44- قيل لها من بعد ذلك : ادخلي قصر سليمان ، وكان صحنه من زجاج تحته ماء يسبح فيه السمك ، فكشفت عن ساقيها تحسب ما تمر فيه ماء ، فنبهها سليمان إلى أن الصحن أملس مكون من زجاج ، فراعها ذلك المنظر المادي ، وعلمت أن ملكها لا يساوى شيئاً بجوار ملك سليمان - النبي - فقالت : رب إني ظلمت نفسي باغتراري بملكي وكفري ، وأذعنت في صحبة سليمان مؤمنة بالله تعالى خالق العالمين ومربيهم والقائم عليهم .
ثم ختم - سبحانه - هذه القصة ببيان ما فاجأها به سليمان ، لتزداد يقينا بوحدانية الله - تعالى - ، وبعظم النعم التى أعطاها - سبحانه - له فقال : { قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } .
والصرح : القصر ويطلق على كل بناء مرتفع . ومنه قوله - تعالى - : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب } ويطلق - أيضا - على صحن الدار وساحته . يقال : هذه صرحة الدار . أى : ساحتها وعرصتها .
وكان سليمان - عليه السلام - قد بنى هذا الصرح ، وجعل بلاطه من زجاج نقى صاف كالبلور . بحيث يرى الناظر ما يجرى تحته من ماء .
أى : قال سليمان لملكة سبأ بعد أن سألها : أهكذا عرشك ، وبعد أن أجابته بما سبق بيانه . قال لها : ادخلى هذا القصر ، فلما رأت هذا الصرح وما عليه من جمال وفخامة ، حسبته لجة ، أى : ظنته ماء غزيرا كالبحر .
{ وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } لئلا تبتل بالماء أذيال ثيابها .
وهنا قال سليمان مزيلا لما اعتراها من دهشة : { إِنَّهُ } أى : ما حسبته لجة { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } أى : قصر مملس من زجاج لا يحجب ما وراءه .
فقوله { مُّمَرَّدٌ } بمعنى مملس ، مأخوذ من قولهم : شجرة مرداء إذا كانت عارية من الورق ، وغلام أمرد ، إذا لم يكن فى وجهه شعر والتمريد فى البناء ، معناه : التمليس والتسوية والنعومة .
والقوارير : جمع قارورة ، وهى إناء من زجاج ، وتطلق القارورة على المرأة ، لأن الولد يقر فى رحمها ، أو تشبيها لها بآنية الزجاج من حيث ضعفها ، ومنه الحديث الشريف : " رفقا بالقوارير " والمراد بالقوارير هنا . المعنى الأول .
ثم حكى - سبحانه - ما قالته بلقيس بعد أن رأت جانبا من عداب صنع الله فقال : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أى : بسبب عبادى لغيرك قبل هذا الوقت . . . { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } طائعة مختارة ، وإسلامى إنما هو { لِلَّهِ رَبِّ العالمين } وليس لأحد سواه .
وبعد ، فهذا تفسير محرر لتلك القصة ، وقد أعرضنا عن كثير من الإسرائيليات التى حشا بها بعض المفسرين تفاسيرهم ، عند حديثهم عن الآيات التى وردت فى هذه القصة ، ومن ذلك ما يتعلق بسليمان - عليه السلام - وبجنوده من الطير . وبمحاورة النملة له ، وبالهدية التى أرسلتها ملكة سبأ إليه ، وبما قالته الشياطين لسليمان عن هذه المرأة . . الخ وقد اشتملت هذه القصة على عبر وعظات وأحكام وآداب ، من أهمها ما يأتى :
1 - أن الله - تعالى - قد أعطى - بفضله وإحسانه - داود وسليمان - عليهما السلام - نعما عظيمة ، على رأسها نعمة النبوة ، والملك ، والعلم النافع .
وأنهما قد قابلا هذه النعم بالشكر لله - تعالى - واستعمالها فيما خلقت له .
ونرى ذلك فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } وفى قوله - تعالى - : { رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } وفى قوله - سبحانه - : { هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلوني أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } 2 - أن سليمان - عليه السلام - قد أقام دولته على الإيمان بالله - تعالى - وعلى العلم النافع ، وعلى القوة العادلة .
أما الإيمان بالله - تعالى - وإخلاص العبادة له - سحبانه - ، فهو كائن له - عليه السلام - بمقتضى نبوته التى اختاره الله لها ، وبمقتضى دعوته إلى وحدانية الله - عز وجل - فقد حكى القرآن عنه أنه قال فى رسالته إلى ملكة سبأ : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }
وأما العلم النافع ، فيكفى أن القصة الكريمة قد افتتحت بقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً . . } واشتملت على قوله - سبحانه - : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير . . } وعلى قوله - عز و جل - : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } وأما القوة ، فنراها فى قوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } وفى قوله - سبحانه { ارجع إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ } 3 - أن سليمان عليه السلام كانت رسالته الأولى نشر الإيمان بالله - تعالى - فى الأرض ، وتطهيرها من كل معبود سواه .
والدليل على ذلك أن الهدهد عندما أخبره بحال الملكة التى كانت هى وقومها يعبدون الشمس من دون الله . . .
ما كان من سليمان - عليه السلام - إلا أن حمله كتابا قويا بليغا يأمرهم فيه بترك التكبر والغرور ، وبإسلام وجوهمم لله وحده : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } 4 - أن سليمان - عليه السلام - كان يمثل الحاكم اليقظ المتنبه لأحوال رعيته ، حيث يعرف شئونها الصغيرة والكبيرة ، ويعرف الحاضر من أفرادها والغائب ، حتى ولو كان الغائب طيرا صغيرا ، من بين آلاف الخلائق الذين هم تحت قيادته .
ولقد صور القرآن ما كان عليه سليمان - عليه السلام - من يقظة ودراية بأفراد رعيته أبدع تصوير فقال : { وَتَفَقَّدَ الطير فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } قال الإمام القرطبى : رحمه الله - : فى هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ، والمحافظة عليهم ، فانظر إلى الهدهد مع صغره ، كيف لم يَخْفَ على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك . .
ثم يقول - رحمه الله - على سبيل التفجع والشكوى عن حال الولاة فى عهده : فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان . . . ورحم الله القائل :
وهل أفسد الدينَ إلا الملوكُ . . . وأحبارُ سوءٍ ورهبانُها
5 - أن سليمان - عليه السلام - كان بجانب تعهده لشئون رعيته ، يمثل الحاكم الحازم العادل ، الذى يحاسب المهمل ، ويتوعد المقصر ، ويعاقب من يستحق العقاب ، وفى الوقت نفسه يقبل عذر المعتذر متى اعتذر عذرا مشروعا ومقنعا .
انظر إليه وهو يقول - كما حكى القرآن عنه - عندما تفقد الهدهد فلم يجده : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } إن الجيوش الجرارة التى تحت قيادة سليمان - عليه السلام - لا تؤثر فيها غياب هدهد منها . . . ولكن سليمان القائد الحازم ، كأنه يريد أن يعلم جنوده ، أن لكل جندى رسالته التى يجب عليه أن يؤديها على الوجه الأكمل سواء أكان هذا الجندى صغيرا أم كبيرا ، وأ ، من فرط فى الأمور الصغيرة ، لا يستبعد منه أن يفرط فى الأمور الكبيرة .
6 - أن الجندى الصغير فى الأمة التى يظلها العدل والحرية والأمان . . . لا يمنعه صغره من أن يرد على الحاكم الكبير ، بشجاعة وقوة . . .
انظر إلى الهدهد - مع صغره - يحكى عن القرآن ، أنه رد على نبى الله سليمان الذى آتاه الله ملكا لا ينبغى لأحد من بعده بقوله : { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } ونجد سليمان - عليه السلام - لا يؤاخذه على هذا القول ، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة ، لا يهان فيها الصغير ، ولا يظلم فيها الكبير .
7 - أن حكمة الله - تعالى - قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين ، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات ، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها ، ويحق الحق ويبطل الباطل .
قال القرطبى : عند تفسيره لقوله - تعالى - : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } فى الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وَزَعةً - أى ولاة ، أو قضاة - يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض . . .
قال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو فى مجلس قضائه : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة .
ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضى الله عنه - " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .
8 - أن الحاكم العاقل هو الذى يستشير من هو أهل للاستشارة فى الأمور التى تهم الأمة . فها هى ذى ملكة سبأ عندما جاءها كتاب سليمان - عليه السلام - جمعت وجوه قومها ، وقالت لهم - كما حكى القرآن عنها : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ . . } قال القرطبى : وفى هذه الآية دليل على صحة المشاورة . . . وقد قال - الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } وقد مدح الله الفضلاء بقوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } والمشاورة من الأمر القديم وخاصة فى الحرب ، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي . . } لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم . وربما كان فى استبدادها برأيها وهن فى طاعتها ، وكان فى مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ، ألا ترى إلى قولهم فى جوابهم : { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ . . } 9 - أن الهداية إذا لمس المهدى إليه من ورائها ، عدم الإخلاص فى إهدائها . وأن المقصد منها صرفه عن حق يقيمه ، أو عن باطل يزيله .
. . فإن الواجب عليه أن يرد هذه الهدية لصاحبها . وأن يمتنع عن قبولها . . .
ألا ترى إلى سليمان - عليه السلام - قد رد الهدية الثمينة التى أهدتها بلقيس إليه ، حين أحس أن من وراء هذه الهدية شيئا . يتنافى مع تبليغ وتنفيذ رسالة الله - تعالى - التى أمره بتبليغها وتنفيذها ، ألا وهى : الأمر بإخلاص العبادة لله - تعالى - والنهى عن الإشراك به ، وبلقيس إنما كانت تقصد بهديتها ، اختبار سليمان ، أنبى هو أم ملك ، كما سبق أن أشرنا .
لذا وجدنا القرآن يحكى عن سليمان - عليه السلم - أنه رد هذه الهدية مع من جاءوا بها ، وقال : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } 10 - أن ملكة سبأ دل تصرفها على أنها كانت ملكة عاقبة رشيدة ، حكيمة ، فقد استشارت خاصتها فى كتاب سليمان - عليه السلام - ، ولوحت لهم بقوته وبما سيترتب على حره ، وآثرت أن تقدم له هدية على سبيل الامتحان ، واستحبت المسالمة على المحاربة . . . وكان عندها الاستعداد لقبول الحق والدخول فيه ، وما أخرها عن المسارعة إليه إلا لكونها كانت من قوم كافرين .
وعندما التقت بسليمان ، وانكشفت لها الحقائق سارعت إلى الدخول فى الدين الحق ، وقالت : { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .
هذه بعض العبر والعظات التى تؤخذ من هذه القصة . . . ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة صالح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ . . . } .
وقوله : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } وذلك أن سليمان ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرًا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه . واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان ، عليه السلام ، إلى{[22055]} اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ؛ ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هُلْبٌ{[22056]} عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة . فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول محمد بن كعب القُرَظي ، وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدمًا ، ولكن رأى على رجليها شعرًا ؛ لأنها ملكة ليس لها بعل{[22057]} فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها : الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك . وكره سليمان ذلك ، وقال{[22058]} للجن : اصنعوا شيئًا غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النُوْرَةَ . وكان أول من اتخذت له النّورَة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومان : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها مُلْكًا هو أعزّ من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح مُمَرّد من قوارير . فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس{[22059]} من دون الله .
وقال الحسن البصري : لما رأت العلْجَةُ الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكًا أعظم من ملكها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه قال : أمر سليمان بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا . ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها { فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا } ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : { إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ } ، فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله . فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان ساجدًا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان رأسه قال : ويحك ! ماذا قلت ؟ - قال :{[22060]} وأنسيت ما قالت{[22061]} فقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، فأسلمت وحسن إسلامها .
وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرًا غريبا عن ابن عباس ، قال :{[22062]} حدثنا الحسين بن علي ، عن زائدة ، حدثني عطاء بن السائب ، حدثنا مجاهد ، ونحن في الأزد - قال : حدثنا ابن عباس قال : كان سليمان ، عليه السلام ، يجلس على سريره ، ثم تُوضَعُ كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس{[22063]} الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم
يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرًا ورواحها شهرًا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال :{[22064]} { مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض .
قال عطاء : وذكر سعيد بن جُبَير عن ابن عباس مثل حديث مجاهد { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ } - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا } وكتب { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، إلى بلقيس : { أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ، فلما ألقى الهدهد بالكتاب{[22065]} إليها ، ألقي في رُوعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قالوا : نحن أولو قوة . قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية . فلما جاءت الهدية سليمان قال : أتمدونني بمال ، ارجع إليهم . فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس قال : وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومَنْ معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة ، قال عطاء : ومجاهد حينئذ في الأزد - قال سليمان : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، { قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } . قال : وكان لسليمان مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال :{[22066]} { أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } . قال سليمان : أريد أعجل من ذلك . فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . قال : [ فنظر إليه سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره ]{[22067]} ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان ، من تحت كرسي كان سليمان يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير . قال : فلما رأى سليمان عرشها [ مستقرًا عنده ]{[22068]} قال : { هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي } ، { قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا } ، فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان : أريد ماء [ من زبد رواء ]{[22069]} ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين . [ قال ]{[22070]} فقالت الشياطين : هذا هين ، أجْرِ الخيلَ ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية . قال : فأمر بالخيل{[22071]} فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية . قال : وسألت عن لون الله عز وجل . قال : فوثب سليمان عن سريره ، فخر ساجدًا ، فقال : يا رب ، لقد سألَتْني عن أمر إنه يتكايد{[22072]} ، أي : يتعاظم في قلبي أن أذكره لك . قال : ارجع فقد كَفَيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء . فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا : ما سألتك إلا عن الماء . قال : ونَسوه كلّهم . قال : وقالت الشياطين لسُلَيمان : تُريدُ أن تتخذها لنفسك{[22073]} ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته . قال : فجعلوا صرحًا ممردًا من قوارير ، فيه السمك . قال : فقيل لها :
ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شَعْرَاء . فقال سليمان : هذا قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه{[22074]} المواسي . فقال : أثر الموسى{[22075]} قبيح ! قال : فجعلت الشياطين النورَة . قال : فهو أول من جُعلت له النورة .
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة : ما أحسنه من حديث .
قلت : بل هو منكر غريب جدًا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس ، والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم ، كروايات كعب ووهب - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل ، من الأوابد{[22076]} والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة .
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى ، إخبارًا عن فرعون - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان { ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } الآية [ غافر : 36 ، 37 ] . والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي : المبنى بناء محكما أملس { مِنْ قَوَارِيرَ } أي : زجاج . وتمريد البناء تمليسه . ومارد : حصن بدومة الجندل .
والغرض أن سليمان ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ؛ ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله{[22077]} وعَرَفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت لله ، عز وجل ، وقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي : بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس{[22078]} من دون الله ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : متابعة لدين سليمان في عبادته لله{[22079]} وحده ، لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا .
{ قيل لها ادخلي الصرح } القصر وقيل عرضة الدار . { فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها } روي انه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه ، فلما أبصرته ظنته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها . وقرأ ابن كثير برواية قنبل " سأقيها " بالهمز حملا على جمعه سؤوق وأسؤق . { قال إنه } إن ما تظنينه ماء . { صرح ممرد } مملس . { من قوارير } من الزجاج .
{ قالت رب إني ظلمت نفسي } بعبادتي الشمس ، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت انه يغرقها في اللجة . { وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فيما أمر به عباده وقد اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان .