ثم كشف - سبحانه - عن فساد المنافقين وضعاف الإِيمان فقال : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } أى : ليتأخرن وليتثاقلن عن الجهاد . من " بطأ " - بالتشديد - بمعنى أبطأ فهو فعل لازم . وقد يستعمل أبطأ وبطأ - بالتشديد - متعديين ، وعليه يكون المفعول هنا محذوف أى : ليبطئن غيره ويثبطه عن الخروج للجهاد فى سبيل الله .
وقد جمع المنافقون وضعاف الإِيمان بين الأمرين : فقد كانوا يتخلفون عن الجهاد فى سبيل الله وينتحلون المعاذير الكاذبة لتخلفهم ، ولا يكتفون بذلك بل يحاولون منع غيرهم عن الخروج للجهاد .
والتعبير بقوله { لَّيُبَطِّئَنَّ } تعبير فى أسمى درجات البلاغة والروعة ، لأنه يصور الحركة النفسية للمنافقين وضعاف الإِيمان وهم يشدون أنفسهم شدا ، ويقدمون رجلا ويؤخرون أخرى عندما يدعوهم داعى الجهاد إلى الخروج من أجل إعلاء كلمة الله .
وقد اشتملت الجملة الكريمة على جملة مؤكدات ، للاشعار بأن هؤلاء المنافقين لا يتركون فرصة تمردون أن يبثوا سمومهم بنشاط وإصرار ، وأنهم حريصون كل الحرص على توهين عزائم المجاهدين ، وحملهم على أن يكونوا مع القاعدين كما هو شأن المنافقين .
والمراد بقوله { مِنْكُمْ } أى من جنسكم وممن يعيشون معكم ويساكنونكم ، ويرتبطون معكم برباط القرابة ، ويتظاهرون بالإِسلام ، فلقد كان المنافقون فى المدينة تربطهم روابط متعددة بالمؤمنين الصادقين ، كما هو معروف فى التاريخ الإِسلامى .
فمثلا عبد الله بن أبى بن سلول - زعيم المنافين - كان أحد أبنائه من المؤمنين الصادقين .
وقد وجه القرآن الخطاب إلى المؤمنين لكى يكشف لهم عن المنافقين المندسين فى صفوفهم لكى يحذروهم .
قال صاحب الكشاف : واللام فى قوله { لَمَن } للابتداء بمنزلتها فى قوله { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وفى { لَّيُبَطِّئَنَّ } جواب قسم محذوف تقديره : وإن منكم لمن أقسم باللَّه ليبطئن وجوابه صلة من والضمير الراجع منها يعود إلى ما استكن فى { لَّيُبَطِّئَنَّ } . والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } بيان لما انطوت عليه نفوس المنافقين من فساد ، وما نطقت به ألسنتهم من سوء .
أى : وإن من المتظاهرين بأنهم منكم - يا معشر المؤمنين - لمن يتثاقلون عن التقال ويعملون على أن يكون غيرهم مثلهم ، { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } يا معشر المؤمنين { مُّصِيبَةٌ } كهزيمة وقتية ، أو استشهاد جماعة منكم { قَالَ } هذا المنافق على سبيل الفرح والتشفى { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ } أى : قد أكرمنى الله بالقعود { إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } أى حاضرا فى المعركة ، لأنى لو كنت حاضرا معهم لأصابنى ما أصابهم من القتل أو الجراح أو الآلام .
فالآية الكريمة تحكى عن المنافقين أنهم يعتبرون قعودهم عن الجهاد نعمة ، وإذا ما أصاب المؤمنين مصيبة عند قتالهم لأعدائهم .
وقوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } قال مجاهد وغير واحد : نزلت في المنافقين ، وقال مقاتل بن حيان : { ليبطئن } أي : ليتخلفن عن الجهاد .
ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ، ويبطئ غيره عن الجهاد ، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول - قبحه الله - يفعل ، يتأخر عن الجهاد ، ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه . وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي : قتل وشهادة وغلب العدو لكم ، لما لله في ذلك من الحكمة { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } أي : إذ لم أحضر معهم وقعة القتال ، يعد ذلك من نعم الله عليه ، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل .
وقوله : { وإنَّ مِنكم لمن ليبطّئنّ } أي من جماعتكم وعدادكم ، والخبر الوارد فيهم ظاهر منه أنَّهم ليسوا بمؤمنين في خلوتهم ، لأنّ المؤمن إن أبطأ عن الجهاد لا يقول : « قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً » ، فهؤلاء منافقون ، وقد أخبر الله عنهم بمثل هذا صراحة في آخر هذه السورة بقوله : { بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً } إلى قوله : { الذين يتربّصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } [ النساء : 138 141 ] . وعلى كون المراد ب { من ليبطّئنّ } المنافقين حمَل الآية مجاهد ، وقتادة ، وابن جريج . وقيل : أريد بهم ضعفة المؤمنين يتثاقلون عن الخروج إلى أن يتّضح أمر النصر . قال الفخر « وهذا اختيار جماعة من المفسرين » وعلى هذا فمعنى و { منكم } أي من أهل دينكم . وعلى كلا القولين فقد أكّد الخبر بأقوى المؤكّدات لأنّ هذا الخبر من شأنه أن يتلقى بالاستغراب . وبَطَّأ بالتضعيف قاصر ، بمعنى تثاقل في نفسه عن أمر ، وهو الإبطاء عن الخروج إبطاء بداعي النفاق أو الجبْن . والإخبار بذلك يستتبع الإنكار عليه ، والتعريض به ، مع كون الخبر باقياً على حقيقته لأنّ مستتبعات التراكيب لا توصف بالمجاز .
قوله : { فإن أصابتكم مصيبة } تفريع عن { ليَبطّئنّ } ، إذ هذا الإبطاء تارة يجرّ له الابتهاج بالسلامة ، وتارة يجرّ له الحسرة والندامة .
و ( المصيبَة ) اسم لما أصاب الإنسان من شرّ ، والمراد هنا مصيبة الحرب أعني الهزيمة من قتل وأسر .
ومعنى { أنعم الله عليّ } الإنعام بالسلامة : فإن كان من المنافقين فوصف ذلك بالنعمة ظاهر ؛ لأنّ القتل عندهم مصيبة محْضة إذ لا يرجون منه ثواباً ؛ وإن كان من ضعفة المؤمنين فهو قد عَدَّ نعمة البقاء أولى من نعمة فضل الشهادة لشدّة الجبن ، وهذا من تغليب الداعي الجبليّ على الداعي الشرعي .
والشهيد على الوجه الأوّل : إمّا بمعنى الحاضر المشاهد للقتال ، وإمّا تهكّم منه على المؤمنين مثل قوله : { هم الذين يقولون لا تنفقوا على مَنْ عندَ رسول الله } [ المنافقون : 7 ] ؛ وعلى الوجه الثاني الشهيد بمعناه الشرعي وهو القتيل في الجهاد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإن منكم لمن ليبطئن}: ليتخلفن النفر، نزلت في عبد الله بن أُبَيّ رأس المنافقين، {فإن أصابتكم مصيبة}: بلاء من العدو أو شدة من العيش، {قال} المنافق، {قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا}: شاهدا فيصيبني من البلاء ما أصابهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم، فقال: {وإنّ مِنْكُمْ} أيها المؤمنون، يعني: من عدادكم وقومكم ومن يتشبه بكم ويظهر أنه من أهل دعوتكم وملتكم، وهو منافق يبطئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوّكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم. {فإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيَبةٌ}: فإن أصابتكم هزيمة، أو نالكم قتل أو جراح من عدوّكم، قال: قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا، فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسرّه تخلفه عنكم شماتة بكم، لأنه من أهل الشكّ في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب وفي وعيده، فهو غير راج ثوابا ولا خائف عقابا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وإن منكم لمن ليبطئن}؛ قوله {منكم} يحتمل وجوها: يحتمل في الظاهر {منكم}، ويحتمل في الحكم {منكم} ويحتمل في الدعوى {منكم} لأنهم كانوا يدعون أنهم منا، ويظهرون الموافقة للمؤمنين، وإن كانوا في الحقيقة لم يكونوا. {ليبطئن} قيل: إن المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد، ويتخلفون كقوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منك والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا} (الأحزاب: 18) كانوا يسرون ذلك ويضمرون، فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى. وفيه دلالة إثبات رسالة محمد، صلى الله عليه وسلم.
{فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا}. {ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} (النساء: 73) (وعلى) التقديم والتأخير يسر، ويفرح: إذا أصابتهم مصيبة {كأن لم تكن بينكم وبينه مودة} لأن كل من كان بينه وبين آخر مودة إذا أصابته نكبة يحزن عليه، ويتألم. فأخبر الله عز وجل أن هؤلاء المنافقين إذا أصابت المؤمنين نكبة يسرون بذلك، ولا يحزنون، كأن لم يكن بينهم مودة ولا صحبة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِئَنَّ}: أي لم تستقر عقائدهم على وصفٍ واحد، فكانوا مرتبطين بالحظوظ؛ فإذا رأوا مكروهاً يظِلُّ المسلمين شكروا وقالوا: الحمد لله الذي حفظنا من متابعتهم فكان يصيبنا ما أصابهم، وإن كانت لكم نعمة وخير سكنوا إليكم، وتمنوا أن لو كانوا معكم، خسروا في الدنيا والآخرة: فَهُمْ لا كافرٌ قبيحٌ ولا مؤمنٌ مخلصٌ...
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: {وإن منكم} يجب أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين ذكرهم الله بقوله: {يا أيها الذين ءامنوا خذوا حذركم} واختلفوا على قولين: الأول: المراد منه المنافقون كانوا يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: قوله: {وإن منكم لمن ليبطئن} تقديره: يا أيها الذين آمنوا إن منكم لمن ليبطئن، فإذا كان هذا المبطئ منافقا فكيف جعل المنافق قسما من المؤمن في قوله: {وإن منكم}...
الأول: أنه تعالى جعل المنافق من المؤمنين من حيث الجنس والنسب والاختلاط.
الثاني: أنه تعالى جعلهم من المؤمنين بحسب الظاهر لأنهم كانوا في الظاهر متشبهين بأهل الإيمان.
الثالث: كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا في زعمكم ودعواكم كقوله: {وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر}.
القول الثاني: أن هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المؤمنين وهو اختيار جماعة من المفسرين، قالوا: والتبطئة بمعنى الإبطاء أيضا، وفائدة هذا التشديد تكرر الفعل منه...
فعلى هذا معنى الآية أن فيهم من يبطئ عن هذا الغرض ويتثاقل عن هذا الجهاد، فإذا ظفر المسلمون تمنوا أن يكونوا معهم ليأخذوا الغنيمة، وإن أصابتهم مصيبة سرهم أن كانوا متخلفين. قال: وهؤلاء هم الذين أرادهم الله بقوله: {يا أيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} قال: والذي يدل على أن المراد بقوله: {ليبطئن} الإبطاء منهم لا تثبيط غيرهم، ما حكاه تعالى من قولهم: {يا ليتني كنت معهم} عند الغنيمة، ولو كان المراد منه تثبيط الغير لم يكن لهذا الكلام معنى. وطعن القاضي في هذا القول وقال: إنه تعالى حكى عن هؤلاء المبطئين أنهم يقولون عند مصيبة المؤمنين: {قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا} فيعد قعوده عن القتال نعمة من الله تعالى، ومثل هذا الكلام إنما يليق بالمنافقين لا بالمؤمنين، وأيضا لا يليق بالمؤمنين أن يقال لهم: {كأن لم تكن بينكم وبينه} يعني الرسول: {مودة} فثبت أنه لا يمكن حمله على المؤمنين، وإنما يمكن حمله على المنافقين، ثم قال: فإن حمل على أنه من الإبطاء والتثاقل صح في المنافقين، لأنهم كانوا يتأخرون عن الجهاد ويتثاقلون ولا يسرعون إليه، وإن حمل على تثبيط الغير صح أيضا فيهم، فقد كانوا يثبطون كثيرا من المؤمنين بما يوردون عليهم من أنواع التلبيس، فكلا الوصفين موجود في المنافقين، وأكثر المفسرين حمله على تثبيط الغير، فكأنهم فصلوا بين أبطأ وبطأ، فجعلوا الأول لازما، والثاني متعديا، كما يقال في أحب وحب، فإن الأول لازم والثاني متعد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: فإن منكم الخارج إلى الجهاد عن غير حزم ولا حذر، عطف عليه قوله -مبيناً لما هو من أجلّ مقاصد هذه الآيات من تبكيت المنافقين للتحذير منهم، ووصفهم ببعض ما يخفون، مؤكداً لأن كل ما ادعى الإيمان ينكر أن يكون كذلك -: {وإن منكم} أي يا أيها الذين آمنوا وعزتنا {لمن ليبطئن} أي يتثاقل في نفسه عن الجهاد لضعفه في الإيمان أو نفاقه، ويأمر غيره بذلك أمراً مؤكداً إظهاراً للشفقة عليكم وهو عين الغش فإنه يثمر الضعف المؤدي إلى جرأة العدو المفضي إلى التلاشي.
ولما كان لمن يتثاقل عنهم حالتا نصر وكسر، وسبب عن تثاقله مقسماً لقوله فيهما: {فإن أصابتكم مصيبة} أي في وجهكم الذي قعدوا عنه {قال} ذلك القاعد جهلاً منه وغلظة {قد أنعم الله} أي الملك الأعظم، ذاكراً لهذا الاسم غير عارف بمعناه {عليّ إذ} أي حين، أو لأني {لم أكن معهم شهيداً} أي حاضراً، ويجوز أن يريد الشهيد الشرعي، ويكون إطلاقه من باب التنزل، فكأنه يقول: هذا الذي هو أعلى ما عندهم أعدُّ فواته مني نعمة عظيمة {ولئن أصابكم فضل} أي فتح وظفر وغنيمة {من الله} أي الملك الأعلى الذي كل شيء بيده.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وإن منكم لمن ليبطئن} الخطاب لمجموع المؤمنين في الظاهر وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء وهم الأقل. فالمنافقون يرغبون عن الحرب لأنهم لا يحبون بقاء الإسلام وأهله فيدافعوا عنه ويحموا بيضته، فكان هؤلاء يبطئون عن القتال ويبطئون غيرهم عن النفر إليه، والآخرون يبطئون بأنفسهم فقط. والتبطيء يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء معا، والبطء التأخر عن الانبعاث في السير.
أي يبطئ هو عن السير إبطاء لضعف في إيمانه والإتيان بصيغة التشديد للمبالغة في الفعل وتكراره وليس معناه أن يحمل غيره على البطء، فإن الخطاب للمؤمنين وهذا لا يصدر عن مؤمن. ويقال في اللغة "بطأ "بالتشديد (لازم) بمعنى أبطأ وقد شرح الله حال هذا القسم من الضعفاء توبيخا لهم وإزعاجا إلى تطهير نفوسهم وتزكيتها فقال: {فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا} فشكره لله على عدم شهوده لتلك الحرب دليل على عدم إيمانه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أخبر عن ضعفاء الإيمان المتكاسلين عن الجهاد فقال: {وَإِنَّ مِنْكُمْ} أي: أيها المؤمنون {لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} أي: يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله ضعفا وخورا وجبنا، هذا الصحيح.
وقيل معناه: ليبطئن غيرَه أي: يزهده عن القتال، وهؤلاء هم المنافقون، ولكن الأول أَولى لوجهين:
أحدهما: قوله {مِنْكُمْ} والخطاب للمؤمنين.
والثاني: قوله في آخر الآية: {كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} فإن الكفار من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة. وأيضا فإن هذا هو الواقع، فإن المؤمنين على قسمين:
صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد
وضعفاء دخلوا في الإسلام فصار معهم إيمان ضعيف لا يقوى على الجهاد.
كما قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} إلى آخر الآيات. ثم ذكر غايات هؤلاء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم، وأن معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} أي: هزيمة وقتل، وظفر الأعداء عليكم في بعض الأحوال لما لله في ذلك من الحكم. {قَالَ} ذلك المتخلف {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} رأى من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة نعمة. ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة، التي بها يقوى الإيمان، ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران، ويحصل له فيها عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب.
وأما القعود فإنه وإن استراح قليلاً، فإنه يعقبه تعب طويل وآلام عظيمة، ويفوته ما يحصل للمجاهدين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
انفروا جماعات نظامية. أو انفروا جميعا. ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم -كما هو واقع- وخذوا حذركم. لا من العدو الخارجي وحده؛ ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين؛ سواء كانوا يبطئون أنفسهم -أي يقعدون متثاقلين- أو يبطئون غيرهم معهم؛ وهو الذي يقع عادة من المخذلين المثبطين!
ولفظة (ليبطئن) مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر؛ وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدا؛ وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها. وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة.
وكذلك يشي تركيب الجملة كلها: (وإن منكم لمن ليبطئن)، بأن هؤلاء المبطئين -وهم معدودون من المسلمين- (منكم) يزاولون عملية التبطئة كاملة، ويصرون عليها إصرارا، ويجتهدون فيها اجتهادا.. وذلك بأسلوب التوكيد بشتى المؤكدات في الجملة! مما يوحي بشدة إصرار هذه المجموعة على التبطئة، وشدة أثرها في الصف المسلم؛ وشدة ما يلقاه منها!
ومن ثم يسلط السياق الأضواء الكاشفة عليهم، وعلى دخيلة نفوسهم؛ ويرسم حقيقتهم المنفرة، على طريقة القرآن التصويرية العجيبة:
فها هم أولاء، بكل بواعثهم، وبكل طبيعتهم وبكل أعمالهم وأقوالهم.. ها هم أولاء مكشوفين للأعين، كما لو كانوا قد وضعوا تحت مجهر، يكشف النوايا والسرائر؛ ويكشف البواعث والدوافع.
ها هم أولاء -كما كانوا على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وكما يكونون في كل زمان وكل مكان. ها هم أولاء. ضعافا منافقين ملتوين؛ صغار الاهتمامات أيضا: لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر، ولا أفقا أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة. فهم يديرون الدنيا كلها على محور واحد. وهم هم هذا المحور الذي لا ينسونه لحظة!
إنهم يبطئون ويتلكأون، ولا يصارحون، ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال! وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار:
يتخلفون عن المعركة.. فإن أصابت المجاهدين محنة، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهدين- في بعض الأحايين -فرح المتخلفون؛ وحسبوا أن فرارهم من الجهاد، ونجاتهم من الابتلاء نعمة:
(فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا)..
إنهم لا يخجلون- وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة -أن ينسبوها لله. الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا! والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبدا. فنعمة الله لا تنال بالمخالفة. ولو كان ظاهرها نجاة!
إنها نعمة! ولكن عند الذين لا يتعاملون مع الله. عند من لا يدركون لماذا خلقهم الله. ولا يعبدون الله بالطاعة والجهاد لتحقيق منهجه في الحياة. نعمة عند من لا يتطلعون إلى آفاق أعلى من مواطئ الأقدام في هذه الأرض.. كالنمال.. نعمة عند من لا يحسون أن البلاء- في سبيل الله وفي الجهاد لتحقيق منهج الله وإعلاء كلمة الله -هو فضل واختيار من الله، يختص به من يشاء من عباده؛ ليرفعهم في الحياة الدنيا على ضعفهم البشري، ويطلقهم من إسار الأرض يستشرفون حياة رفيعة، يملكونها ولا تملكهم. وليؤهلهم بهذا الانطلاق وذلك الارتفاع للقرب منه في الآخرة.. في منازل الشهداء..
إن الناس كلهم يموتون! ولكن الشهداء- في سبيل الله -هم وحدهم الذين "يستشهدون".. وهذا فضل من الله عظيم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {وإنَّ مِنكم لمن ليبطّئنّ} أي من جماعتكم وعدادكم، والخبر الوارد فيهم ظاهر منه أنَّهم ليسوا بمؤمنين في خلوتهم، لأنّ المؤمن إن أبطأ عن الجهاد لا يقول: « قد أنعم الله عليَّ إذ لم أكن معهم شهيداً»، فهؤلاء منافقون، وقد أخبر الله عنهم بمثل هذا صراحة في آخر هذه السورة بقوله: {بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً} إلى قوله: {الذين يتربّصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين} [النساء: 138 141]. وعلى كون المراد ب {من ليبطّئنّ} المنافقين حمَل الآية مجاهد، وقتادة، وابن جريج. وقيل: أريد بهم ضعفة المؤمنين يتثاقلون عن الخروج إلى أن يتّضح أمر النصر. قال الفخر « وهذا اختيار جماعة من المفسرين» وعلى هذا فمعنى و {منكم} أي من أهل دينكم. وعلى كلا القولين فقد أكّد الخبر بأقوى المؤكّدات لأنّ هذا الخبر من شأنه أن يتلقى بالاستغراب. وبَطَّأ بالتضعيف قاصر، بمعنى تثاقل في نفسه عن أمر، وهو الإبطاء عن الخروج إبطاء بداعي النفاق أو الجبْن. والإخبار بذلك يستتبع الإنكار عليه، والتعريض به، مع كون الخبر باقياً على حقيقته لأنّ مستتبعات التراكيب لا توصف بالمجاز...
قوله: {فإن أصابتكم مصيبة} تفريع عن {ليَبطّئنّ}، إذ هذا الإبطاء تارة يجرّ له الابتهاج بالسلامة، وتارة يجرّ له الحسرة والندامة. و (المصيبَة) اسم لما أصاب الإنسان من شرّ، والمراد هنا مصيبة الحرب أعني الهزيمة من قتل وأسر. ومعنى {أنعم الله عليّ} الإنعام بالسلامة: فإن كان من المنافقين فوصف ذلك بالنعمة ظاهر؛ لأنّ القتل عندهم مصيبة محْضة إذ لا يرجون منه ثواباً؛ وإن كان من ضعفة المؤمنين فهو قد عَدَّ نعمة البقاء أولى من نعمة فضل الشهادة لشدّة الجبن، وهذا من تغليب الداعي الجبليّ على الداعي الشرعي. والشهيد على الوجه الأوّل: إمّا بمعنى الحاضر المشاهد للقتال، وإمّا تهكّم منه على المؤمنين مثل قوله: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على مَنْ عندَ رسول الله} [المنافقون: 7]؛ وعلى الوجه الثاني الشهيد بمعناه الشرعي وهو القتيل في الجهاد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
المقابلة بين المؤمنين والمنافقين:
ويتحدث القرآن عن بعض الفئات التي تعيش الضعف في الموقف، بين فئةٍ تعاني من ضعف الإيمان والإرادة، وبين فئة تعيش النفاق في داخلها، في الوقت الذي تعيش في مجتمع المؤمنين كأية فئة منهم...
{وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} وخلاصة موقفهم أنهم لا ينفرون مع النافرين، بل يتباطؤون متعلّلين ببعض الأعذار التي تبرر لهم ذلك، حتى يخرج الجميع وتفوتهم الفرصة التي أرادوا أن تفوتهم، {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} فإذا رجع المؤمنون من الجهاد وكانوا في موقع الهزيمة أو الفشل أو القتل في ما عبّر عنه القرآن بالمصيبة قال هؤلاء الناس، كما لو كانوا يتحدثون عن نعمة من نعم الله عليهم: {قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ} لأننا لم نشهد المعركة، {إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} فلم نصب بما أصيبوا به من قتل أو جرح أو نحو ذلك، من دون أن يلتفتوا إلى الآفاق الروحية التي يعيش فيها المؤمنون الصادقون المجاهدون، الذين يعتبرون القتل والجهد والجرح في سبيل الله ربحاً وسعادةً، ينالون من خلالها رضا الله في الدنيا والآخرة، وذلك جزاء المحسنين. فليست قصة الحياة لدى المؤمنين، قصة استمتاع ولذة وامتياز، ولكنها قصة مسؤولية ومعاناة وجهاد؛ فقد اشترى الله منهم أنفسهم أن يبذلوها في سبيله، في أي موقع من مواقع العمل والجهاد المرّ...