والمراد بالأرض فى قوله - تعالى - : بعد ذلك : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا . . . } أرض المحشر .
وأصل الإِشراق : الإِضاءة . يقال : أشرقت الشمس إذا أضاءت ، وشرقت : إذا طلعت .
قال ابن كثير : وقوله : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا } أى : أضاءت - الأرض - يوم القيامة ، إذا تجلى الحق - تبارك وتعالى - للخلائق لفصل القضاء .
والمراد بالكتاب فى قوله - تعالى - : { وَوُضِعَ الكتاب } صحائف الأعمال التى تكون فى أيدى أصحابها .
فالمراد بالكتاب جنسه ، أى : أعطى كل واحد كتابه إما بيمينه . وإما بشماله . وقيل المراد بالكتاب هنا : اللوح المحفوظ الذى فيه أعمال الخلق .
{ وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } أى : وبعد أن أعطى كل إنسان صحائف أعماله جئ بالنبيين لكى يشهدوا على أممهم أنهم بلغوهم ما كلفهم الله بتبليغه إليهم ، وجئ بالشهداء وهم الملائكة الذين يسجلون على الناس أعمالهم من خير وشر ، كما قال - تعالى - :
{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } وقيل المراد بهم : من استشهدوا فى سبيل الله .
ثم بين - سبحانه - مظاهر عدالته فى جمل حكيمة فقال : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق } أى : وقضى - سبحانه - بين الجميع بقضائه العادل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أى : نوع من الظلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأضاءت الأرض بنور ربها... وذلك حين يبرز الرحمن لفصل القضاء بين خلقه...
وقوله:"وَوُضِعَ الكِتَابُ" يعني: كتاب أعمالهم لمحاسبتهم ومجازاتهم... وقوله: "وَجِيءَ بالنّبِيّينَ والشّهدَاءِ "يقول: وجيء بالنبيين ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم، وردّت عليهم في الدنيا، حين أتتهم رسالة الله "والشهداء"، يعني بالشهداء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يستشهدهم ربهم على الرسل، فيما ذكرت من تبليغها رسالة الله التي أرسلهم بها ربهم إلى أممها، إذ جحدت أممهم أن يكونوا أبلغوهم رسالة الله، والشهداء: جمع شهيد، وهذا نظير قول الله: "وكَذلكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَداءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا"...
وقوله: "وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحَقّ" يقول تعالى ذكره: وقضي بين النبيين وأممها بالحقّ، وقضاؤه بينهم بالحق، أن لا يحمل على أحد ذنب غيره، ولا يعاقب نفسا إلا بما كسبت.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويستضيء بذلك النور والإشراق قوم دون قوم. الكفار يبقون في الظلمات، والمؤمنون نورهم يسعى بين أيديهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قد استعار الله عزّ وجلّ النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك، والمعنى: {وَأَشْرَقَتِ الأرض} بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه؛ لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض؛ لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور.
وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما تقول: أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الظلم ظلمات يوم القيامة" وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم.
وقرىء: «واشرقت» على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم، وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف، ولذلك كذب به الكفار؛ أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين؛ إشارة إلى هوانه، وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك، وكذا ما بعده من الأفعال، زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال: {ووضع الكتاب} أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به.
ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال: {وجاء بالنبيين} للشهادة على أممهم بالبلاغ.
ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال: {والشهداء} أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين.
{وقضى بينهم} أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم.
ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال:
{بالحق} بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل.
ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال، وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله: {وهم} أي باطناً وظاهراً.
{لا يظلمون} أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً، ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
علم من هذا، أن الأنوار الموجودة تذهب يوم القيامة وتضحمل، وهو كذلك، فإن اللّه أخبر أن الشمس تكور، والقمر يخسف، والنجوم تندثر، ويكون الناس في ظلمة، فتشرق عند ذلك الأرض بنور ربها، عندما يتجلى وينزل للفصل بينهم، وذلك اليوم يجعل اللّه للخلق قوة، وينشئهم نشأة يَقْوَوْنَ على أن لا يحرقهم نوره، ويتمكنون أيضا من رؤيته، وإلا فنوره تعالى عظيم، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
صوَّرت هذه الآيات جلال ذلك الموقف وجمالَه أبدع تصوير:
التعريف في {الأرض} تعريف العهد الذكري الضمني فقد تضمن قوله: {فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] أنهم قيام على قَرار؛ فإن القيام يستدعي مكاناً تقوم فيه تلك الخلائق وهو أرض الحشر وهي الساهرة في قوله تعالى في سورة [النازعات: 13، 14]: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وفُسرت بأنها الأرض البيضاء النقية.
وإشراق الأرض انتشار الضوء عليها، يقال: أشرقت الأرض، ولا يقال: أشرقت الشمسُ، كما تقدم عند قوله: {بالعشي والإشراق} في سورة [ص: 18].
وإضافة النور إلى الرب إضافة تعظيم؛ لأنه منبعث من جانب القدس وهو الذي في قوله تعالى:
{اللَّه نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} الآية من سورة [النور: 35]. فإضافة نور إلى الرب إضافة تشريف للمضاف كقوله تعالى: {هذه ناقة اللَّه لكم آية} [الأعراف: 73]، كما أن إضافة (رب) إلى ضمير الأرض لتشريف المضاف إليه، أي بنور خاص خلقه الله فيها لا بسطوع مصباح ولا بنور كوكب شمس أو غيرها، وإذ قد كان النور نوراً ذاتياً لتلك الأرض كان إشارة إلى خلوصها من ظلمات الأعمال فدل على أن ما يجري على تلك الأرض من الأعمال والأحداث حق وكمال في بابه؛ لأن عالم الأنوار لا يشوبه شيء من ظلمات الأعمال، ألا ترى أن العالم الأرضي لمّا لم يكن نَيِّراً بذاته بل كان نوره مقتبساً من شروق الشمس والكواكب ليلاً كان ما على وجه الأرض من الأعمال والمخلوقات خليطاً من الخير والشر، وهذا يغني عن جعل النور مستعاراً للعدل فإن ذلك المعنى حاصل بدلالة الالتزام كناية، ولو حُمل النور على معنى العدل لكان أقل شمولاً لأحوال الحق والكمال، وهو يغني عنه قوله: {وقُضِي بينهم بالحق وهم لا يُظلمون}، هذا هو الوجه في تفسير الآية وقد ذهب فيها المفسرون من السلف والخلف طرائق شتى.
{الكِتَاب} تعريفُه تعريف الجنس، أي وضعت الكُتب وهي صحائف أعمال العباد أحضرت للحساب بما فيها من صالح وسيئ، والوضع: الحطّ، والمراد به هنا الإِحضار.
ويجوز أن يكون المراد بالكتاب كتب الشرائع التي شرعها الله للعباد على ألْسنة الرسل ويكون إحضارها شاهدة على الأمم بتفاصيل ما بلَّغه الرسل إليهم لئلا يزعموا أنهم لم تبلغهم الأحكام.
وقد صوَّرت الآية صورة المَحْكمة الكاملة التي أشرقت بنور العدل، وصدر الحكم على ما يستحقه المحكوم فيهم من كرامة ونذالة، ولذلك قال: {وقضي بينهم بالحق} أي صدر القضاء فيهم بما يستحقون وهو مسمى الحَق، فمِن القضاء ما هو فصل بين الناس في معاملات بعضهم مع بعض من كل ظالم ومظلوم ومعتدٍ ومعتدىً عليه في اختلاف المعتقدات واختلاف المعاملات قال تعالى: {إن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} [النحل: 124].