السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ} (179)

{ ما كان الله ليذر } أي : ليترك { المؤمنين على ما أنتم عليه } أيها الناس من اختلاط المسلم بغيره { حتى يميز } أي : يفصل { الخبيث } أي : المنافق { من الطيب } ، واختلف في سبب نزول هذه الآية فقال الكلبيّ : قالت قريش : يا محمد تزعم أنّ من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأنّ من اتبعك على دينك فهو في الجنة والله عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن ؟ فنزلت وقال السديّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عرضت عليّ أمّتي في صورتها في الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن ومن يكفر ) فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا استهزاء : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعده ونحن معه وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر وحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( ما بال أقوام طعنوا في علمي لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا نبأتكم به ) فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : «حذافة » فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبياً فاعف عنا عفا الله تعالى عنك ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «فهل أنتم منتهون ؟ » ثم نزل عن المنبر فنزلت .

فإن قيل : لمن الخطاب في أنتم ؟ أجيب : بأنه للمصدّقين جميعاً من أهل النفاق والإخلاص كأنه قيل : ما كان الله ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم أو بالتكاليف الشاقة التي لا يصبر عليها ولا يذعن لها إلا الخلص المخلصون منكم كبذل الأموال والأنفس في سبيل الله فيختبر بها بواطنكم ويستدلّ بها على عقائدكم ففعل ذلك يوم أحد حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ حمزة والكسائي يميز بضم الياء وفتح الميم وتشديد الياء بعد الميم مع كسرها ، والباقون بفتح الياء وكسر الميم وسكون الياء بعد الميم { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } فتعرفوا المنافق من غيره قبل التمييز { ولكنّ الله يجتبي من رسله من يشاء } فيوحي إليه ويخبره ببعض المغيبات أو ينصب له ما يدل عليها { فآمنوا بالله ورسله } أي : بصفة الإخلاص أو بأن تعلموا أنّ الله وحده مطلع على الغيب وتعلموا أنهم عباد مجتبون لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم .

روي أنّ الكفرة قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا بمن يؤمن ومن يكفر فنزلت الآية { وإن تؤمنوا } حق الإيمان { وتتقوا } النفاق { فلكم أجر عظيم } أي : لا يقادر قدره .