المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

212- وإنّ السبب في الانحراف والكفر هو طلب الدنيا ، فقد زين للذين كفروا شهوات الحياة الدنيا فمضوا يسخرون من الذين آمنوا لانشغالهم بالحياة الآخرة ، والله جاعل الذين آمنوا أعلى مكاناً منهم في الآخرة . فأما توفر المال وزينة الحياة الدنيا لدى الكفار فلا تدل على أفضليتهم ، لأن رزق الله لا يُقدَّر على حساب الإيمان والكفر بل يجرى تبعاً لمشيئته ، فمن الناس من يزاد له في الرزق استدراجاً ومنهم من يقتر عليه اختباراً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

وبعد أن ذكر القرآن حال من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ، أتبعه بذكر الأسباب التي حملت أولئك الأشقياء على البقاء في كفرهم وجحودهم فقال - تعالى - : { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } .

. . الآية .

التزيين : جعل الشيء زينا أي ، شديد الحسن . والحياة نائب فاعل ، زين ، ولم تلحق تاء التأنيث بالفعل لأن نائب الفاعل مجازي التأنيث ولوجود الفاصل بين الفعل ونائب الفاعل .

والمعنى ، أن الحياة الدنيا قد زينت للكافرين فأحبوها وتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار ، وصارت متعها وشهواتها كل تفكيرهم ، أما الآخرة فلم يفكروا فيها ، ولم يهيئوا أنفسهم للقائها .

قال القرطبي : والمزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر ، ويزينها أيضاً للشيطان بوسوسته وإغوائه وخص الين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها . وقد جعل الله ما على الأرض زينة لهاليبلو الخلق أيهم أحسن عملا ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها " .

وقوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين } معطوف على جملة { زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ . . . } .

أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهم يسخرون وتكون الواو للحال .

ويسخرون : يضحكون ويهزأون . يقال . سخرت منه وسخرت به وضحكت منه وضحكت به .

أي أن الذين كفروا لا يكتفون بحبهم الشديد لزينة الدنيا وشهواتها وإنما هم بجانب ذلك يسخرون من المؤمنين لزهد هم في متع الحياة ، لأن الكفار يعتقدون أن ما يمضى من حياتهم في غير متعة فهو ضياع منها ، وأنهم لن يبعثوا ولن يحاسبوا على ما فعلوه في دنياهم ، أما المؤمنون فهم يتطلعون إلى نعيم الآخرة الذي هو أسمى وأبقى من نعيم الدنيا .

وجيء بقوله : { زُيِّنَ } ماضيا للدالة على أنه قد وقع وفرغ منه . وجيء بقوله { وَيَسْخَرُونَ } مضارعاً للدالة على تجدد سخريتهم من المؤمنين وحدوثها بين وقت آخر . قال - تعالى - : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . . . } وقد ذكر بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآية رويات منها : أنها نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وحزبه ، كانوا يتنعمون في الدنيا أو يسخرون من ضعفاء المؤمنين وفقراء المهاجرين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى الله عليه وسلم أنه يغلب بهم . ومنها . أنها نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعمار وخاببا وابن مسعود وغيرهم بسبب ما كانوا فيه من الفقر والصبر على البلاء . والحق أنه لا مانع من نزولها في شأن كل الكافرين الذين يسخرون من المؤمنين .

وقوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } رد منه - سبحانه - على هؤلاء الكفار الذين يسخرون من المؤمنين ، والذين يرون أنفسهم أنهم في زينتهم ولذاتهم أفضل من المؤمنين في نزاهتهم وصبرهم على بأساء الحياة وضرائها .

أي ، والذين اتقوا الله - تعالى - وصانوا أنفسهم عن كل سوء فوق أولئك الكافرين مكانة ومكانا يوم القيامة ، لأن تقواهم قد رفعتهم إلى أعلى عليين ، أما الذين كفروا فإن كفرهم قد هبط بهم إلأى النار وبئس القرار .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قال { مِنَ الذين آمَنُواْ } ثم قال : { والذين اتقوا } ؟ قلت : ليريك أنه لا يسعد عنده إلا المؤمن التقى ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك .

وقيدت الفوقية بيوم القيامة للننصيص على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية ، ولإِدخال السرور والتسلية على قلوب المؤمنين حتى لا يتسرب اليأس إلى قلوبهم بسبب إيذاء الكافرين لهم في الدنيا .

وقوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } تذييل قصد به تشريف المؤمنين ، وبيان عظم ثوابهم .

أي : والله يرزق من يشاء بغير حساب من المرزوق . أو بلا حصر وعد لما يعطيه . أو أنه لا يخاف نفاد ما في خزائنه حتى يحتاج إلى حساب لما يخرج منها . فهو - سبحانه - الذي يعطي ويمنع ، وليس عطاؤه في الدنيا دليل رضاه عن المعطي فقد يعطي الكافر وهو غير راض عنه ، أما عطاؤه في الآخرة فهو دليل رضاه عمن أعطاه .

قال الأستاذ الإِمام : إن الرزق بلا حساب ولا سعي في الدنيا إنما يصح بالنسبة إلى الأفراد ، فإنك ترى كثيراً من الأبرار وكثيراً من الفجار أغنياء موسرين متمتعين بسعة الرزق ، وكثيراً من الفريقين فقراء معسرين ، والمتقى يكون دائماً أسعد حالاً وأكثر احتمالا ، ومحلا لعناية الله به فلا يؤلمه الفقر كما يؤلمه الفاجر لأنه يجد في التقوى مخرجاً من كل ضيق . . . وأما الأمم فأمرها على غير هذا ، فإن الأمة التي ترونها فقيرة ذليلة لا يمكن أن تكون متقية لأسباب نقم الله وسخطه . . وليس من سنة الله أن يرزق الأمة العزة والثروة وهي لا تعمل ، وإنما يعطيها بعملها ويسلبها بزللها . . " .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها ، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعله ، ويدل عليه قراءة { زين } على البناء للفاعل ، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض .

{ ويسخرون من الذين آمنوا } يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب ، أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى ، ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين ، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة ، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا ، وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا ، ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى . { والله يرزق من يشاء } في الدارين . { بغير حساب } بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 212 )

وقوله تعالى : { زين للذين كفروا الحياة الدنيا } المزين هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر( {[1969]} ) ، ويزينها أيضاً الشيطان بوسوسته وإغوائه ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وأبو حيوة «زَيَن » على بناء الفعل للفاعل( {[1970]} ) ونصب «الحياة » ، وقرأ ابن أبي عبلة «زينت » بإظهار العلامة ، والقراءة دون علامة هي للحائل ولكون التأنيث غير حقيقي( {[1971]} ) ، وخص الذين كفروا بالذكر بقبولهم التزيين جملة وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة سببها ، والتزيين من الله تعالى واقع للكل ، وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً ، فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم( {[1972]} ) لأنهم لا يعتقدون غيرها ، وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال : «اللهم إنّا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا » .

وقوله تعالى : { ويسخرون } إشارة إلى كفار قريش لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم كبلال وصهيب وابن مسعود وغيرهم ، فذكر الله قبيح فعلهم ونبه على خفض منزلتهم بقوله : { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } ، ومعنى الفوق هنا في الدرجة والقدر( {[1973]} ) فهي تقتضي التفضيل وإن لم يكن للكفار من القدر نصيب ، كما قال تعالى :

{ أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً }( {[1974]} ) [ الفرقان : 24 ] ، وتحتمل الآية أن المتقين هم في الآخر في التنعم والفوز بالرحمة فوق ما هم هؤلاء فيه في دنياهم ، وكذلك خير مستقراً من هؤلاء في نعمة الدنيا ، فعلى هذا الاحتمال وقع التفضيل في أمر فيه اشتراك( {[1975]} ) ، وتحتمل هذه الآية أن يراد بالفوق المكان من حيث الجنة في السماء والنار في أسفل السافلين ، فيعلم من ترتيب الأمكنة أن هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، وتحتمل الآيتان( {[1976]} ) أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار ، فإنهم كانوا يقولون : وإن كان معاد فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم ، ومنه حديث خباب مع العاصي بن وائل( {[1977]} ) ، وهذا كله من التحميلات( {[1978]} ) حفظ لمذهب سيبويه والخليل في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك .

وقوله تعالى : { والله يزرق من يشاء بغير حساب } يحتمل أن يكون المعنى : والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا فلا تستعظموا ذلك ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان بأن يحسب لهذا عمله ولهذا عمله فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال ومجازاتها محاسبة ومعادة إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ، فالمعنى أن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا فهو فوق يوم القيامة ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى أن الله يرزق هؤلاء المستضعفين علو المنزلة بكونهم فوق ، وما في ضمن ذلك من النعيم بغير حساب ، فالآية تنبيه على عظم النعمة عليهم وجعل رزقهم بغير حساب ، حيث هو دائم لا يتناهى ، فهو لا ينفد ، ويحتمل أن يكون { بغير حساب } صفة لرزق الله تعالى كيف تصرف ، إذ هو جلت قدرته لا ينفق بعد ، ففضله كله بغير حساب ، ويحتمل أن يكون المعنى في الآية من حيث لا يحتسب( {[1979]} ) هذا الذي يشاؤه الله ، كأنه قال بغير احتساب من المرزوقين ، كما قال تعالى : { ويرزقه من حيث لا يحتسب }( {[1980]} ) [ الطلاق : 3 ] ، وإن اعترض معترض على هذه الآية بقوله تعالى : { عطاء حساباً } [ النبأ : 36 ] ، فالمعنى في ذلك محسباً( {[1981]} ) ، ، وأيضاً فلو كان عداً لكان الحساب في الجزاء والمثوبة لأنها معادَّة( {[1982]} ) وغير الحساب في التفضل والإنعام .


[1969]:- ومعنى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى وضع في النفوس محبة الدنيا والرغبة فيها، إلا أن المؤمن يتوسط، وغيره يتجاوز الحد ويشْتطّ، ثم إن إسناد التزيين إلى الله حقيقة، وإلى غير الله مجاز، ومن الناس من يعكس الأمر كالزمخشري عافانا الله جميعا.
[1970]:- والفاعل هو الله تعالى، وقد تقدم ذكره في قوله: [فإن الله شديد العقاب].
[1971]:- وعدم وجود حائل مع كون التأنيث حقيقيا شرطان لازمان لوجوب التأنيث.
[1972]:- أي فتنتهم وسيطرت عليهم.
[1973]:- فهم في الجنة والكفار في النار. وهذا فضل عظيم، ودرجة عالية تقابلها درجة سفلى، ولصاحب كل درجة قدره.
[1974]:- قال (ح) رحمه الله: (فوق) لا تدل على التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلو، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أُضيفت إليه فيه علو، كما أن مقابلها وهو (تحت) لا يدل على تشريك في السفلية، ولا نقول إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل، يدل على ذلك استعمالها بمن في قوله تعالى: [والرَّكب أسفل منكم] كما أن أعلى كذلك، انتهى. ومفهوم هذا الكلام أن منهم من جعل (فوق) مرادفة لأفعل التفضيل، أي (أعلى)، ومنهم من لم يجعلها بمعنى اسم التفضيل وإنما تدل على مجرد العلو. والله أعلم. وقوله تعالى: (أصحاب الجنّة) من الآية (24) من سورة (الفرقان).
[1975]:- أي التنعيم في الدنيا والتنعيم في الأخرى.
[1976]:- هما: [والذين اتّقوا فوقهم يوم القيامة] [أصحاب الجنّة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا].
[1977]:- ذكر ابن عطية في معنى التفضيل هنا أربعة آراء. أولها: أن التفضيل في الدرجة والقدر. ويكفي أن المتقين في نعيم الجنة وأن الكفار في عذاب النار. ثانيها: أن التفضيل بين نعيم الآخرة الذي يعيش فيه المتقون يوم القيامة، ونعيم الدنيا الذي يعيش فيه الكفار فيها. ثالثها: أن الفوقية من حيث كون الجنة في السماء والنار في أسفل سافلين. رابعها: أن التفضيل والفوقية من حيث زعم الكفار أن ذلك لهم في الدنيا وفي الأخرى.
[1978]:- أي التأويلات، والمعنى أنهم حملوا الآية هذه التحميلات حفاظا على مذهب سيبويه والخليل وأن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، وهذا من ابن عطية رحمه الله ذهاب إلى أن (فوق) مرادفة (لأفعل التفضيل)، وقد قدمنا عن أبي (ح) أنها لمجرد العلو بقطع النظر عن الاشتراك، وأن معنى (فوق) غير معنى (أفعل)، وتأمل، وقال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في "الجواهر الحسان" – وهو مختصر ابن عطية في تفسير القرآن - «فإن تشوقت نفسك أيها الأخ إلى هذه الفوقية ونيل هذه الدرجة العالية، فارفض دنياك الدنية، وازهد فيها بالكلية، لتسلم من كل آفة وبلية، واقتد في ذلك بخير البرية»، انتهى. ومجمل القول في الدنيا انها آفة الخلق، في الانقطاع عن الحق.
[1979]:- أي من حيث لا يظن ولا يشعر كما قال تعالى: [وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون].
[1980]:- من الآية (3) من سورة (الطلاق).
[1981]:- أي كافيا، من أحسبه بمعنى أرضاه حتى قال حسبي، لا من حَسَبه بمعنى عدّه.
[1982]:- أي في الجزاء المقابل للعمل حساب، وفي التفضل والإنعام المحض لا حساب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا وَيَسۡخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ فَوۡقَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِۗ وَٱللَّهُ يَرۡزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (212)

استئناف بالرجوع إلى أحوال كفار العرب المعنيين من الآيات السابقة قصداً وتعريضاً من قوله : { هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام } [ البقرة : 210 ] ، والمحتج عليهم بقوله : { سل بني إسرائيل } [ البقرة : 211 ] استئنافاً لبيان خُلُقهم العجيب المفضي بهم إلى قلة الاكتراث بالإيمان وأهله إلى الاستمرار على الكفر وشُعبه التي سبق الحديث عنها ، فعن ابن عباس المراد : رؤساءُ قريش ، فهذا الاستئناف في معنى التعليل للأحوال الماضية ، ولأجل ذلك قطع عن الجمل السابقة لا سيما وقد حال بينه وبينها الاستطراد بقوله : { سل بني إسرائيل } [ البقرة : 211 ] الآية ، وليس المراد بالذين كفروا أهل الكتاب مِن معلن ومنافق كما روي عن مقاتل ، لأنه ليس من اصطلاح القرآن التعبير عنهم بالذين كفروا ، ولأنهم لو كانوا هم المراد لقيل زين لهم الحياة الدنيا ، لأنهم من بني إسرائيل ، ولأن قوله : { ويسخرون من الذين آمنوا } يناسب حال المشركين لا حالَ أهل الكتاب كما سيأتي .

والتزيين : جعل الشيء زْيناً أو الاحتجاج لكونه زيناً ، لأن التفعيل يأتي للجعل ويأتي للنسبة كالتعليم وكالتفسيق والتزكية ، والزَّيْن شدة الحسن .

والحياة الدنيا مراد بها ما تشتمل عليه الحياة من اللَّذَّات والملائمات والذوات الحسنة ، وهذا إطلاق مشهور للحياة وما يُرَادِفُها ؛ ففي الحديث : « مَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها » أي إلى منافع دُنيا ، وهو على حذف مضاف اشتهر حذفه .

ومعنى تزيين الحياة لهم ، إما أن ما خُلق زيناً في الدنيا قد تمكّن من نفوسهم واشتد توغلهم في استحسانه ، لأن الأشياء الزَّيْنَة هي حسنة في أعين جميع الناس فلا يختص الذين كفروا بجعلها لهم زَيْنَة كما هو مقتضى قوله : { للذين كفروا } ؛ فإن اللام تشعر بالاختصاص ، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تحسِّن ما ليس بالحسن كالأقْيسة الشِّعرية والخواطر الشهوية .

والمزيِّن على المعنى الأول هو الله تعالى إلاّ أنهم أَفرطوا في الإقبال على الزينة ، والمزيِّن على المعنى الثاني هو الشيطان ودعاته .

وحُذِف فاعل التزيين لأن المزيِّن لهم أمورٌ كثيرة : منها خلْقُ بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر ، ومنها إلقاء حُسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس ، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان بادياً ، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح ، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يُعدَّ فاعلاً للتزيين حقيقة أو عرفاً ، فلأجل ذلك طوي ذكر هذا الفاعل تجنباً للإطالة .

ويجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته ، إذ المزيِّن لهم الدنيا أمر خفي فيُحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافسُ أو التقليدُ حتى عَمُوا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذَّات أو من الأضرار المختصة المغَشَّاة بتحسين العادات الذميمة ، وحملهم على الدوام عليه ضعفُ العزائم الناشىء عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات ، ولأجل اختصاصهم بهذه الحالة دون المؤمنين ودون بعض أهل الكتاب الذين ربَّتْ الأديان فيهم عزيمة مقاومةِ دعوة النفوس الذميمة بتعريفهم ما تشتمل عليه تلك اللذات من المذمات وبأمرهم بالإقلاع عن كل ما فيه ضر عاجل أو آجل حتى يجردوها عنها إن أرادوا تناولها وينبذوا ما هو ذميمة محضة ، وراضتهم على ذلك بالبشائر والزواجر حتى صارت لهم ملكة ، فلذلك لم تزين الدنيا لهم ، لأن زينتها عندهم ومعرضة للحكم عليها بالإثبات تارة وبالنفي أخرى ، فإن من عرف ما في الأمر الزين ظاهرُه من الإضرار والقبائح انقلب زينه عنده شَينا ، خُص التزيين بهم ، إذ المراد من قوله : { زين للذين كفروا } ذمُّهم والتحذير من خلقهم ، ولهذا لزم حمل التزيين على تزييين يعد ذماً ، فلزم أن يكون المراد منه تزييناً مشوباً بما يجعل تلك الزينة مذمة ، وإلاّ فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زينُ أمرٍ ليس بمذموم إذا روعى فيه ما أوصى الله برعيه قال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] .

وقد استقريْتُ مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع : الأول ما ليس بزين أصلاً لا ذاتاً ولا صفة ، لأن جميعه ذم وأذى ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية وتخييلات شعرية كالخمر . الثاني ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضراً وأذى كالزنا . الثالث ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميماً كنجدة الظالم وقد حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة :

ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عيشة الفتــى *** وجَدِّك لم أَحْفَلْ متى قام عُوَّدِي

فمنهن سَبْقي العاذِلاَت بشَربـــة *** كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ

وتقصيرُ يوم الدَّجْنِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ *** بَبْهكَنَةٍ تحتَ الخِبَاءِ المُعَمَّــد

وكَرِّي إذا نادَى المضافُ مُجَنَّبــاً *** كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَه المُتَــوَرِّدِ

وقوله : ويسخرون من الذين آمنوا عطف على جملة { زين للذين كفروا } إلخ ، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور ؛ إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيراً من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث .

والسَخَر بفتحتين : كالفرح وقد تسكن الخاء تخفيفاً وفعله كفرح والسُّخرية الاسم ، وهو تعجب مشوب باحتقار الحال المتعجب منها ، وفعله قاصر لدلالته على وصف نفسي مثل عَجِب ، ويتعدى بمن جارَّة لصاحب الحال المتعجَّب منها فهي ابتدائية ابتداء معنوياً ، وفي لغة تعديته بالباء وهي ضعيفة .

ووجه سخريتهم بالمؤمنين أنهم احتقروا رأيهم في إعراضهم عن اللذات لامتثال أمر الرسول وأفّنوهم في ذلك ورأوهم قد أضاعوا حظوظهم وراء أوهام باطلة ، لأن الكفار اعتقدوا أن ما مضى من حياتهم في غير نعمة قد ضاع عليهم إذ لا خلود في الدنيا ولا حياة بعدها كما قال الشاعر ( أنشده شمر ) :

وأحمقُ ممن يَلْعَق الماء قال لي *** دع الخمر واشْرَب من نُقَاخٍ مبرَّد

فالسخرية ناشئة عن تزيين الحياة عندهم ولذلك يصح جعل الواو للحال ليفيد تقييد حالة التزيين بحالة السخرية ، فتتلازم الحالان ويقدر للجملة مبتدأ ، أي وهم يسخرون ، وقد قيل إن من جملة من كان الكفار يسخرون منهم بلالاً وعماراً وُصهيباً يقولون : هؤلاء المساكين تركوا الدنيا وطيباتها وتحملوا المشاق لطلب ما يسمونه بالآخرة وهي شيء باطل ، وممن كان يسخر بهم عبدُ الله بن أُبَيَ والمنافقون .

وجيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاءً لحقيْ الدلالة على أن معنيين فعل التزيين أمر مستقر فيهم ؛ لأن الماضي يدل على التحقق ، وأن معنى { يسخرون } متكرر متجدد منهم ؛ لأن المضارع يفيد التجدد ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضاً مستمر ؛ لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره ، ويعلم أن ما كان مستمراً هو أيضاً محقق ؛ لأن الفعل لا يستمر إلاّ وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه ، فيكون المعنى في الآية : زُيِّن للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا ، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثاراً لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر ؛ لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق ، ليدل على ملكةٍ واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع ، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم ، إذ لا يليق بذي المروءة السخرية بغيره ، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام ، لأن الشيء المستمر لا يكون إلاّ متحققاً .

وقوله : { والذين اتقوا فوقهم } أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا ؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عُدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذباً وتلفيقاً كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى : { أفرءيتم اللات والعزى } [ النجم : 19 ] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمداً أثنى على آلهتهم . فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني ( الذين ءَامنوا ) لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سبباً عظيماً في هذه الفوقية ، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا ، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة ، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دَوماً بين شدة الخوف وقليل الرجاء ، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام .

والفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة المفضول والمسخَّر والمملوك . وقيدت بيوم القيامة تنصيصاً على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية .

فإن قلت : كيفما كان حظ المؤمنين من كثرة التقوى وقلتها إنهم فوق الذين كفروا يوم القيامة بالإيمان والمقام مقام التنويه بفضل المؤمنين فكان الأحق بالذكر هنا وصف « الذين ءَامنوا » قلت : وأما بيان مزية التقوى الذي ذكرته فله مناسبات أخرى . قلت في الآية تعريض بأن غير المتقين لا تظخر مزيتهم يوم القيامة وإنما تظهر بعد ذلك ، لأن يوم القيامة هو مبدأ أيام الجزاء فغير المتقين لا تظهر لهم التفوق يومئذٍ ، ولا يدركه الكفار بالحس قال تعالى : { فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } [ البقرة : 24 ] نعم تظهر مزيتهم بعد انقضاء ما قُدِّر لهم من العذاب على الذنوب .

رُوي عن ابن عباس أن الآية نزلت في سادة قريش بمكة سخروا من فقراء المؤمنين وضعفائهم فأعلمهم الله أن فقراء المؤمنين خير منهم عند الله ، ووعد الله الفقراء بالرزق وفي قوله : { من يشاء } تعريض بتهديد المشركين بقطع الرزق عنهم وزوال حظوتهم .

وقوله : { والله يرزق من يشاء } إلخ تذييل قصد منه تعظيم تشريف المؤمنين يوم القيامة ، لأن التذييل لا بد أن يكون مرتبطاً بما قبله فالسامع يعلم من هذا التذييل معنى محذوفاً تقديره والذين اتقوا فوقهم فوقية عظيمة لا يحيط بها الوصف ، لأنها فوقية منحوها من فضل الله وفضلُ الله لا نهاية له ، ولأن من سخرية الذين كفروا بالذين آمنوا أنهم سخروا بفقراء المؤمنين لإقلالهم .

والحساب هنا حصر المقدار فنفي الحساب نفي لعلم مقدار الرزق ، وقد شاعت هذه الكنابة في كلام العرب كما شاع عندهم أن يقولوا يُعَدُّون بالأصابع ويحيط بها العد كناية عن القِلّة ومنه قولهم شيء لا يُحصى ولذلك صح أن ينفى الحساب هنا عن أمر لا يعقل حسابه وهو الفوقية وقال قيس بن الخطيم :

ما تمنعِي يقظي فقد تُؤْتينه *** في النَّوْم غيرَ مُصَرَّدٍ محسوبِ