{ إِذْ قَالَتِ الملائكة يا مريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } .
وهذه الجملة الكريمة بدل اشتمال من جملة { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يا مريم إِنَّ الله اصطفاك } . . الخ قالوا : ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريراً لما سبق ؛ وتنبيها على استقلاله .
والظرف { وَإِذْ } معمول لمحذوف تقديره اذكر ، أى اذكر وقت أن قالت الملائكة لمريم ، يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه .
وقوله يبشرك { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أى يبشرك بمولود يحصل بكلمة منه - سبحانه - وسمى هذا المولود كلمة لأنه وجد بكلمة كن فهو من باب إطلاق السبب على المسبب .
والمراد أنه وجد من غير واسطة أب ، لأن غيره وإن وجد بتلك الكلمة لكنه بواسطة أب ، أى أنه - سبحانه - إذا كان قد خلق الناس بطريق التناسل عن ذكر وأنثى وأخرج الأولاد من أصلاب الآباء ، فإن عيسى - عليه السلام - لم يكن كذلك ، بل خلقه الله - تعالى - خلقا آخر ، خلقه { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } وهى " كن " فكان كما أراده الله و " من " فى قوله " منه " لابتداء الغاية والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لكلمة : أى بكلمة كائنة منه .
فالمراد بقوله " كلمة " أى يبشر بولد حى يسرى عليه حكم الأحياء اسمه المسيح عيسى ابن مريم وعلى هذا التأويل سار كثير من المفسرين .
ورجح ابن جرير أن معنى { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } ببشرى منه - سبحانه - فقد قال : وقوله " بكلمة منه " يعنى برسالة من الله وخير من عنده وهو من قول القائل : ألقى إلى فلان كلمة سرني بها بمعنى أخبرني خبرا فرحت به . . فتأويل الكلام : وما كنت يا محمد عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده ، هى ولدك اسمه المسيح عيسى ابن مريم " .
وعلى كلا التأويلين ففى التعبير عن عيسى - عليه السلام - بأنه كلمة من الله تكريم له وتشريف ، وقوله { اسمه المسيح } مبتدأ وخبر ، والجملة نعت . والضمير في قوله { اسمه } يعود إلى كلمة . وجاء مذكراً رعاية للمعنى لأننا سبق بينا أن المراد بها عند كثير من المفسرين الولد .
والمسيح : لقب من الألقاب المشرفة كالصديق والفاروق ، وأصله مشيحاً بالعبرانية ومعناه المبارك . وقد حكى الله - تعالى - أنه قال عن نفسه
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً } وقيل المسيح فعيل بمعنى فاعل ، للمبالغة في مسحه الأرض بالسياحة للعبادة : أو مسحه ذا العاهة ليبرأ . أو بمعنى مفعول أي ممسوح لأن الله مسحه بالطهر من الذنوب .
وعيسى : اسم لهذا الاسم الكريم ، وهو اسم ينبىء عن البياض والصفاء والنقاء .
قال الراغب : عيسى اسم علم ، وإذا جعل عربياً أمكن أن يكون من قولهم بعيراً عيسى وناقة عيساء وجمعها عيس وهى أبل بيض يعتري بياضها بعض الظلمة " أى فيها أغبرار قليل يعطى بياضها صفاء ونقاء وجمالا .
وابن مريم : هو كنيته ، وهي للإشارة إلى أن نسبه ثاتب لأمه لا لأحد سواها وليس ابنا لله - تعالى - كما قال الضالون .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم قيل عيسى بن مريم والخطاب لمريم ؟ قلت : لأن الأبناء ينسبون إلى الأباء لا إلى الأمهات ، فأعلمت بنسبه إليها أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إلى أمه . وبذلك فضلت واصطفيت على نساء العالمين : فإن قلت لم ذكر ضمير الكلمة . قلت لأن المسمى بها مذكر . فإن قلت : لم قيل اسمه المسيح عيسى بن مريم وهذه ثلاثة أشياء : الاسم منها عيسى وأما المسيح والابن فلقب وصفة ؟ قلت : الاسم المسمى علامة يعرف بها ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذى يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة " .
والمعنى الإجمالي للجملة الكريمة : اذكر يا محمد وقت أن قالت الملائكة لمريم : يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه أى بمولود يحصل بكلمة منه بلا واسطة أب ، هذا المولود العجيب اسمه الذى يميزه لقبا المسيح ويميزه علماً عيسى ويميزه كنبة ابن مريم .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد عرف هذا المولود العظيم بتعريف واحد جمع ثلاثة أمور كل واحد منها يشيى إلى معنى كريم قد تحقق فى هذا النبى العظيم ومجموع هذه الأمور لا يشاركه فيها أحد من البشر ، ثم بعد ذلك وصفه - سبحانه - بأربعة أوصاف تدل على فضله وعلو منزلته فقال - تعالى - { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً وَمِنَ الصالحين } .
أما الصفة الأولى فهي قوله - تعالى - : { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة } أى ذا جاه وشرف ومنزلة عالية . يقال وجه الرجل يوجه - من باب ظرف - وجاهة فهو وجيه إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس . واشتقاقه من الوجه لأنه أشرف الأعضاء ولأنه هو الذى يواجه الإنسان به غيره .
وعيسى عليه السلام ، شهد الله تعالى له ، - وكفى بالله شهيداً - شهد له بالوجاهة وسمو المنزلة في الدنيا والآخرة لما له من آثار عظيمة فى هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور ، ودعوتهم إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق ، وإقامة التوراة بعد أن اختلفوا فيها .
والصفة الثانية من صفاته أنه من { المقربين } أى أنه من المقربين عند الله - تعالى -
هذه بشارة من الملائكة لمريم ، عليها السلام ، بأن سيوجد منها ولد عظيم ، له شأن كبير . قال الله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } أي : بولد يكون وجوده بكلمة من الله ، أي : بقوله له : " كن " فيكون ، وهذا تفسير قوله : { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } [ آل عمران : 39 ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه { اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } أي يكون مشهورًا بهذا في الدنيا ، يعرفه المؤمنون بذلك .
وسمي المسيح ، قال بعض السلف : لكثرة سياحته . وقيل : لأنه كان مسيح{[5038]} القدمين : [ أي ]{[5039]} لا أخْمَص لهما . وقيل : لأنه [ كان ]{[5040]} إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى .
وقوله : { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } نسبة له إلى أمه ، حيث لا أب له { وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } أي : له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا ، بما يوحيه الله إليه من الشريعة ، وينزل{[5041]} عليه من الكتاب ، وغير ذلك مما منحه به ، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه ، فيقبل منه ، أسوة بإخوانه{[5042]} من أولي العزم ، صلوات الله عليهم .
بدل اشتمال من جملة { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك } [ آل عمران : 42 ] قصد منه التكرير لتكميل المقُول بعد الجمل المعترضة . ولكونه بدلاً لم يعطف على إذْ قالت الأولِ . وتقدّم الكلام على يُبشرك .
والكلمة مراد بها كلمة التكوين وهي تعلق القدرة التنجيزي كما في حديث خلق الإنسان من قوله : « ويؤمر بأرْبَع كَلِمَات بكتب رزقه وأجله » إلخ .
ووصف عيسى بكلمة مراد به كلمة خاصة مخالفة للمعتاد في تكوين الجنين أي بدون الأسباب المعتادة .
وقوله : { منه } مِن للابتداء المجازي أي بدون واسطة أسباب النسل المعتادة وقد دلّ على ذلك قوله : { إذا قضى أمراً } [ البقرة : 117 ] .
وقوله : { اسمه المسيح عيسى ابن مريم } عبر عن العَلَم واللقَب والوصفِ بالاسم . لأنّ لثلاثتها أثراً في تمييز المسمّى . فأما اللقب والعلم فظاهر . وأما الوصف المفيد للنسب فلأنّ السامعين تعارفوا ذكر اسم الأب في ذكر الأعلام للتمييز وهو المتعارف ، وتذكر الأمّ في النسب إما للجهل بالأب كقول بعضهم : زياد بن سُمَيةَ قبل أن يُلْحق بأبي سفيان في زمنِ معاويةَ بن أبي سفيان ، وإما لأنّ لأمّه مفخراً عظيماً كقولهم : عَمْرو ابن هند ، وهو عمرو بن المنذر ملكُ العرب .
والمسيح كلمة عبرانية بمعنى الوصف . ونقلت إلى العربية علماً بالغلبة على عيسى وقد سمى متنصرة العرب بعضَ أبنائهم « عبد المسيح » وأصلها مَسِّيِّح بميم مفتوحة ثم سين مهملة مكسورة مشدّدة ثم ياء مثنّاة مكسورة مشدّدة ثم حاء مهملة ساكنة ونطق به بعض العرب بوزن سِكِّين .
ومعنى مسيح ممسوح بدهن المَسْحة وهو الزيت المعطّر الذي أمر الله موسى أن يتّخذه ليسكبه على رأس أخيه هارون حينما جعله كاهناً لبني إسرائيل ، وصارت كهنة بني إسرائيل يمسحون بمثله من يملِّكونهم عليهم من عهد شاول الملِك ، فصار المسيح عندهم بمعنى المَلِك : ففي أول سفر صمويل الثاني من كتب العهد القديم قال داود للذي أتاه بتاج شاول الملك المعروف عند العرب بطالوت « كيف لم تخف أن تمدّ يدك لتهلك مسيح الرب » .
فيحتمل أنّ عيسى سمّي بهذا الوصف كما يُسَمّون بمَلِك ويحتمل أنه لقبٌ لقبه به اليهود تهكماً عليه إذ اتهموه بأنه يحاول أن يصير ملكاً على إسرائيل ثم غَلب عليه إطلاق هذا الوصف بينهم واشتهر بعد ذلك ، فلذلك سمي به في القرآن .
والوجيه ذو الوجاهة وهي : التقدّم على الأمثال ، والكرامةُ بين القوم ، وهي وصف مشتق من الوَجْه للإنسان وهو أفضل أعضائه الظاهرة منه ، وأجمعها لوسائل الإدراك وتصريف الأعمال ، فأطلق الوجه على أول الشيء على طريقة الاستعارة الشائعة فيقال : وجهُ النهار لأول النهار قال تعالى : { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفُروا آخرَه } [ آل عمران : 72 ] وقال الربيع بن زياد العبسي :
مَن كان مسروراً بمقتل مالك *** فليأتِ نسوتنا بوجه نهار
* ولاَح لهم وَجْهَ العَشِيَّاتِ سَمْلَقُ *
ويقولون : هو وَجْه القوم أي سيّدهم والمقدّم بينهم . واشتق من هذا الاسم فعل وَجُه بضم الجيم ككَرُم فجاء منه وَجيه صفةً مشبّهة ، فوجيه الناس المكرّم بينهم ، ومقبول الكلمة فيهم ، قال تعالى في وصف موسى عليه السلام : { وكان عند اللَّه وجيهاً } .