحلة (الاقتضاء والقابلية)، والجملة الثّانية إشارة إِلى مرحلة (الوجود والفعل)، وعلى هذا فإنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أساس الرحمة لكل العالمين بالقوة، أمّا بالفعل فهو مختص بالمؤمنين.
بقي هنا شيء واحد، وهو أنّ هؤلاء الذين يؤذون النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهم ويتتبعون أحواله لعلهم يجدون عيباً يشهّرون به يجب أن لا يتصوروا أنّهم سوف يبقون بدون جزاء وعقاب، فصحيح أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور، ومن واجبه كقائد أن يقابل هؤلاء برحابة صدر ولا يفضحهم، لكن هذا لا يعني أنّهم سوف يبقون بدون جزاء، ولهذا قال تعالى في نهاية الآية: (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم).