تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَمِنۡهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٞۚ قُلۡ أُذُنُ خَيۡرٖ لَّكُمۡ يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤۡمِنُ لِلۡمُؤۡمِنِينَ وَرَحۡمَةٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡۚ وَٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ} (61)

وقوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ) أخبر أنهم يؤذون النبئ ولم يبين بما كان يؤذون ، فيحتمل ( يؤذون النبئ ) بتكذيبهم إياه وتركهم الإجابة له والطاعة فيما يدعوهم إليه ، ويحتمل يؤذونه بكلمات يسمعونه بطعن يطعنونه[ من م ، في الأصل : يطعنون ] ويعيبون عليه .

[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] : ( وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) قيل : الأذن هو الذي يقبل العذر ممن اعتذر إليه ، ويسمع منه ، سواء كان له عذر أم[ في الأصل وم : أو ] لا عذر له لكرمه وشرفه وحسن خلقه . /216-ب/ فظن أولئك لما رأوه أنه كان يعاملهم معاملة أهل الكرم والشرف والمجد أنه إنما يعاملهم هذه المعاملة لسلامة قلبه وصغر همته وقصور يده ، وهم كانوا أهل كبر وأنفة ، قالوا : ( هو أذن ) نقول ما شئنا ، ثم نخلف ونعتذر إليه ، فيصدقنا ، ويقبل عذرنا .

قال الله تعالى : ( قل ) يا محمد ( أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) أي الذي يقبل العذر ويسمع ( خير لكم ) من الذي لا يقبل ولا يسمع ، فكيف تؤذونه ، وتطعنونه ، وتعيبون ، ولا تصدقون ، ولا تؤمنون به ؟ يخبر عن سفههم .

قال أبو عوسجة : الذي من قال له شيئا أو وحدثه حديثا صدقه ، واستمع منه وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق كل من قال له شيئا وحدثه حديثا ، واستمع لكرمه وشرفه ومجده وحسن خلقه لا[ أدرجت في م بعد لما ] لما ظن أولئك .

وقيل : ( وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ) أي ليسر في نفسه ويكتم ولا يكافئ من أذاه ولا يجازي .

قال الله تعالى : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) قال[ في الأصل وم : وقال ] بعضهم : ( يؤمن بالله ) أي يصدق بالله بما ينزل عليه ومن آياته ( بؤمن بالله ) أي يصدقهم في ما بينهم من شهاداتهم وإيمانهم على حقوقهم وفروجهم وأموالهم .

ويحتمل قوله : ( يؤمن بالله ) يصدقه بما يخبره من سر المنافقين وما استكتموه منه من الكيد له والمنكر به ( يؤمن للمؤمنين ) بما يخبرونه من قِيل أولئك المنافقين من الطعن فيه والعيب عليه . والإيمان[ في الأصل : والإيمان بآخر ، في م : ولا إيمان بآخر ] : هو التصديق بجميع[ من م ، في الأصل : جميع ] ما فيه ، والإيمان له من خَبره وحديثه .

وقوله تعالى : ( ويؤمن للمؤمنين ) في ما يشهدون في ما يشهدون في الآخرة له بالتبليغ إليهم كقوله : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ )[ الأعراف : 6 ] ويكون قوله ( ويؤمن للمؤمنين ) أي يؤمن بالمؤمنين فيما بينهم بالأخوة في الدين كقوله : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ )[ التوبة : 11 ] .

وقوله تعالى : ( ورحمة للذين آمنوا ) كان صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين لما استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ومن الهلاك إلى النجاة ؛ يشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا .

[ وقوله تعالى ][ ساقطة من الأصل وم ] : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة بقية من الآية الأولى .

وقوله تعالى : ( والغارمين ) جعل الله الغارم موضعا للصدقة وهو الذي عليه الدين و الغرم من أي وجه لحقه على ذلك . روي في الخبر عن نبي الله [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «إن المسألة لا تحل لغني إلا بإحدى ثلاث[ في الأصل : إلا بإحدى ثلاث من ، في م : إلا إحدى ثلاث من ] : فقر مدقع أو غرم مفظع أو لذي دم موجع »[ بنحوه الترمذي653 ] وفي بعض الأخبار «أن الصدقة لا [ تحل لغني إلا لخمسة : لعامل ][ في الأصل وم : يحل إلا لخمس للعامل ] عليها أو رجل اشتراها أو غارم أو غاز في سبيل الله [ أو مسكين تُصُدِّق عليه منها ، فأهدى منها لغني ][ ساقطة من الأصل وم ] »[ بنحوه ابن ماجه1841 ] .

وروي عن الحسن والحسين وابن عمر وابن جعفر أن رجلا سألهم شيئا ، فقالوا : إن كانت مسألتك في إحدى ثلاث فقد وجب حقك : في فقر مذقع أو غرم مفظع أو دم موجع .

هذه الأخبار كلها تدل على أن الغارم موضع للصدقة ؛ قل دينه أو كثر . فإن قيل في الخبر : أو غرم مفظع : قيل لا خلاف بينهم في أن من دينه غير مفظع فله أن يأخذ بقدر دينه من الصدقة . فهذا يدل أن الذي روي في الخبر إنما هو لكراهم المسألة لا على التحريم . وهكذا نقول : إن المسألة لا تحل له إذا كان غرمه غير مفظع ، ولكن يحل وضعه فيه وأخذه له .

وقوله تعالى : ( وفي سبيل الله ) هو ما ذكرنا أنه المنقطع عن ماله جعله الله موضع للصدقة . فإن كان غنيا في مقامه للحاجة التي بدت له . وعلى ذلك روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله وابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له »[ أبو داوود1635 ] .

وفي بعض الأخبار عنه ما ذكرنا[ ساقطة من الأصل وم ] قال : «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » وفيه «أو فقير تصدق عليه فأهداها للغني »[ أبو داوود1665 ] وقد يكون الرجل غنيا بأن يكون له دار يسكنها ومتاع تهيأه[ في الأصل وم : يتهياء ] وثياب ، عزم على الخروج في سفر غزو ، احتاج إلى [ في الأصل وم : من ] آلات سفره وسلاح يستعمله في غزوه ومركب يغزو عليه وخادم ليستغني بخدمته ما[ أدرج قبلها في الأصل وم : إلى ] لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته ، فيجوز أن يعطى من الصدقة ما يستغني به في حوائجه التي يحدثها سفره[ في الأصل وم : لسفره ] .

فهو في مقامه غني بما يملكه لأنه غير محتاج حينئذ إلى ما وصفنا ، وهو في حال سفره غير غني فيحتمل أن يكون معنى قوله : «لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله » على من كان غنيا في حال مقامه فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره لما أحدث السفر له من الحاجة .

ألا ترى أن الرجل قد يكون له المتاع لا يحتاج إليه والدابة لا يركبها فإذا صار ذلك مئتي درهم لم يجز له أن يأخذ من الزكاة ، فإن عرض له مرض أو سفر ، فاحتاج إلى دابة ليركبها فإنه[ الفاء ساقطة من الأصل وم ] يخرج من الغنى بما حدث له من الحاجة إلى الركوب ، وكان له أن يأخذ من الصدقة عندنا لا يستغني عما هو له ، وإنما الغني من استغنى عما يملكه ؟ .

فكذلك الغارم على العرف قد تحدث له الحاجة إلى أكثر مما يملكه ، ويصير[ في الأصل وم : وصار ] ممن يجوز أن يعان ، وإن كان ملكه الذي كان به غنيا قبل ذلك لم ينقص . فهذا ، والله أعلم ، يحتمل .

وابن السبيل أيضا ما ذكرنا أيضا من الخبر ألا تحل الصدقة لغني إلا لابن السبيل ومن ذكر معه .

وعلى ذلك اتفاق الأئمة[ في الأصل وم : الأمة ] ، وهو ما قيل المجتاز من أرض إلى أرض . وعن ابن عباس رضي الله عنه في تأويل قوله : ( إلا عابري سبيل ) فهو المسافر وهو ما ذكرنا أنه المنقطع عن ماله وإن كان غنيا في مقامه ، والفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة بما روي عن الحسن ابن علي رضي الله عنهما [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «للسائل حق ، وإن جاء على فرس »[ أبو داوود : 1665 ] وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «لا يسأل عبد أو أحد مسألة ، وله ما يغنيه إلا جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوحا في وجهه ، قال يا رسول الله وماذا يغنيه ؟ أو ما أغناه ؟ قال : خمسون درهما أو حسابها من الذهب »[ عن ابن مسعود أبو داوود1626 ] .

وفي بعض الأخبار : «من سأل ، وله أربعون درهما فقد ألحف »[ النسائي 5/98 ] وعن علي وعبد الله [ أنهما ][ ساقطة من الأصل وم ] قالا : لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب ، وعن عمر كذلك . وعن ابن عباس [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : «سأل رجل رسول صلى الله عليه وسلم فقال : عن لي أربعين [ في الأصل وم : أربعون ] درهما ، مستكثر أنا ؟ قال نعم »[ أبو داوود1634 ] .

وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي » وفي بعض الأخبار «لقوي مكتسب »[ أبو داوود1633 ] وإنما يحتمل قوله : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي »[ تخريجه على ][ في الأصل وم : خرج عن ] الزجر عن العرض على الصدقة والمسألة عليها .

وروي عن سلمان أنه حمل إلى رسول الله صدقة ، فقال لأصحابه : كلوا ، ولم يأكل هو ، ولا يتوهم متوهم أن أصحابه كانوا زمنى ، فهذا يبين أن النبي أراد الزجر عن المسألة والتعرض لها في حال الضرورة لا على التحريم له ، وأن من أخذها وله أقل من مئتين درهم أو قيمتها ، فله في ما يملك سداد من عيش ، فذلك مكروه .

ألا ترى أنه روي عن الحسن أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم /217-أ/ يأخذون الصدقة ، ولأحدهم من السلاح والقراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم ، فهذا حسن ، والتعفف عنها أحسن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله »[ النسائي 5/98 ] . وقوله : «لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس شيئا أعطوه أو منعوه »[ البخاري1471 ] .