الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{حَتَّىٰٓ إِذَا ٱسۡتَيۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوٓاْ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُواْ جَآءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُۖ وَلَا يُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} (110)

{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } اختلف القُرّاء في قوله : { كُذِبُواْ } فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وأبي عبدالرحمن السلمي وعكرمة الضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي اسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد ، وعبدالله بن مسلم وابن يسار ، واختارها الكسائي وأبي عبيدة .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قرأ { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخفّفة وهي قراءة عائشة و [ هرقل ] الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبدالله بن كثير وعبدالله بن الحارث وأبي رجاء والحسن .

وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب ، ورويتْ أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قرأ بالتخفيف ، فمعناه : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب .

وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري : قال صنعت طعاماً فدعوتُ ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء ، قال : فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال : يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم ، وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم .

قال : فقال الضحّاك : ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا .

وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنَّت الرُسُل أنّهم قد كُذِبوا فيما وجدوا من النُصرة . وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } [ البقرة : 214 ] الآية ، ومن قرأ بالتشديد فمعناها ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرُسُل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرُنا ، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر :

فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب *** سراتهم في الفارسيّ المسردِ

أي أيقنوا .

وهذا معنى قول قتادة ، وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرُسُل ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم ، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا } وهذا معنى قول عائشة .

وقرأ مجاهد { كُذِبُوا } بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان : أحدهما : حتى إذا استيأس الرسل أن يُعذَب قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرُسُل قد كذبوا جاء الرُسل نصرنا ، والثاني : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم ، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل ، والله أعلم .

{ فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } عذابنا { عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } يعني المشركين ، واختلف القرّاء في قوله فنُجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك ، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأُخرى فقرأ : فنجّي بنون واحدة وتشديد الجيم ، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم يُسمَّ فاعله ، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان ، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن مُحيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعاً ، وعلى قراءة الباقين نصباً .