غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ} (179)

176

لله در النائبات فإنها *** صدأ اللئام وصيقل الأحرار

فقال : { ما كان الله ليذر } اللام لتأكيد النفي والخطاب في { أنتم } للمصدقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق . خوطبوا بأنه ما كان في حكمة الله أن يترك المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض . وماز وميَّز لغتان . مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزاً ، وميّزته تمييزاً . وفي الحديث " من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة وحجة " ولفظ الطيب والخبيث وإن كان مفرداً إلا أنه للجنس والمراد جميع المنافقين من المؤمنين ، وإنما قدم الخبيث على الطيب ليقع فعل الميز عليه ليعلم أنه المطرح من الشيئين الملقى لرداءته ، فإن الميز يقع على الأدون والأهون . وبم يحصل هذا الميز ؟ قيل : بالمحن والمصائب كالقتل والهزيمة وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج مع ما بهم من القروح ، فبمثل ذلك يظهر الثابت من المتزلزل والساكن من المتقلقل . وقيل : بإعلاء كلمة الدين وقلة شوكة المخالفين ليظهره على الدين كله . وقيل : بالوحي إلى نبيه ولهذا أردفه بقوله : { وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبي } أي يصطفي ويختار { من رسله من يشاء } وبناء الكلام على ثلاث مراتب : الأولى أن هذا المنصب الذي استأثر الله تعالى بعلمه لا يليق بكل أحد منكم ، وإنما هو مخصوص بالمصطفين من عبيده . الثانية أن الرسول أيضاً لا يعلم المغيبات بأن يطلع عليها من تلقاء نفسه وبخاصية فيه ، ولكنه إنما يعلم ذلك من طريق الوحي وإطلاع الله تعالى إياه عليه أن هذا مؤمن وذاك منافق . الثالثة أن هذا أيضاً مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسب مشيئته وإرادته . { فآمنوا بالله ورسله } ومن جملة الإيمان بالله أن تعتقدوه وحده علاماً للغيوب ، ومن جملة الإيمان بالرسل أن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبيداً مصطفين لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى . ووجه النظم على القول الأول : لا تظنوا أن هذا التمييز يحصل بأن يطلعكم الله على غيبه ويقول إن فلاناً مؤمن وفلاناً منافق ، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع العوام على غيبه ولا يكون لهم سبيل إلى معرفة الأمور إلا بالامتحان والقرائن المفيدة للظن الغالب ، ولكنه يصطفي من رسله من يشاء ، فيعلمهم أن هذا مؤمن وذاك منافق ويختارهم للرسالة ووضع التكاليف الشاقة التي بمثلها يتميز الفريقان ويخلص أهل الوفاء من أهل الجفاء . أو المراد ما كان الله ليطلعكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول ، ولكنه يخص من يشاء بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل ، فآمنوا بالله ورسله كلهم ، لأن طريق ثبوت نبوّتهم واحد ، فمن أقر بنبوّة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوّة كلهم . ثم اتبعه الوعد بالثواب فقال : { وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم } قال السدي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر " فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا فقالوا : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله { ما كان الله ليذر المؤمنين } . وقال الكلبي : قالت قريش : تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان ، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض ، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فنزلت . وقال أبو العالية : نزلت حين سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق .

/خ189