110- ولا تستبطئ يا محمد نصري ، فإن نصري قريب أكيد ، وقد أرسلنا من قبلك رسلا فاقتضت حكمتنا أن يتراخى عنهم نصرنا ، ويتطاول عليهم التكذيب من قومهم ، حتى إذا زلزلت نفوس واستشعرت القنوط أدركهم نصرنا ، فأنعمنا بالنجاة والسلامة على الذين يستأهلون منا إرادة النجاة وهم المؤمنون ، وأدرنا دائرة السوء على الذين أجرموا بالعناد وأصروا على الشرك ، ولا يدفع عذابنا وبطشنا دافع عن القوم المجرمين .
ثم حكى - سبحانه - سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا . . . }
وفى قوله { قَدْ كُذِبُواْ } وردت قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد الذال والثانية بالتخفيف .
وعلى القراءتين فالغاية في قوله - تعالى - { حتى إِذَا استيأس الرسل } غاية لكلام محذوف دل عليه السياق .
والمعنى على القراءة التي بالتشديد . لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس ، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم ، ووقفوا منهم موقف المنكر والمعاند والمحارب لهدايتهم ، وضاق الرسل ذرعاً بموقف هؤلاء الجاحدين ، حتى إذا استيأس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين ، وظنوا - أى الرسل - أن أقوامهم الجاحدين قد كذبوهم في كل ما جاءوهم به لكثرة إعراضهم عنهم ، وإيذائهم لهم .
. . أى : حتى إذا ما وصل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين جاءهم نصرنا الذي لا يتخلف .
والمعنى على القراءة الثانية التي هي بالتخفيف : حتى إذا يئس الرسل من إيمان أقوامهم يأساً شديداً ، وظن هؤلاء الأقوم أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاءوهم به ، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم . .
حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد ، جاء نصرنا الذي لا يتخلف إلى هؤلاء الرسل ، فضلاً منا وكرماً . . .
فالضمير في قوله { كُذِّبواْ } بالتشديد يعود على الرسل ، أما على قراءة التخفيف { كُذِبوا } فيعود إلى الأقوام الجاحدين .
ومنهم من جعل الضمير - أيضاً - على قراءة { كذبوا } بالتخفيف يعود على الرسل ، فيكون المعنى : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وظنوا - أى الرسل - أن نفوسهم قد كذبت عليهم في تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم لأن البلاء قد طال . والنصر قد تأخر . . جاءهم - أى الرسل - نصرنا الذي لا يتخلف .
قال الشيخ القاسمى في بيان هذا المعنى : قال الحكيم الترمذى : ووجهه - أى هذا القول السابق - أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر ، أن يتخلف النصر ، لا عن تهمة بوعد الله ، بل عن تهمة لنفوسهم أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط ، فكان النصر إذا طال انتظاره واشتد البلاء عليهم ، دخلهم الظن من هذه الجهة .
وهذا يدل على شدة محاسبة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لنفوسهم ، وحسن صلتهم بخالقهم - عز وجل - .
وقوله - سبحانه - { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } معطوف على ما قبله ، ومتفرع عليه .
أى : جاءهمنصرنا الذي وعدناهم به ، بأن أنزلنا العذاب على أعدائهم ، فنجا من نشاء إنجاءه وهم المؤمنون بالرسل ، ولا يرد بأسنا وعذابنا عن القوم المجرمين عند نزوله بهم .
يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى : { وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، وفي قوله : { كُذِبُوا } قراءتان ، إحداهما بالتشديد : " قد كُذِّبُوا " ، وكذلك كانت عائشة ، رضي الله عنها ، تقرؤها ، قال البخاري :
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، بن صالح ، عن ابن شهاب قال :
أخبرني عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } قال : قلت : أكُذِبوا أم كُذِّبوا ؟ فقالت عائشة : كُذِّبوا . فقلت : فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن ؟ قالت : أجل ، لعمري لقد استيقنوا بذلك . فقلت لها : وظنوا أنهم قد كذبوا ؟ قالت{[15389]} معاذ الله ، لم تكن{[15390]} الرسل تظن ذلك بربها . قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } ممّن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك .
حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرنا عُرْوَة ، فقلت : لعلها قد كُذِبوا مخففة ؟ قالت : معاذ الله . انتهى ما ذكره . {[15391]} وقال ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبى مُلَيْكة : أن ابن عباس قرأها : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } خفيفة - قال عبد الله هو ابن مُلَيْكة : ثم قال لي ابن عباس : كانوا بشرًا{[15392]} وتلا ابن عباس : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ، قال ابن جريج : وقال لي ابن أبي مليكة : وأخبرني عروة عن عائشة : أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت : ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من شيء إلا قد علم أنه سيكون حتى مات ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من المؤمنين قد كذَّبوهم . قال ابن أبي مليكة في حديث عروة : كانت عائشة تقرؤها " وظنوا أنهم قد كُذِّبوا " مثقلة ، للتكذيب .
وقال ابن أبي حاتم : أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال : إن محمد بن كعب القرظي يقول{[15393]} هذه الآية : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } فقال القاسم : أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : { حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } تقول : كذبتهم أتباعهم . إسناد صحيح أيضا .
والقراءة الثانية بالتخفيف ، واختلفوا في تفسيرها ، فقال ابن عباس ما تقدم ، وعن ابن مسعود ، فيما رواه سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحى ، عن مسروق ، عن عبد الله أنه قرأ : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } مخففة ، قال عبد الله : هو الذي تكره . {[15394]} وهذا عن ابن مسعود وابن عباس ، رضي الله عنهما ، مخالف لما رواه آخرون عنهما . أما ابن عباس فروى الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس في قوله : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم ،
جاءهم النصر على ذلك ، { فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ } {[15395]} وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعمران بن الحارث السلمي ، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس بمثله .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عارم{[15396]} أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا شعيب{[15397]} حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة{[15398]} الجزرِيّ قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة : { حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظن المرسَلُ إليهم أن الرسل كَذَبوا . فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا .
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر : أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ، فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه ، وقال : فرَّج الله عنك كما فَرجت عني .
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جَبْر ، وغير واحد من السلف ، حتى إن مجاهدا قرأها : " وظنوا أنهم قد كَذَبوا " ، بفتح الذال . رواه ابن جرير ، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله : { وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده إلى الكافرين منهم ، أي : وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا - مخففة - فيما وعدوا به من النصر .
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل{[15399]} عن جَحش{[15400]} بن زياد الضبي ، عن تميم بن حَذْلَم قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم{[15401]} وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا ، بالتخفيف{[15402]} . فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور ، وزيف القول الآخر بالكلية ، وردَّهُ وأبَاه ، ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم . {[15403]}