179- ما كان اللَّه ليترككم - يا معشر المؤمنين - على ما أنتم عليه من اختلاط المؤمن بالمنافق ، حتى يميز بينكم بالمحنة والتكليف لتروا المنافق الخبيث والمؤمن الطيب ، ولم تجر سنة اللَّه بإطلاع أحد من خلقه على شيء من غيبه ، ولكن اللَّه يصطفي من يشاء بإطلاعه على ما يشاء من غيبه ، وإن تؤمنوا وتتقوا ربكم بالتزام طاعته يدخلكم الجنة جزاء ، ونعم الجزاء إذ هي جزاء عظيم .
ثم بين - سبحانه - بعض الحكم التى اشتملت عليها غزوة أحد فقال - تعالى - { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } .
وقوله { لِيَذَرَ } أى ليترك . والمراد بالمؤمنين : المخلصون الذين صدقوا فى إيمانهم والمراد بقوله { على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أى اختلاط المؤمنين بالمنافقين واستواؤهم فى إجراء الأحكام .
ومعنى يميز يفصل . وقرىء يميز أن يحدد ويبين .
والمراد بالخبيث : المنافق ومن على شاكلته من ضعاف الإيمان .
والمراد بالطيب : الصادق فى إيمانه .
والمعنى : ليس من شأن الله - تعالى - ولا من حكمته وسنته فى خلقه أن يترككم أيها المؤمنون على ما أنتم عليه من الالتباس واختلاط المنافقين بكم ، بل الذى من شأنه وسنته أن يبتليكم ويمتحنكم بألوان من المصائب والشدائد حتى يتميز المؤمنون من المنافقين ، وينفصل الأخيار عن الأشرار .
قال ابن كثير : أى لا بد أن يعقد سبباً من المحنة ، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ، يعنى بذلك يوم أحد الذى امتحن الله به المؤمنين فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله لرسوله وهتك به ستار المنافقين ، فظهرت مخالفتهم ، ونكولهم عن الجهاد ، وخيانتهم لله ولرسوله . قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد " .
وعبر - سبحانه - عن المؤمن بالطيب ، وعن المنافق بالخبيث ، ليسجل على كل منهما ما يليق به من الأوصاف ، وللإشعار بعلة الحكم .
وقوله { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } معطوف على قوله { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } .
والغيب : ضد المشاهد . وهو كل ما غاب عن الحواس ولا تمطن معرفته إلا عن طريق الوحى من الله - تعالى - على رسوله صلى الله عليه وسلم .
واجتبى : من الاجتباء بمعنى الاختيار والاصطفاء .
أى : وما كان الله - تعالى - ليعطى أحدا منكم - معشر المؤمنين - علم الغيوب الذى به تعرفون المؤمن من المنافق ، إذ علم ذلك له وحده ، ولكنه - سبحانه - يصطفى من رسله من يريد اصطفاءه فيطلعه على بعض الغيوب ، وأطلعه على حال تلك المرأة التى أرسلها حاطب بن أبى بلتعة برسالة إلى قريش لتخبرهم باستعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لحربهم . وأطلعه على بعض أحوال المنافقين .
قال - تعالى - { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } وفى قوله - تعالى - { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } إيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية ، لا يتأتى إلا ممن رشحه الله - تعالى - لمنصب جليل ، تقاصرت عنه همم الأمم ، واصطفاه على الناس لإرشادهم .
ثم أمر الله - تعالى - عباده أن يثبتوا على الإيمان ، وبشرهم بالأجر العظيم إذ هم استمروا على ذلك فقال : { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
أى : إذا علمتم أيها المؤمنون أن الله لا يطلع على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يجب عليكم أن تؤمنوا بالله وبرسله حق الإيمان ، وأن تؤمنوا بالله - تعالى - وبرسله حق الإيمان ، وتتقوا المخالفة فى الأمر والنهى ، فلكم فى مقابلة ذلك من الله - تعالى - مالا يقادر قدره من الثواب العظيم ، والأجر الجزيل .
ثم قال تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : لا بُد أن يعقد سببا من المحنة ، يظهر فيه وليه ، ويفتضح فيه عدوه . يُعرف به المؤمن الصابر ، والمنافق الفاجر . يعني بذلك يوم أحد الذي امتحن به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم [ وثباتهم ]{[6250]} وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهتك به ستر المنافقين ، فظهر مخالفتهم ونُكُولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله [ صلى الله عليه وسلم ] {[6251]} ولهذا قال : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } .
قال مجاهد : ميّز بينهم يوم أحد . وقال قتادة : مَيَّزَ بينهم بالجهاد والهجرة . وقال السُّدِّي : قالوا : إنْ كان محمد صادقا فَلْيُخْبِرنا عَمّن يؤمن به منا ومن يَكْفُر . فأنزل الله : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى [ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } أي : حتى ]{[6252]} يُخْرج المؤمن من الكافر . روى ذلك كلَّه ابنُ جرير :
ثم قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } أي : أنتم لا تعلمون غيبَ الله في خلقه حتى يُميز{[6253]} لكم المؤمن من المنافق ، لولا ما يعقده{[6254]} من الأسباب الكاشفة عن ذلك .
ثم قال : { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } كقوله { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [ الجن : 26 ، 27 ] .
ثم قال : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع{[6255]} لكم { وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { ما كان الله ليذر } فقال مجاهد وابن جريج وابن إسحاق وغيرهم : الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : ما كان الله ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين مشكلاً أمرهم ، يجري المنافق مجرى المؤمن ، ولكنهم ميز بعضهم من بعض ، بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء في أحد من الأفعال والأقوال ، وقال قتادة والسدي : الخطاب للكفار ، والمعنى : حتى يميز المؤمنين من الكافرين بالإيمان والهجرة ، وقال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرجل منا أنه من أهل النار ، وأنه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكن أخبرنا بمن يؤمن منا وبمن يبقى على كفره ، فنزلت الآية{[3738]} ، فقيل لهم : لا بد من التمييز { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فيمن يؤمن ولا فيمن يبقى كافراً ولكن هذا رسول الله مجتبى فآمنوا به . فإن آمنتم نجوتم وكان لكم أجر ، وأما مجاهد وابن جريج وأهل القول ، فقولهم في تأويل قوله تعالى : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } أنه في أمر «أحد » أي ما كان الله ليطلعكم على أنكم تهزمون ، فكيف تكعون{[3739]} ونحو هذا . وأيضاً فما كان ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم وتسمية لهم ، ولكن هذا بقرائن أفعالهم وأقوالهم في مثل هذا الموطن ، وحتى - في قوله : { حتى يميز } غاية مجردة ، لأن الكلام قبلها معناه : الله يخلص ما بينكم بابتلائه وامتحانه حتى يميز ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم : «حتى يَمِيز » - بفتح الياء وكسر الميم وتخفيف الياء ، وكذلك «ليميز » ، وقرأ حمزة والكسائي : «حتى يُميِّز » و «ليميز الله »{[3740]} بضم الياء والتشديد ، قال يعقوب بن السكيت{[3741]} : مزت وميزت ، لغتان بمعنى واحد ، قال أبو علي : وليس ميزت بمنقول من مزت ، بدليل أن ميزت لا يتعدى إلى مفعولين وإنما يتعدى إلى مفعول واحد كمزت ، كما أن «ألقيت » ليس بمنقول من لقي ، إنما هو بمعنى أسقطت ، والغيب هنا : ما غاب عن البشر مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين : ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس ، قال الزجّاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت هذه الآية ، و { يجتبي } - معناه : يختار ويصطفي ، وهي من جبيت الماء والمال ، وباقي الآية بين والله المستعان .