المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

90- يا أيها المصَدّقون بالله وكتبه ورسله المذعنون للحق ، ليس شرب المسكرات ، ولا لعب القمار ، ونصب الأحجار للذبح عندها تقرباً إلى الأصنام التي تعبدونها ، واتخاذ السهام والحصى والورق للتعرف بها على مغيبات القدر . . ليس كل ذلك إلا خبثاً نفسياً باطلا ، هو من تزيين الشيطان لفاعليه . . فاتركوه لكي تفوزوا في الدنيا بحياة فاضلة ، وفي الآخرة بنعيم الجنة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

وبعد أن نهى الله المؤمنين عن تحريم ما أحله لهم ، وأمرهم بأن يتمتعوا بما رزقهم من خير بدون إسراف أو تقتير ، وبين لهم حكم ما عقدوه من أيمان بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء ثانيا إليهم بين لهم فيه مضار الخمر وأشباهها من الرذائل ، وأمرهم باجتنابها ، فقال تعالى :

{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }

قال الفخر الرازي : اعلم أن هذا النوع الثالث من الأحكام المذكورة في هذا الموضع - فقد امر الله المؤمنين بعدم تحريم الطيبات ثم بين حكم الأيمان المنعقدة .

ووجه اتصال هذه الآيات بما قبلها أنه - تعالى - قال فيما تقدم : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } إلى قوله : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } ثم لما كان من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر ، لا جرم أنه - تعالى - بين أنهما غير داخلين في المحلات بل في المحرمات .

والخمر - بمعنى المصدر - هو الستر ، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار . والخمر - بمعنى الاسم - ما يخمر العقل ويستره ، ويمنعه من التقدير السليم :

قال القرطبي : والخمر مأخوذة من خمر ، إذا ستر ، ومن خمار المرأة لأنه يستر وجهها . وكل شيء غطى شيئاً فقد خمره . ومنه : خمروا آنيتكم أي : غطوها .

وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ، لأنها تركت حتى أدركت كما يقال : قد اختمر العجين ، أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرأي ، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه .

وقيل : إنما سميت الخمر خمراً ، لأنها تخالط العقل . من المخامرة وهي المخالطة . ومنه قولهم : دخلت في خمار الناس - بفتح الخاء وضمها - أي : اختلطت بهم . فالمعاني الثالثة متقاربة ، فالخمر تركت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، ثم خمرته والأصل الستر .

والميسر : القمار - بكسر القاف - وهو في الأصل مصدر ميمي من يسر كالموعد من وعد . وهو مشتق من اليسر بمعنى السهولة ، لأن المال يجيء للكاسب من غير جهد ، أو هو مشتق من يسر بمعنى جزأ ، ثم أصبح علما على كل ما يتقامر عليه كالجزور ونحوه .

قال القرطبي : الميسر : الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً لأنه يجزأ أجزاء فكأنه موضوع التجزئة . وكل شيء جزأته فقد يسرته . والياسر : الجازر ، لأنه يجزئ لحم الجزور . ويقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : ياسرون لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك .

والمراد بالميسر ما يشمل كل كسب يجيء بطريق الحظ المبني على المصادفة فاللعب بالنرد على مال يسمى قماراً ، واللعب بالشطرنج على مال يسمى قماراً وهكذا ما يشبه ذلك من ألوان تمليك المال بالمخاطرة وبطريق الحظ المبني على المصادفة .

وتحريم الميسر تحريم لذات الفعل . فالعمل في ذاته حرام ، والكسب عن طريقه حرام .

والأنصاب : جمع نصب ، وتطلق على الأصنام التيك انت تنصب للعبادة لها أو على الحجارة التي كانت تخصص للذبح عليها تقرباً للأصنام .

والأزلام : جمع زلم . وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت فسهم عليه واحد ، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة . أو هي السهام التي كانوا يكتبون على أحدها : أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي ، ويتركون الثالث غفلا من الكتابة فإذا أرادوا سفراً أو حرباً أو زواجاً أو غير ذلك ، أتوا إلى بيت الأصنام واستقسموها ، فإن خرج أمرني ربي أقدموا على ما يرونه ، وإن خرج نهاني ربي أمسكوا عنه ، وإن خرج الغفل أجالوها ثانية حتى يخرج الآمر أو الناهي .

وقد نهى الله - تعالى - في إوائل هذه السورة عن الاستقسام بالأزلام فقال { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } وقوله : { رِجْسٌ } أي قذر تأباه النفوس الكريمة والعقول السليمة لقذارته ونجاسته .

قال الفخر الرازي : والرجس في اللغة كل ما استقذر من عمل . يقال : رجس الرجل رجسا إذا عمل عملا قبيحا : وأصله من الرجس - بفتح الراء - وهو شدة الصوت . يقال : سحاب رجاس إذا كان شديد الصوت بالرعد . فكأن الرجس هو العمل الذي يكون قوى الدرجة كامل الرتبة في القبح .

وقد ذكرالمفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها : ما جاء في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في آيات من القرآن ، وفيه قال . وأتيت على نفر من الأنصار فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر - قال فأتيتهم في حش - أي بستان - فإذا رأس جزور مشوى عندهم وزق من خمر قال : فأكلت وشربت معهم . قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار . قال . فأخذ رجل - من الأنصار - لحي جمل فضربني به فجرح أنفي ، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } . . الآيات .

ومنها ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا حتى ثملوا ، فعبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا ، وجعل الرجل منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل هذا بي أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن - والله لو كان بي رءوفاً رحيما ما فعل بي هذا ، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن فأنزل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } .

والمعنى : { ياأيها الذين آمَنُواْ } إيمانا حقا . إنما تعاطي { الخمر } أي : الشراب الذي يخامر العقل ويخالطه ويمنعه من التفكير السليم { والميسر } أي القمار الذي عن طريقه يكون تمليك المال بالحظ المبني على المصادفة والمخاطرة { والأنصاب } أي : الحجارة التي تذبح عليها الحيوانا تقربا للأصنام . { والأزلام } أي : السهام التي عن طريقها يطلب الشخص معرفة ما قسم له من خير أو شر . هذه الأنواع الأربعة { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } أي : مستقذرة تعافها النفوس الكريمة ، وتأباها العقول السليمة ، لأنها من تزيين الشيطان الذي هو عدو للإِنسان ، ولا يريد له إلا ما كان شيئا قبيحاً .

قال - تعالى - : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } والفاء في قوله { فاجتنبوه } للإِفصاح ، والضمير فيه يعود على الرجس الذي هو خبر عن تلك الأمور الأربعة وهي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام .

أي : إذا كان تعاطي هذه الأشياء الأربعة رجسا وقذر ينأى عنه العقلاء فاجتنبوه لعلكم بسبب هذا الاجتناب والترك لذلك الرجس تنالون الفلاح والظفر في دنياكم وآخرتكم .

والنداء بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ } عام لجميع المؤمنين ، وقد ناداهم - سبحانه - بهذه الصيغة لتحريك حرارة العقيدة في قلوبهم حتى يستجيبوا لما نودوا من أجله ، وهو اجتناب تلك الرذائل وتركها تركا تاماً .

وقوله : { رجس } خبر عن هذه الرذائل الأربعة . وصح الإِخبار به - مع أنه مفرد - عن متعدد هو هذه الأربعة ، لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير وشبيه بذلك قوله - تعالى - { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } وقيل : لأنه خبر عن الخمر ، وخبر المعطوفات عليها محذوف ثقة بالمذكور .

وقيل : لأن الكلام مضافا إلى تلك الأشياء ، وهو خبر عنه . أي : إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس .

وقوله : { مِّنْ عَمَلِ الشيطان } في محل رفع على أنه صفة لقوله : { رِجْسٌ } أي : رجس كائن من عمل الشيطان ، لأنه ناجم عن تزيينه وتسويله ، إذ هو خبيث والخبيث لا يدعو إلا إلى الخبيث فالمراد من إضافة العمل إلى الشيطان المبالغة في كمال قبح ذلك العمل .

وعبر بقوله : { فاجتنبوه } للمبالغة في الأمر بترك هذه الرذائل ، فكأنه سبحانه يقول لا آمركم فقط بترك الرذائل ، بل آمركم أيضاً بأن تكونوا أنتم في جانب وهذه المنكرات في جانب آخر . فالأمر هنا نمصب على الترك وعلى كل ما يؤدي إلى اقتراف هذه المنكرات كمخالطة المرتكبين لها . وغشيان مجالسها . إلخ

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر ، وهو القمار .

وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : الشَطْرَنج من الميسر . رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عُبَيس بن مرحوم ، عن حاتم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، به .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي{[10280]} حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن لَيْث ، عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان : أو اثنين منهم - قالوا : كل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز .

ورُوي عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب{[10281]} وقالا حتى الكعاب ، والجوز ، والبيض التي{[10282]} تلعب بها الصبيان ، وقال موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الميسر هو القمار .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس قال : الميسر هو القمار ، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام ، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة .

وقال مالك ، عن داود بن الحُصَيْن : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين .

وقال الزهري ، عن الأعرج قال : الميسر والضرب بالقداح على الأموال والثمار .

وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو من الميسر .

رواهن ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا هذه الكِعَاب الموسومة التي يزجر بها زجرًا فإنها من الميسر " . حديث غريب . {[10283]}

وكأن المراد بهذا هو النرد ، الذي ورد في الحديث به في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة بن الحُصَيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنَّرْدَشير فكأنما صَبَغ يده في لحم خنزير ودَمه " . {[10284]} وفي موطأ مالك ومسند أحمد ، وسنني أبي داود وابن ماجه ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله " . {[10285]} وروي موقوفًا عن أبي موسى من قوله ، فالله أعلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا مكي بن إبراهيم{[10286]} حدثنا الجُعَيْد ، عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي ، أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول : أخبرني ، ما سمعت أباك يقول عن رسول الله{[10287]} صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عبد الرحمن : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مثل الذي يلعب بالنرد ، ثم يقوم فيصلي ، مثل الذي يتوضأ بالقَيْح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي " . {[10288]}

وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر : أنه شرّ من النرد . وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر ، ونص على تحريمه مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وكرهه الشافعي ، رحمهم الله تعالى .

وأما الأنصاب ، فقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وغير واحد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها .

وأما الأزلام فقالوا أيضًا : هي قداح كانوا يستقسمون بها .

وقوله : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي سَخَط من عمل الشيطان . وقال سعيد بن جبير : إثم . وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان .

{ فَاجْتَنِبُوهُ } الضمير عائد على الرجس ، أي اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهذا ترغيب .


[10280]:في أ: "الأعمشي".
[10281]:في أ: "حبيب مثله".
[10282]:في أ: "الذي".
[10283]:وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/297)، وقال: "وقال أبي: هذا حديث باطل وهو من علي بن يزيد، وعثمان لا بأس به".
[10284]:صحيح مسلم برقم (2260).
[10285]:الموطأ (2/958) والمسند (4/394) وسنن أبي داود برقم (4938) وسنن ابن ماجة برقم (3762).
[10286]:في أ: "علي بن إبراهيم" وهو خطأ.
[10287]:في أ: "عن النبي".
[10288]:المسند (5/370) وقال الهيثمي في المجمع (8/113): "فيه موسى بن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

القول في تأويل قوله تعالى : { يََأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } . .

وهذا بيان من الله تعالى ذكره للذين حرّموا على أنفسهم النساء والنوم واللحم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم تشبها منهم بالقسيسين والرهبان ، فأنزل الله فيهم على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابه ، ينهاهم عن ذلك ، فقال : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرّمُوا طَيّباتِ ما أحَلّ اللّهُ لَكُمْ فنهاهم بذلك عن تحريم ما أحلّ الله لهم من الطيبات . ثم قال : ولا تعتدوا أيضا في حدودي ، فتحلوا ما حرّمت عليكم ، فإن ذلك لكم غير جائز كما غير جائز لكم تحريم ما حللت ، وإني لا أحبّ المعتدين . ثم أخبرهم عن الذي حرّم عليهم مما إذا استحلوه ، وتقدّموا عليه كانوا من المعتدين في حدوده ، فقال لهم : يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله ، إن الخمر التي تشربونها والميسر الذي تتياسرونه والأنصاب التي تذبحون عندها والأزلام التي تستقسمون بها رِجْسٌ يقول : إثم ونَتْن ، سخِطه الله وكرهه لكم مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ يقول : شربكم الخمر ، وقماركم على الجُزُر ، وذبحكم للأنصاب ، واستقسامكم بالأزلام من تزيين الشيطان لكم ، ودعائه إياكم إليه ، وتحسينه لكم ، لا من الأعمال التي ندبكم إليها ربكم ، ولا مما يرضاه لكم ، بل هو مما يسخطه لكم . فاجْتَنِبُوهُ يقول : فاتركوه وارفضوه ، ولا تعملوه . لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ يقول : لكي تنجحوا فتدركوا الفلاح عند ربكم ، بترككم ذلك . وقد بينا معنى الخمر والميسر والأزلام فيما مضى فكرهنا إعادته . وأما الأنصاب ، فإنها جمع نصب ، وقد بينا معنى النصب بشواهده فيما مضى .

ورُوِي عن ابن عباس في معنى الرجس في هذا الموضع ، ما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ يقول : سخط .

وقال ابن زيد في ذلك ، ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : رِجْسٌ مِنَ عَمَلِ الشّيْطانِ قال : الرجس : الشرّ .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّمَا ٱلۡخَمۡرُ وَٱلۡمَيۡسِرُ وَٱلۡأَنصَابُ وَٱلۡأَزۡلَٰمُ رِجۡسٞ مِّنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِ فَٱجۡتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (90)

الخطاب للمؤمنين جميعاً ، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين{[4695]} .

فأما { الخمر } فكانت لم تحرم بعد وأما { الميسر } ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضاً بوجه ما ، وأما { الأنصاب } وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها ، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية . فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة ، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها : أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئاً ؟ وذو الشرى صنم لدوس ، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام ، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له اجتنبه ، وأما { الأزلام } فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها في أحدها «لا » وفي الآخر «نعم » ، والآخر «غفل » ، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في وقت الهجرة ، فكانوا يعظمونها ، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو {[4696]} الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وقد يقال لسهام الميسر أزلام ، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضاً ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره ، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء { رجس } ، قال ابن زيد : الرجس الشر .

قال القاضي أبو محمد : كل مكروه ذميم{[4697]} ، وقد يقال للعذاب ، وقال ابن عباس في هذه الآية { رجس } سخط ، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس ، والرجز العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير ، والرجس يقال للأمرين ، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله { فاجتنبوه } نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم ، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة ، وقد تقدم تفسير لفظة { الخمر } ومعناها . وتفسير { الميسر } في سورة البقرة ، وتقدم تفسير { الأنصاب } والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة ، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات فقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها ، وقال : اللهم بين لنا فيها بياناً شافياً ، فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر انتهينا ، انتهينا{[4698]} وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا ، فتفاخرت الأنصار وقريش ، فقال كل فريق : نحن خير منكم ، فأخذ الأنصار َلْحَي جمل فضرب به أنف سعد ففزره ، فكان سعد أفزر الأنف ، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها{[4699]} .

وقال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده ، فيقول هذا فعل فلان بي ، فحدث بينهم في ذلك ضغائن ، فنزلت هذه الآيات في ذلك{[4700]} .

قال القاضي أبو محمد : وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة ، منها قصة حمزة حين جبَّ الأسنمة ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : وهل أنتم إلا عبيد أبي{[4701]} ، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون » فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } الآية{[4702]} ، ثم لم تزل النوازل تحزب{[4703]} الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية ، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل ، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير ، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء ، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب ، وهو مذهب مردود ، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس ، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام .

قال القاضي أبومحمد : وفي هذا نظر ، والاجتناب أن يجعل الشيء جانباً أو ناحية .


[4695]:- نقل القرطبي هذه العبارة عن ابن عطية أو غيره هكذا: "إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس، فكان نفي منها في نفوس كثير من المؤمنين". ومعنى نفي: بقية.
[4696]:- نقل القرطبي هذه العبارة عن ابن عطية هكذا: "قال ابن عطية: ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير.."
[4697]:- هذه الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره: الرجس.
[4698]:- رواه ابن جرير عن أبي ميسرة من عدة طرق. (تفسير الطبري).
[4699]:- أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والنحاس في ناسخه- عن سعد بن أبي وقاص. (الدر المنثور). هذا واللحي بفتح اللام وسكون الحاء: العظم الذي فيه الأسنان من كل ذل لحي- وهما لحيان. وفزر: شقّ
[4700]:- أخرجه عبد بن حميد، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي- عن ابن عباس. (الدر المنثور 2/315).
[4701]:- رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد- وخلاصته أن عليا رضي الله عنه ربط ناقتين له أمام دار أحد الأنصار، وكان حمزة في الدار يشرب الخمر، فثار حمزة إلى الناقتين فجبّ أسنمتهما وبقر خواصرهما، وأخبر علي النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق حتى دخل على حمزة فتغيظ عليه فرجّع حمزة بصره فقال: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج عنهم. وكان ذلك قبل تحريم الخمر. (المسند 1/ 142).
[4702]:-أخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس، والحاكم وصححه- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "صنع لنا عبد الرحمان بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون. "ونحن نعبد ما تعبدون"). فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون}. (الدر المنثور 2/165). والآية {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا} هي رقم (43) من سورة (النساء).
[4703]:- حزبه الأمر: اشتد عليه ونابه، وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى).