وكما افتتح - سبحانه - السورة الكريمة بالثناء على ذاته ، ختمها - أيضا - بالثناء والحمد ، فقد أثبت - عز وجل - أن علمه شامل لكل شئ . وأن قدرته نافذة على كل شئ ، وأنه - تعالى - هو المستحق للعبادة والطاعة ، فقال : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً . . . }
والمراد بالبحر : جنسه ، والمداد فى الأصل : اسم لكل ما يُمَد به الشئ ، واختص فى العرف لما تمد به الدواة من الحبر .
والمراد بكلمات ربى : علمه وحكمته وكلماته التى يصرف بها هذا الكون .
وقوله : { لنفد البحر } : أى لفنى وفرغ وانتهى . يقال : نفد الشئ ينفد نفادا ، إذا فنى وذهب ، ومنه قولهم : أنفد فلان الشئ واستنفده ، أى : أفناه .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس : لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التى تكتب بها كلمات ربى ومعلوماته وأحكامه . . لنفد ماء البحر ولم يبق منه شئ - مع سعته وغزارته - قبل أن تنفد كلمات ربى ، وذلك لأن ماء البحر ينقص وينتهى أما كلمات الله - تعالى - فلا تنقص ولا تنتهى .
وقوله - سبحانه - : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } زيادة فى المبالغة وفى التأكيد لما قبله من شمول علم الله - تعالى - لكل شئ ، وعدم تناهيه .
أى : وبعد نفاد ماء البحر السابق ، لو جئنا بماء بحر آخر مثله فى السعة والغزارة ، وكتبنا به كلمات الله - تعالى - لنفد - أيضاً - ماء البحر الثانى دون أن تنفد كلمات ربى .
فالآية الكريمة تصور شمول علم الله - تعالى - لكل شئ ، وعدم تناهى كلماته ، تصويراً بديعاً ، يقرب إلى العقل البشرى بصورة محسوسة كمال علم الله - تعالى - وعدم تناهيه .
قال الآلوسى : وقوله : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } : هذا كلام من جهته - تعالى شأنه - غير داخل فى الكلام الملقن ، جئ به لتحقيق مضمونه ، وتصديق مدلوله على أتم وجه . والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة ما ذكر عليها دلالة واضحة :
أى : لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته - تعالى - لو لم نجئ بمثله مدداً ، ولو جئنا بمثله مددا - لنفد أيضاً - .
وقال بعض العلماء : وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان ، لأن هذه الأشياء مخلوقة ، وجميع المخلوقات منقضية منتهية ، وأما كلام الله - تعالى - فهو من جملة صفاته ، وصفاته غير مخلوقة ولا لها حد ولا منتهى ، فأى سعة وعظمة تصورتها القلوب ، فالله - تعالى - فوق ذلك ، وهكذا سائر صفات الله - سبحانه - كعلمه وحكمته وقدرته ورحمته .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عز ذُكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد:"لَوْ كانَ البَحْرُ مِدَادا" لِلقلم الذي يُكتب به "كَلِماتِ رَبّي لَنَفِدَ "ماء "البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مددا" يقول: ولو مددنا البحر بمثل ما فيه من الماء مددا، من قول القائل: جئتك مددا لك، وذلك من معنى الزيادة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} يشبه أن يكون هذا خرج مقابل قوله: {ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء} (النحل: 89) وجوابه لما ذكر فيه {وتفصيل كل شيء} (يوسف: 111)... وقال الحسن: قوله {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي} أي لو قال ما خلق، وأملى أني خلقت كذا، وخلقت كذا، ويكتب جميع ما خلق، لبلغ القدر الذي ذكر. فيرجع تأوليه إلى ما خلق من أصناف الخلق وأجناس الأشخاص. وقال أبو بكر الأصم: قوله: {لكلمات ربي} لبيان ما خلق ربي، فهو يرجع إلى الأول. وقال: فائدة ما ذكر أمران، أحدهما: هو أن يعرفوا أن خلائقه وما أنشأ خارج عن الوقوع في الأوهام. فالذي أنشأ ذلك وخلقه أحرى أن يكون خارجا عن الوقوع في الأوهام والتصور فيها. والثاني: أن يعرفوا قدرته وسلطانه وإحاطة علمه بالخلائق وما أنشأ، فيعلموا أن من قدر على هذا فهو على البعث الذي أنكروا أقدر، ومن أحاط علمه بما ذكر فهو على الإحاطة بأفعالهم وأقوالهم أعلم وأعرف، ليكونوا على الحذر أبدا في كل وقت. ثم يحتمل قوله: {لكلمات ربي} حججه وآياته التي أقامها على وحدانيته وربوبيته؛ أي لو كتب ذلك لبلغ ذلك ما ذكر...
{ولو جئنا بمثله مددا} هذا ليس على التحدي، ولكن على التعظيم والإبلاغ. وهو ما قال: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده، سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} (لقمان: 27) دل هذا على أن قوله: {ولو جئنا بمثله مددا} أي ليس لذلك المدد حد ولا نهاية. ولكن ذكر على التعظيم له والإبلاغ. وفيه دلالة أن ليس لما خلق الله من العلوم من نهاية ولا غاية تدركه الخلائق...
وفيه أن ليس الأمر بتعلم العلم، والمقصود منه العلم نفسه، ولكن المقصود منه العمل بما يعلم؛ إذ ليس للعلوم نهاية ولا حد، يبلغ ذلك البشر. فدل أنه لما ذكرنا، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها، والمراد بالبحر الجنس {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ} الكلمات {وَلَوْ جِئْنَا} بمثل البحر مدداً لنفد أيضاً. والكلمات غير نافدة. و {مدَداً} تمييز، كقولك: لي مثله رجلاً. والمدد مثل المداد، وهو ما يمدّ به.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... الآية معلمة باتساع معلومات الله عز وجل، وأنها غير متناهية، وأن الوقوف دونها ليس ببدع ولا نكير، فعبر عن هذا بتمثيل ما يستكثرونه، وهو قوله {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي} و «الكلمات»: هي المعاني القائمة بالنفس، وهي المعلومات، ومعلومات الله سبحانه لا تناهى، و {البحر} متناه ضرورة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قُلْ} أي يا أشْرَفَ الخَلْقِ لهم: {لو كانَ البَحْرُ}... على عَظَمَتِه عندكم {مِدَاداً}... {لِكَلِمَاتِ}... {رَبِّي} أي المُحْسِنِ إليّ في وصْف ذلك و غيرِه مِمّا تَعَنَّتُّموهُ في السؤال عَمّا سألتم عنه أو غير ذلك {لَنَفِدَ} أي فَنِيَ مع الضّعف فَناءً لا تَدارُكَ له {البحرُ} لأنه جِسْمٌ مُتناهٍ...
ولَمّا كانت المخلوقاتُ -لِكونِها مُمكنةً- ليس لها مِن ذاتِها إلا العَدَمُ، وكانت الكلماتُ من صفات الله، وصفاتُ الله واجبةُ الوجودِ، فكان نفادُها مُحالاً، فكان نفادُ المُمْكنِ من البحر وما يمده بالنسبة إليها مُستغْرِقاً للأزمنة كلِّها، جَرَّدَ الظرفَ مِن حرف الجر فقال: {قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ}... {كَلِماتُ رَبِّي}... لأن معلوماتِه ومقدوراتِه لا تَتناهَى، وكلٌّ منها له شرحٌ طويلٌ، وخَطْبٌ جَليلٌ؛ ولَمّا لم يَكن أحدٌ غيرُه يَقْدِر على إمداد البحر قال: {ولو جِئْنَا} أي بما لنا مِن العظمة التي لا تكون لِغيرنا {بِمِثْلِه مَدَداً} أي له يُكْتَب منه لَنَفِدَ أيضاً، وهذا كلُّه كنايةٌ عن عدم النَّفاد، لأنه تعليقٌ على مُحالٍ عادةً... ولعله عَبَّر بجَمْع السلامةِ إشارةً إلى أن قليلَها بهذه الكثرةِ فكيف بما هو أكثرُ منه، وذلك أمرٌ لا يَدخُل تحت وصفٍ، وعَبَّرَ بالقَبْلِ دون أن يقال "ولم تَنْفَدْ "ونحوُه، لأن ذلك كافٍ في قَطْعِهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمِثْل ذلك ربّما فَتَح باباً من التّعَنُّت وهو أن يَجعَلوا الواوَ للحال فيَجْعَلوا النَّفادَ مُقَيَّداً بذلك...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قَبْلَ أَن تَنْفَدَ}... والمعنى مِنْ غَيْرِ أن تَنْفَدَ...
{كَلِمَاتُ رَبِّي}... وفي إضافة الكلماتِ إلى اسم الرَّبِّ المضافِ إلى ضميرِه صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضافِ وتشريفِ المضاف إليه ما لا يَخْفَى، وإظهارُ البحرِ والكلماتِ في موضع الإضمارِ لزيادة التّقريرِ {وَلَوْ جِئْنَا} كلامٌ مِن جِهَتِه تعالى غيرُ داخلٍ في الكلام المُلَقَّنِ جِيءَ به لتحقيق مضمونِه وتصديقِ مدلولِه مع زيادة مبالغةٍ وتأكيدٍ، والواوُ لِعطف الجملةِ على نظيرتِها المُستأنَفةِ المُقابِلةِ لها المحذوفةِ لدِلالة المذكورةِ عليها دَلالةً واضحةً، أي لَنَفِدَ البحرُ مِن غيرِ نفادِ كلماتِه تعالى لو لم نجِئ بمِثْلِه مَدَداً ولو جئنا، بقدرتِنا الباهرةِ {بِمِثْلِهِ مَدَداً}...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وليس قوله تعالى: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ} للدلالة على أنّ ثَمَّ نفاداً في الجملة مُحَقَّقاً أو مُقَدَّراً لأن المراد منه لَنَفِدَ البحرُ وهي باقيةٌ إلا أنه عُدِلَ إلى المُنزل لفائدة المزاوَجةِ وإنّ ما لا يَنفَد عند العقول العامية يَنفَد دونَ نفادِها وكلما فرضت من المَدّ فكذلك والمَثَلُ للجنس شائعٌ على أمثالٍ كثيرةٍ تفرض كلٌّ منها مَدَداً، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان: 27]. وذلك أَبْلَغُ مِن وجهٍ آخَرَ وهو ما في تخصيص هذا العدد مِن النُّكْتة ولم يرد تخصيص العِدَّةِ ثم فيه زيادةُ تصويرٍ لِمَا استَقرَّ في عقائد العامّةِ من أنها سبعةٌ حتى إذا بالَغوا فيما يَتعذَّر الوصولُ إليه قالوا هو خَلْفَ سبعةِ أَبْحُرٍ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا مِن باب تقريبِ المعنى إلى الأذهان، لأنّ هذه الأشياءَ مخلوقة ٌ، وجميعُ المخلوقاتِ، مُنْقَضِيَةٌ مُنتهِيةٌ، وأما كلامُ الله، فإنه مِن جُملة صفاتِه، وصفاتُه غيرُ مخلوقةٍ، ولا لها حَدٌّ ولا مُنْتَهىً، فأيُّ سَعَةٍ وعَظَمةٍ تَصَوَّرَتْها القلوبُ فاللهُ فوقَ ذلك، وهكذا سائرُ صفاتِ اللهِ تعالى، كعِلمه، وحِكمتِه، وقدرتِه، ورحمتِه، فلو جُمع عِلمُ الخلائقِ مِن الأوَّلِين والآخِرِين، أهلِ السماوات وأهلِ الأرض، لَكانَ بالنِّسبة إلى عِلم العظيمِ، أَقَلَّ مِن نِسبة عصفورٍ وَقَعَ على حافَة البحرِ، فأخَذ بمِنقارِه من البحر بالنسبة للبحر وعظمتِه، ذلك بأنّ اللهَ، له الصِّفاتُ العظيمةُ الواسعةُ الكاملةُ، وأنّ إلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر. والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون؛ وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون أنه غزير! فالسياق يعرض لهم البحر بسعته وغزارته في صورة مداد يكتبون به كلمات الله الدالة على علمه؛ فإذا البحر ينفد وكلمات الله لا تنفد. ثم إذا هو يمدهم ببحر آخر مثله، ثم إذا البحر الآخر ينفد كذلك وكلمات الله تنتظر المداد! وبهذا التصوير المحسوس والحركة المجسمة يقرب إلى التصور البشري المحدود معنى غير المحدود، ونسبة المحدود إليه مهما عظم واتسع. والمعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صورة محسوسة. ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صور وأشكال وخصائص ونماذج.. ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود، فكيف بغير المحدود؟ لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس؛ ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد، ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال على مثال هذا المثال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لَمَّا ابتُدِئتْ هذه السورةُ بالتَّنويه بشأن القرآنِ ثم أُفيضَ فيها مِن أفانِينِ الإرشاد والإنذارِ والوعْدِ والوَعيدِ، وذُكِرَ فيها مِن أحسن القصصِ ما فيه عِبرةٌ ومَوعظةٌ، وما هو خَفِيٌّ من أحوال الُأمِم، حُوِّلَ الكلامُ إلى الإيذان بأن كلَّ ذلك قليلٌ مِن عظيمِ عِلْمِ اللهِ تعالى. فهذا استئنافٌ ابتدائيٌّ وهو انتقالٌ إلى التنويه بِعِلم الله تعالى مُفِيضِ العِلمِ على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن المشركين لَمّا سَألوه عن أشياءَ يَظنُّونَها مُفْحِمةً للرسول وأَنْ لا قِبَلَ له بِعِلمِها عَلَّمَه اللهُ إياها، وأَخبَر عنها أصدقَ خَبَرٍ، وبَيَّنَها بأقصى ما تَقْبَلُه أفهامُهم وبما يَقْصُرُ عنه عِلمُ الذين أَغْرَوا المشركين بالسؤال عنها، وكان آخِرها خبر ذي القرنين، أَتْبَعَ ذلك بما يُعْلَم منه سَعَةُ عِلْمِ اللهِ تعالى وسَعةُ ما يَجري على وَفْقِ عِلمِه من الوحي إذا أراد إبلاغَ بعضِ ما في عِلمِه إلى أحدٍ مِن رُسله. وفي هذا رَدُّ عَجُزِ السُّورةِ على صَدْرِها...
{قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِماتِ رَبِّي...} الآية. وكَلماتُ اللهِ: ما يَدُلُّ على شيءٍ مِن عِلمِه مما يوحي إلى رُسله أَنْ يُبَلِّغوه، فكلُّ معلومٍ يُمكِن أنْ يُخْبَر به. فإذا أُخْبِرَ به صار كلمةً، ولذلك يُطْلَقُ على المعلومات كلماتٌ، لأن الله أَخبَر بكثيرٍ منها ولو شاء لأَخْبَر بغيره، فإطلاقُ الكلماتِ عليها مَجازٌ بعلاقةِ المَآلِ...
ولَمّا كان شأنُ ما يُخبِر اللهُ به على لسان أحدِ رُسلِه أن يُكتَب حِرْصاً على بقائه في الأُمّة، شُبِّهتْ معلوماتُ الله المُخبَرُ بها والمُطْلَقُ عليها كلماتٌ بالمكتوبات، ورُمز إلى المشبه به بما هو مِن لَوازِمه وهو المِداد الذي به الكتابةُ على طريقة المَكْنِيَّةِ، وإثباتُ المدادِ تخييلٌ كتخيُّل الأظفار للمَنِيّةِ...
ويجوز أن يكون هنا تشبيه كلماتِ الله بالسِّراج المُضيءِ، لأنه يَهدي إلى المطلوب، كما شُبِّهَ نورُ اللهِ وهَدْيُه بالمصباح في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] ويكون المدادُ تَخْيِيلاً بالزيت الذي يُمَدُّ به السِّراجُ...
واللام في قوله {لِكَلِماتِه} لامُ العِلّة، أي لأجْل كلماتِ رَبِّي. والكلامُ يُؤْذِنُ بمُضافٍ محذوفٍ، تقديرُه: لِكتابةِ كلماتِ ربِّي، إذ المدادُ يُرادُ للكتابة وليس البحرُ مِمّا يُكتَب به ولكنّ الكلامَ بُنِيَ على المفروض بواسطةِ (لَوْ)...
والنَّفادُ: الفَناءُ والاِضمِحْلالُ، ونفادُ البحرِ ممكنٌ عقلاً. وأمّا نَفادُ كلماتِ الله بمعنى تَعَلُّقاتِ عِلمِه فمستحيلٌ، فلا يُفهَم مِن تقييد نفادِ كلماتِ الله بِقَيْدِ الظَّرْفِ وهو {قَبْلَ} إمْكانُ نفادِ كلماتِ الله؛ ولكنْ لَمّا بُنِيَ الكلامُ على الفَرْضِ والتقديرِ بما يَدلُّ عليه (لَوْ) كان المعنى لَوْ كان البحرُ مِداداً لِكلماتِ رَبِّي وكانتْ كلماتُ رَبّي مِمّا يَنْفَدُ لَنَفِدَ البحرُ قَبْلَ أن تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبّي...
{ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِه مَدَداً}... و {لو} وَصْلِيّةٌ، وهي الدّالّةُ على حالةٍ هي أَجْدَرُ الأحوالِ بأنْ لا يَتَحَقَّقَ معها مُفادُ الكلامِ السابقِ فيُنبَّه السامعُ على أنها مُتحقِّقٌ معها مُفادُ الكلامِ السابقِ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
معنى كلمة الله: كيف يتصور المخلوق آفاق الخالق؟ هل هناك حدودٌ معينةٌ، أم أنّ هناك الأفق المطلق الذي لا حدّ له ولا آخر؟ إن هذه الآية تتحدث عن بعض ذلك، وتحاول أن تقرِّب للإنسان ملامح الصورة، ليعيش تصور المطلق من خلال تصور المحدود، ولكن بأسلوبٍ يوحي بالامتداد بما يقرب من أجواء المطلق. إنها تتحدث عن كلمات الله والكلمة هي معنى يوجد باللفظ فهل أن كلمات الله هي الألفاظ الصادرة منه؟ وهل يمكن صدور الكلمة من الله كما تصدر من الإنسان من الفم، والله ليس جسداً يتكلم بالمعنى المادي للكلام؟! إن الكلمة قد تكون تعبيراً عن كل فعلٍ يصدر من الله في مسألة الخلق والإيجاد، وهذا ما عبّر عنه الله في كل مظاهر إرادته في حركة الأشياء في قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وذلك من خلال المضمون الداخلي للكلمة، باعتبار أنه دالٌّ على الفعل. وهذا هو الذي جعل المسيح (عليه السلام) في خلقه كلمة الله، باعتبار أنه الدليل على وجوده وقدرته وعظمته. وربما كان المراد منها علم الله، باعتبار أن الكلام في مضمونه يمثِّل المعنى الحيّ للمعرفة، فيكون المراد من كلمات الله معلوماته. وقد يكون المعنى الأول هو الأقرب باعتبار الأسلوب القرآني الذي جاءت فيه الكلمة منسجمة معه، كما أشرنا إليه آنفاً. ولكن مسألة المعلومات لا تبتعد عن الجو في ما يريد القرآن دائماً أن يؤكده من إحاطة الله بالكون كله وبالحياة وبالإنسان من خلال علمه الواسع المطلق. ولا يتنافى هذا الفهم مع المعنى الأول الذي قد يكون شاملاً للكلمة التي تعبر عن المضمون المتجسِّد للواقع في ما يعنيه فعل الله من ذلك، كما يكون شاملاً للكلمة التي تعبر عن المعرفة بواسطة موادّها في الحياة، ليكون كناية عن الاثنين معاً، حيث يتحرك علم الله في كل آفاق الحياة التي هي خلقه وفعله وإرادته التكوينية في الوجود...
وهكذا ينطلق التصور البشري للمطلق من خلال المحدود، ويقف الإنسان حائراً أمام الحقيقة المطلقة، ليجد نفسه عاجزاً عن الوصول إلى أيّة نتيجةٍ إيجابيةٍ حاسمةٍ في هذا الاتجاه، في حدود المعرفة الإنسانية، الأمر الذي يوحي للإنسان بالتواضع أمام العلم المطلق، والإرادة المطلقة، والقدرة المطلقة... مهما ملك العالمون من أسباب العلم ومهما وصلوا إليه من مفرداته، لأن ذلك كله عبارةٌ عن بعض خلق الله، في ما صنعه الله في خلقه، وما أوحى به للإنسان من علمه، فكيف يمكن له أن يطغى في علمه، أو في قدرته؟!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كأنّما القرآن يريد أن يقول في هذه الآيات: إِنَّ الاِطِّلاع على قصّة أصحاب الكهف، وموسى والخضر، وذي القرنين، يعتبر لا شيءَ إِزاء عِلم الله غيرِ المحدود، لأنَّ عِلمَهُ سبحانه وتعالى ومعرفتَهُ تشمَل كافةَ الكائنات وعالمَ الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل...
والقرآن الكريم بدلا مِن أن يقول: إِنَّ مخلوقات عالم الوجود تتجاوز في كثرتها الرقم الذي تقع على يمينه مئات الكيلومترات مِن الأصفار، يقول: إِذا تحولت جميع الأشجار إلى أقلام، وكل البحار إلى مواد وحبر، فإِنَّ الأقلام ستتكسر ومياه البحار ستنتهي، ولا تنتهي أسرار ورموز وحقائق عالم الوجود، هذه الأسرار التي يحيط بها جميعاً علم الله تعالى. فكروا جيداً وتأملوا المقدار الذي يستطيع أن يكتبهُ القلم، ثمّ ما هو عدد الأقلام التي يمكن صناعتها مِن غصن واحد صغير من شجرة معينة؟ ومعلوم أن باستطاعتنا صناعة آلاف بل حتى ملايين الأقلام مِن شجرة كبيرة عظيمة، ولنا أن نتصوّر الكمية من الأقلام التي يمكن صنعها مِن أشجار الأرض جميعاً وغاباتها! من الجهة الثّانية لنا أن نتصوّر عدد الكلمات التي يمكن كتابتها مِن قطرة حبر واحدة، ثمّ علينا أن نتصوَّر ما نستطيع كتابته مِن حوض واحد، فبحيرة واحدة، فبحر واحد، فمحيط، ومِن ثمّ جميع بحار الأرض ومحيطاتها! إِنَّ الحصيلة بلا شك ستكون رقماً عجيباً وخيالياً!! وتتوضح عظمة المثال القرآني إِذا عرفنا أنَّ رقم (سبع) ليسَ للتحديد، بل هو إِشارة للكثرة، ومعنى هذا الكلام أنّنا لو أضفنا لهذا العدد أضعافه مِن البحار، فإِنَّ كلمات الله لا تنفد. والآن لِنتصور الحيوية والروح الدافقة في هذا العدد، والشاهد الحي الذي يبعث اليقظة في روح الإِنسان، ويشغل فكره ويجعلهُ يفكِّر في آفاق اللانهاية! إِنَّ العدد الذي يتضمنه المثال القرآني يحس بعظمته الجميع سواء كانوا رياضيين أو أميين. نعم، إِنَّ علم الله تعالى هو أعلى وأوسع مِن هذا العدد. علم غير محدود ولا مُتناهي. علم يشمل كل الوجود، سابقاً وحاضراً ومستقبلا، وهو يضم في طياته كل الأسرار والحقائق!...