فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (110)

{ حتى } غاية لمحذوف دل عليه الكلام وتقديره وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا به بالعقوبة حتى { إذا استيأس الرسل } عن النصر بعقوبة قومهم ، أو حتى إذا استيأسوا من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر ، وقدره القرطبي إلا رجالا ثم لم نعاقب أمتهم حتى إذا ، وقدره ابن الجوزي إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا ، وقدره الزمخشري إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى ، وأحسنها ما قدمته وقال الواحدي : حتى هنا من حروف الابتداء يستأنف بعدها .

{ وظنوا أنهم قد كذبوا } قرأ جماعة من الصحابة وتابعيهم والكسائي والفراء بالتخفيف مبنيا للمفعول أي ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا .

وقيل المعنى ظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من النصر ، وقيل المعنى وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم أو كذبهم رجاؤهم النصر وقرأ الباقون كذبوا بالتشديد .

والمعنى عليها واضح ، أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب ، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد وقرأ مجاهد وحميد قد كذبوا بالتخفيف معروفا على معنى وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا . وقد قيل إن الظن في هذه الآية بمعنى اليقين لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم وليس ذلك مجرد ظن منهم والذي ينبغي أن يفسر الظن باليقين في مثل هذه الصورة ويفسر معناها الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة وقد أطال الخازن والخفاجي في بيان معنى هذه الآية بما ليس في ذكره كثير فائدة وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ .

{ جاءهم نصرنا } أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين .

وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قال : قلت أكذبوا أم كذبوا يعني هل هذه الكلمة مخففة أو مشددة ؟ فقالت بل كذبوا تعني بالتشديد قلت والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ، قالت أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت لعلها وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة ، قالت معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت فما هذه الآية قالت هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبوهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك .

وقال ابن عباس : كذبوا مخففة يقول اخلفوا وكانوا بشرا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ، قال عروة ، عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته وقالت : والله ما وعد الله رسوله من شيء إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم وكانت تقرأ مثقلة .

وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ { وظنوا أنهم قد كذبوا } مخففة أخرجه ابن مردويه من طريق عكرمة ، وعن ابن عباس أيضا أنه كان يقرأ قد كذبوا مخففة وقال : يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاؤهم به جاؤوهم نصرنا أي الرسل وبها قرأ ابن مسعود قال : استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين إبطاء النصر أنهم قد كذبوا وقال حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة يوسف أنهم قد كذبوا مخففة ، وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة .

{ فنجى من نشاء } من عبادنا عند نزول العذاب بالكافرين والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم وهلك المكذبون { ولا يرد بأسنا } أي عذابنا عند نزوله { عن القوم المجرمين } المشركين . قال ابن عباس : وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ، ومن أعرض عذب وغوى وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين .