ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ببيان جانب من رحمته بعباده فقال { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ } من الذنوب أو الخطايا .
{ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } أى : على ظهر الأرض { مِن دَآبَّةٍ } من الدواب التى تدب عليها . { ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو يوم القيامة .
{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } الذى حدده - سبحانه - لحسابهم ، جازاهم بما يستحقون { فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أى : لا يخفى عليه شئ من أحوالهم . وبعد فهذا تفسير لسورة فاطر . نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه ، ونافعاً لعباده .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي : لو آخذهم{[24640]} بجميع ذنوبهم ، لأهلك جميع أهل الأرض ، وما يملكونه من دواب وأرزاق .
قال{[24641]} ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : كاد الجَعْلُ أن يعذب في جُحْره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } .
وقال سعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّيّ في قوله : { مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } أي : لما سقاهم المطر ، فماتت جميع الدواب .
{ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : ولكن يُنْظرهُم إلى يوم القيامة ، فيحاسبهم يومئذ ، ويوفي كل عامل بعمله ، فيجازي بالثواب أهلَ الطاعة ، وبالعقاب أهل المعصية ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } .
ثم بين تعالى الوجه في إمهاله من أمهل من عباده أن ذلك إنما هو لأن الآخرة من وراء الجميع وفيها يستوفى جزاء كل أحد ، ولو جازى عز وجل في الدنيا على الذنوب لأهلك الجميع ، وقوله تعالى : { من دابة } مبالغة ، والمراد بنو آدم لأنهم المجازون ، وقيل المراد الجن والإنس ، وقيل كل ما دب على الأرض من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم وبسببه ، والضمير في { ظهرها } عائد على { الأرض } المتقدم ذكرها ، ولو لم يتقدم لها ذكر لأمكن في هذا الموضع لبيان الأمر ولكانت ك { توارت بالحجاب }{[9757]} [ ص : 32 ] ونحوها ، و «الأجل المسمى » القيامة ، وقوله { فإن الله كان بعباده بصيراً } توعد وفيه للمتقين وعد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولو يؤاخذ الله الناس}... {بما كسبوا} من الذنوب وهو الشرك لعجل لهم العقوبة، فذلك قوله عز وجل: {ما ترك على ظهرها من دابة} فوق الأرض من دابة؛ لهلكت الدواب من قحط المطر.
{ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} إلى الوقت الذي في اللوح المحفوظ.
{فإذا جاء أجلهم} وقت نزول العذاب بهم في الدنيا {فإن الله كان بعباده بصيرا} آية لم يزل الله عز وجل بعباده بصيرا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"ولو يؤاخذ الله الناس"، يقول: ولو يعاقب الله الناس، ويكافئهم بما عملوا من الذنوب والمعاصي، واجترحوا من الآثام، "ما تَرَك على ظهرها من دابة "تدبّ عليها، "وَلَكِنْ يُؤَخّرُهُمْ إلى أجَلٍ مُسَمّى "يقول: ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده، محدود لا يقصرون دونه، ولا يجاوزونه إذا بلغوه... وقوله: "فإذَا جاءَ أجَلُهُمْ فإنّ اللّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيرا" يقول تعالى ذكره: فإذا جاء أجل عقابهم، فإن الله كان بعباده بصيرا؛ من الذي يستحقّ أن يعاقب منهم، ومن الذي يستوجب الكرامة، ومن الذي كان منهم في الدنيا له مطيعا، ومن كان فيها به مشركا، لا يخفى عليه أحد منهم، ولا يعزب عنه علم شيء من أمرهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ما ترك على ظهرها من دابة} قال بعضهم: المراد بالدابة المُمتحنون المُميّزون، وهم بنو آدم خاصة، لأنهم أهل اكتساب وإخراج، إذ قد ذكر الإهلاك بما يكتسبون، وهم أهل الاكتساب دون غيرهم من الدّواب.
وقال بعضهم: المراد كل دابة من البشر وغيره، لأن غيره من الدواب إنما أُنشئ للبشر وحوائجهم لا لحاجة الدواب أو لمنفعة لها حين قال: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [البقرة: 29] وقال: {وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه} [الجاثية: 13]. فإذا كان غيره مُنشأً لهم، فإذا أُهلكوا هم أُهلك ما كان مُنشَأ لحوائجهم ولمنافعهم.
{فإذا جاء أجلُهم فإن الله كان بعباده بصيرا} أي عن بصيرة وعلم بكسبهم وصنيعهم وما يكون منهم، ضرب لهم المدة والوقت الذي ينتهون إليه، ويبلغون آجالهم لا عن جهل، بل لم يزل عالما بما يكون منهم، لكن لما كان ضرر ذلك الذي علم أنه يكون منهم راجعا إليهم أنشأهم، وجعل لهم المدة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لو عَجَّلَ لهم ما يستوجبونه من الثواب والعقاب لم تَفِ أعمارُهم القليلةُ به، وما اتسعت أيامُهم القصيرة له، فأَخَّرَ ذلك ليومِ الحَشْرِ... فإِنَّه طويلٌ.
لما خوف الله المكذبين بمن مضى وكانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم يستعجلون بالعذاب ويقولون عجل لنا عذابنا فقال الله: للعذاب أجل والله لا يؤاخذ الله الناس بنفس الظلم فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار وحصول يأس الناس عن إيمانهم، ووجود الإيمان ممن كتب الله إيمانه، فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك... وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب يهلكون؟ نقول الجواب من وجوه؛
أحدها: أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم، والدواب أقرب النعم.
الثاني: هو أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه؛ فإن بقاء الأشياء بالإنسان، كما أن بقاء الإنسان بالأشياء.
{ما ترك على ظهرها من دابة} الوجه الثالث: لأن بسبب انقطاع الأمطار تموت حيوانات البر، أما حيوانات البحر فتعيش بماء البحار.
المسألة الرابعة: {فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا} تسلية للمؤمنين، وذلك لأنه تعالى لما قال: {ما ترك على ظهرها من دابة} وقال: {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} قال: فإذا جاء الهلاك فالله بالعباد بصير، إما أن ينجيهم أو يكون توفيهم تقريبا من الله لا تعذيبا، لا يقال قد ذكرت أن الله لا يؤاخذ بمجرد الظلم، وإنما يؤاخذ حين يجتمع الناس على الضلال، ونقول بأنه تعالى عند الإهلاك يهلك المؤمن فكيف هذا؟ نقول قد ذكرنا أن الإماتة والإفناء إن كان للتعذيب فهو مؤاخذة بالذنب وإهلاك، وإن كان لإيصال الثواب فليس بإهلاك ولا بمؤاخذة، والله لا يؤاخذ الناس إلا عند عموم الكفر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
انطبق آخرها كما ترى على أولها باستجماع صفات الكمال وتمام القدرة على كل من الإيجاد والإعدام للحيوان والجماد مهما أراد بالاختيار، لما شوهد له سبحانه من الآثار، كما وقع الإرشاد إليه بالأمر بالسير وبغيره وبما ختمت به السورة من صفة العلم على وجه أبلغ من ذكره بلفظه، لما مضى في سورة طه من أن إحاطة العلم تستلزم شمول القدرة، ولا تكون القدرة شاملة إلا إذا كانت عن اختيار، فثبت حينئذ استحقاقه تعالى لجميع المحامد، فكانت عنه سبحانه الرسالات الهائلة الجامعة للعزة والحكمة بالملائكة المجردين عن الشهوات وكل حظ إلى من ناسبهم من البشر بما غلب من جيش عقله على عساكر شهواته ونفسه، حتى صار عقلاً مجرداً صافياً، حاكماً على الشهوات والحظوظ قاهراً كافياً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
أخيراً يجيء ختام السورة، يكشف عن حلم الله ورحمته إلى جانب قوته وقدرته؛ ويؤكد أن إمهال الناس عن حلم وعن رحمة، لا يؤثر في دقة الحساب وعدل الجزاء في النهاية.
إن ما يرتكبه الناس من كفر لنعمة الله، ومن شر في الأرض وفساد، ومن ظلم في الأرض وطغيان؛ إن هذا كله لفظيع شنيع ولو يؤاخذ الله الناس به، لتجاوزهم -لضخامته وشناعته وبشاعته- إلى كل حي على ظهر هذه الأرض، ولأصبحت الأرض كلها غير صالحة للحياة إطلاقاً،لا لحياة البشر فحسب، ولكن لكل حياة أخرى! والتعبير على هذا النحو يبرز شناعة ما يكسب الناس وبشاعته وأثره المفسد المدمر للحياة كلها لو آخذهم الله به مؤاخذة سريعة، غير أن الله حليم لا يعجل على الناس، يؤخرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي حتى تنقضي أعمارهم في الدنيا، ويؤخرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدرة لهم حتى يسلموها إلى جيل آخر، ويؤخرهم جنساً إلى أجلهم المحدد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى، ويفسح لهم في الفرصة لعلهم يحسنون صنعاً.
(فإذا جاء أجلهم).. وانتهى وقت العمل والكسب، وحان وقت الحساب والجزاء، فإن الله لن يظلمهم شيئاً: (فإن الله كان بعباده بصيراً)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تذكير لهم عن أن يغرهم تأخير المؤاخذة فيحسبوه عجزاً أو رضى من الله بما هم فيه فهم الذين قالوا: {اللهم إن كان هذا هو الحقَّ من عندك فأمْطِرْ علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال: 32] فعلَّمهم أن لعذاب الله آجالاً اقتضتها حِكمتهُ، فيها رَعْي مصالح أمم آخرين، أو استبقاءُ أجيال آتين. فالمراد ب {الناس} مجموع الأمة.
{فإن اللَّه كان بعباده بصيراً} دليل جواب (إذَا) وليس هو جوابها، ولذلك كان حقيقاً بقرنه بفاء التسبب، وأما ما في سورة النحل فهو الجواب وهو تهديد بأنهم إذا جاء أجلهم وقع بهم العذاب دون إمهال.