اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (110)

قوله تعالى : { حتى إِذَا استيأس الرسل } الآية .

ليس في الكلام شيء يكون ، " حتَى " غاية له ؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيءٍ يصحُّ حلعه مغيًّا ب " حتَّى " .

فقدره الزمخشري : ما أرسلنا من قبلكَ رجالاً ، فتراخى نصرهم حتَّى .

وقدره القرطبيُّ : ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً ، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتَّى إذا .

وقدره ابن الجوزي : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً ، فدعوا قومهم فكذَّبوهم ، فطال دعاؤهم ، وتكذيب قومهم حتَّى إذا ، وأحسنها المقدم .

وذكر ابن عطيَّة شيئاً من معنى قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ } فقال : ويتضمن قوله " أفَلمْ يَسِيرُوا " إلى من قبلهم ، أنَّ الرُّسل الذين بعثهم الله تعالى من أهل القرى دعوهم ، فلم يؤمنوا حتى نزلت به المُثُلاث ، فصبروا في حيِّز من يعتبر بعاقبته ؛ فلهذا المضمَّن حسن أن تدخل " حتَّى " في قوله : " حتَّى إذَا " .

قال أبو حيان : ولم يتلخًّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد " حتَّى " غاية لهُ ؛ لأنَّه علَّق الغاية بما ادَّعى أنَّه فهم ذلك من قوله : " أفَلمْ يَسِيرُوا " ، قال شهاب الدِّين : قوله : " دَعوهُمْ فَلم يُؤمِنُوا " هو المُغَيَّا .

قوله { وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قرأ الكوفيُّون : " كُذِبُوا " بالتخفيف ، والباقون بالتثقيل .

فأما قراءة التَّثقيل ، فاضطربت فيه الأقوال : فرُوِي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت : " مَعاذَ اللهِ ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا " وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها ؛ لتواتر هذه القراءة ، وقد وجَّهت بأربعة [ أوجه ] :

أحدها : أن الضمير في " وظَنُّوا " عائدٌ على المرسل إليهم ؛ لتقدُّمهم في قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم ، والضمير في " أنَّهُمْ " و " كُُذِبُوا " عائد على الرسل والمعنى : وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا ، أي : كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي ، وينصرهم عليهم .

الثاني : أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل .

قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه : " حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون ، أو رجاؤهم ؛ لقولهم : رَجاءٌ صادقٌ ، ورجاءٌ كاذبٌ ، والمعنى : أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار ، وانتظار ، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا ؛ فجاءهم نصرنا " انتهى .

فقد جعل الفاعل المقدر : إما " أنْفُسُهم " ، وإما " رَجَاؤهم " ، وجعل الظَّنَّ بمعنى : التَّوهُّم ، فأخرجه عن معناه الأصليِّ ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين ، وعن مجازه ، وهو استعماله في المتيقين .

الثالث : أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل ، والظنُّ على بابه من التَّرجيح ، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ ، وابن مسعود ، وابن جبير ، وقالوا : والرُّسُل بشر ؛ فضعفوا ، وساء ظنُّهُم .

وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء : فإنها عبارة غليظة على الأنبياء ، وحاشا الأنبياء من ذلك ، ولذلك ردَّت عائشة ، وجماعة كثيرة هذا التأويل ، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك .

قال الزمخشريُّ : " إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس ، فقد أراد بالظَّنِّ ؛ ما يخطر بالبالِ ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة ، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة ، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر ؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين ، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم " .

قال شهاب الدِّين : " ولا يجوز أيضاً أن يقال : خطر ببالهم شبه الوسوسة ، فإن الوسوسة من الشيطان ، وهم معصومون منه " .

وقال الفارسي أيضاً : " إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى : ظن الرُّسل الذين وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا ؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء ، ولا إلى صالح عباد الله ، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا ، [ فظنوا ] أنهم قد أخلفوا ؛ لأن الله لا يخلف الميعاد ، ولا مبدِّل لكلماته " .

وقد روي عن ابن عباس أيضاً ، أنه قال : معناه : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا ؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر ، وقال : وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة : 214 ] .

الرابع : أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة ، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، قالوا : " و لايجوز عود الضمائر على الرسل ؛ لأنَّهم معصومون " .

ويحكى : أنَّ ابن جبير حين سئل عنها ، فقال : نعم ، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم ، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم ؛ فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضراً : " لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً " .

وأمَّا قراءة التشديد فواضحة ، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل ، أي : وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به ؛ لطول البلاءِ عليهم .

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت : " إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا ، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر ، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ " .

وبهذا يتَّحد معنى القراءتين ، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكن بمعنى : اليقين ، وأن يكن بمعنى : التوهُّم كما تقدَّم .

وقرأ ابن عبَّاس ، ومجاهد ، والضحاك رضي الله عنهم : " كَذبُوا " بالتخفيف مبنيًّا للفاعل ، والضمير على هذه القراءة في " وظنُّوا " عائدٌ على الأمم ، في أنَّهُم قد كذبوا ، عائد على الرسل ، أي : ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر ، أو من العقاب .

ويجوز أن يعود الضمير في " ظَنُّوا " على الرسل ، وفي " أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا " على المرسل إليهم ، أي : وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به ، والظنُّ هنا بمعنى : اليقين واضح .

ونقل أبو البقاء : " أنه قرىء مشدّداً مبنياً للفاعل ، وأوله : بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم " .

وقال الزمخشري بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل : " ولو قرىء بها مشددة لكان معناه : وظن الرسل أن قومهم قد كذَّبُوهم فيما وعدوهم " فلم يحفظها قراة ، وهي غريبة ، وكان قد جوَّز في القراءة المتقدمة : أن الضَّمائر كلَّها تعود على الرُّسل ، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدَّثوا به قومهم من النُّصرة : إمَّا على تأويل ابن عبَّاس ، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً ، قالوا لهم : قد كذبتمونا ، فيكونون كاذبين عند قومهم ، أي : وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوا " .

وقوله " جَاءَهُمْ " : جواب الشِّرط ، وتقدَّم الكلام في " حتَّى " هذه ما هِي ؟ . أي : لمَّا بلغ الحال إلى الحدِّ المذكور ؛ جاءهم نصرنا .

فإن قيل : لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق ، فكيف يحسن عود الضَّمير إليهم ؟ .

فالجواب : ذكر الرسل يدلُّ على ذكر المرسل إليهم ، أو يقول : إن ذكرهم جرى في قولهم : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ويكون الضمير عائداً عل الذين من قبلهم ، من مكذِّبي الرسل .

قوله : { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } قرأ عاصمٌ ، وابن عامر بنون واحدة ، وجيم مشددة ، وياء مفتوحة ؛ على أنَّه فعلٌ ماضي مبنيٌّ للمفعول ، و " مَنْ " : قائمة مقام الفاعل ، والباقون بنونين ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة ، والياء الساكنة على أنه مضارع أنْجَى ، و " مَنْ " مفعوله ، الفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال ، على معنى : فنفعل بهم ذلك ، وهه حكاية حالٍ ، ألا ترى أنَّ القصَّة فيما مضى ، وإنَّما حكى الحالح كقوله تعالى { هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } [ القصص : 15 ] إشارة إلى الحاضر ، والقصَّة ماضية .

وقرأ الحسن ، والجحدريُّ ، ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم ، إلا أنَّهم سكَّنوا الياء ، والأجود في تخريجها ما تقدَّم ، وسكِّنت الياء تخفيفاً ، كقراءة : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد سكِّن الماضي الصَّحيح ، فكيف بالمعتلِّ ؟

كقوله : [ مجزوء الرمل ]

3157 . . . . . . . . . . . . . . . . *** قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانْ

وتقدم من أمثاله .

وقيل : الأصل " نُنْجِي " بنونين ؛ فأدغم النون في الجيم ، وليس بشيء ؛ إذا النون لا تدغم في الجيم على أنَّه قد قيل بذلك في قوله : { نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنَّهم فتحوا الياء ، قال ابن عطيَّة : " رواها ابن عبيرة ، عن حفص ، عن عاصم ، وهي غلط من ابن هبيرة " .

قال شهابُ الدِّين : " توهَّم ابن عطيِّة أنه مضارع باقٍ على رفعة ، فأنكر فتح لامه وغلَّط راويها ، وليس بغلط ؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارع مقرون بالفاء ، جاز فيه أوجه :

أحدهما : نصبه بإضمار " أن " بعد الفاء ، وقد تقدَّم عند قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 284 ] إلى أن قال : " فَيَغْفِر " قرىء بنصبه ، وقد تقدم توجيهه ، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة ، أو غير جازمة كهذه الآية .

وقرأ الحسن أيضاً " فنُنَجِّي " بنونين ، والجيم مشددة ، والياء ساكنة مضارع " نَجَّى " مشددة للتكثير ، وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم ، وأبو حيوة : " َفَنَجَا " فِعْلا ماضياً مخففاً ، و " مَنْ " فاعله .

ونقل الدَّاني : أنه قرأ لابن محيصن كذلك ، إلا أنه شدِّد الجيم ، والفاعل ضمير النَّصر ، و " مَنْ : مفعوله ، ورجح بعضهم قراءة عاصم ؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها " فَنُجِّيَ " بنون واحدة ، نقله الداني ، ونقل مكي : أن أكثر المصاحب عليها ، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرَّسم ، ورجَّح أيضاً : بأنَّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية ، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء ، منحيث بناء الفعل [ للمعفول ] .

وقرأ أبو حيوة : " يَشَاءُ " بالياء ، وتقدَّم أنه قرأ " فَنَجَا " ، أي : فنجا من يشاء الله نجاته ، وهم المؤمنون المطيعون .

قوله : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } : عذابنا ، وقرأ الحسن " بَأسهُ " والضمير لله ، وفيها مخالفة للشواذُ ، " عَنِ القومِ المُجْرمينَ " أي : المشركين .