وبعد أن أنبهم القرآن الكريم فى هذه الآية على كفرهم وضلالهم ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم فى آية ثانية أن يوبخهم على محاولتهم إضلال غيرهم فقال - تعالى - : { قُلْ يا أهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } وقوله : { تَصُدُّونَ } من الصد وهو صرف الغير عن الشىء ومنعه منه . يقال : صد يصد صدودا ، وصدا .
وقوله : { سَبِيلِ الله } أى طريقه الموصلة إليه وهى ملة الإسلام .
وقوله : { تَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى تطلبون العوج والميل لسبيل الله الواضحة والميل بها عن القصد والاستقامة ، وتريدون أن تكون ملتوية غير واضحة فى أعين المهتدين ، كما التوت نفوسكم ، وانحرفت عقولكم .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف قال تبغونها عوجا وهو محال ؟ قلت : فيه معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها اعوجاجا بقولكم إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها وغير ذلك .
والثانى : أنكم تتعبون أنفسكم فى إخفاء الحق ابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم " .
وقوله : { مَنْ آمَنَ } مفعول به لتصدون . والضمير المنصوب فى قوله : { تَبْغُونَهَا } يعود إلى سبيل الله أى تبغون لها فحذفت اللام كما فى قوله - تعالى - : ( وَإِذَا كَالُوهُمْ ) أى كالوا لهم . وقوله : { عِوَجاً } مفعول به لتبغون .
وبعضهم جعل الضمير المنصوب فى { تَبْغُونَهَا } وهو الهاء هو المفعول . وجعل عوجا حال من سبيل الله . أى تبغونها أن تكون معوجة وتريدونها فى حال عوج واضطراب .
وقوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } حال من فاعل { تَصُدُّونَ } أو { تَبْغُونَ } .
أى والحال أنكم تعلمون بأن سبيل الإسلام هى السبيل الحق علم من يعاين ويشاهد الشىء على حقيقته فجحودكم عن علم وكفركم ليس عن جهل ، ولقد كان المتوقع منكم يا من ترون الحق الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابكم ، أن تكونوا أول الساعين إلى الإيمان به ، ولكن الحسد والعناد حالا بينكم وبين الانتفاع بالنور الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد لهم ووعيد على ضلالهم ومحاولتهم إضلال غيرهم ، لأنه - سبحانه - ليس غافلا عن أعمالهم ، بل هو سيجازيهم على هذه المسالك الخبيثة بالفشل والذلة فى الدنيا ، وبالعذاب والهوان فى الآخرة ولما كان صدهم المؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حياتهم ، ببيان أن الله - تعالى - محيط بكل ما يصدر عنهم من أقوال أو أعمال وليس غافلا عنها . بخلاف الآية الأولى فقد كان كفرهم بطريق العلانية إذ ختمت ببيان أن الله مشاهد لما يعملونه ولما يجاهرون به .
ويسجل الله تعالى عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به ، ويصدون الناس عنه :
مما يجزم بأنهم كانوا على يقين من صدق ما يكذبون به ، ومن صلاح ما يصدون الناس عنه . وهو أمر بشع مستنكر ، لا يستحق فاعله ثقة ولا صحبة ، ولا يستأهل إلا الاحتقار والتنديد !
ولا بد من وقفة أمام وصفة تعالى لهؤلاء القوم بقوله :
( لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا . . . ؟ )
إنها لفتة ذات مغزى كبير . . إن سبيل الله هو الطريق المستقيم . وما عداه عوج غير مستقيم . وحين يصد الناس عن سبيل الله ؛ وحين يصد المؤمنون عن منهج الله ، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها ، والموازين كلها تفقد سلامتها ، ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم .
إنه الفساد . فساد الفطرة بانحرافها . وفساد الحياة باعوجاجها . . وهذا الفساد هو حصيلة صد الناس عن سبيل الله وصد المؤمنين عن منهج الله . . وهو فساد في التصور . وفساد في الضمير . وفساد في الخلق . وفساد في السلوك . وفساد في الروابط . وفساد في المعاملات . وفساد في كل ما بين الناس بعضهم وبعض من ارتباطات . وما بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه من أواصر . . وإما أن يستقيم الناس على منهج الله فهي الاستقامة والصلاح والخير ، وإما أن ينحرفوا عنه إلى آية وجهه فهو العوج والفساد والشر . وليس هنالك إلا هاتان الحالتان ، تتعاوران حياة بني الإنسان : استقامة على منهج الله فهو الخير والصلاح ، وانحراف عن هذا المنهج فهو الشر والفساد !
و«صد » معناه : أعرض عن الشيء وانصرف عنه ، وهو فعل يقف ويتعدى بلفظ واحد ، تقول : صددت عن كذا ، وصددت غيري عنه ، فالذي في هذه الآية هو الفعل المتعدي ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «تُصِدون » بضم التاء وكسر الصاد ، وهذا هو الفعل الواقف ، نقل بالهمزة فعدي ، و { سبيل الله } في هذه الآية ، هو الإسلام الذي هو طريق إلى رضى الله وجنته ، و { من } مفعولة ب { تصدون } والضمير في { تبغونها } عائد على السبيل ، ومعنى «تبغون » على ما فسر الزجّاج والطبري وغيرهما : تطلبون فالمعنى تطلبون لها العوج ، أي الاعوجاج والانفساد ، تقول العرب : أبغني كذا بألف موصولة ، بمعنى اطلبه لي ، فإذا أرادوا أعني على طلبه واطلبه معي ، قطعوا الألف مفتوحة وقيل : إن تبغون هنا ، من البغي الذي هو التعدي ، أي تبغون عليها ، ويكون ، { عوجاً } على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في «تبغون » أي «عوجاً » منكم وعدم استقامة ، والعوج بكسر العين : ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام ، والعَوج بفتح العين ، ما كان في الأجرام ، كالجدار والعصا ونحو ذلك ، قال ابن قتيبة : والأرض خاصة من الأجرام يقال فيها : عِوج بكسر العين ، ومنه قول الله تعالى : { لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً }{[10]} قال بعض اللغويين هما لغتان بمعنى واحد ، وقوله تعالى : { وأنتم شهداء } ، يريد جمع شاهد ، على ما في التوراة من صفة محمد وصدقه ، وباقي الآية وعيد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل يا أهل الكتاب}: يعني اليهود. {لم تصدون عن سبيل الله}: عن دين الإسلام، {من آمن تبغونها عوجا}: يعني بملة الإسلام زيغا، {وأنتم شهداء}: أن الدين هو الإسلام، وأن محمدا رسول الله ونبي، {وما الله بغافل عما تعملون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله، {لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ}: لم تضلون عن طريق الله ومحجته التي شرعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان {مَنْ آمَنَ}: من صدّق بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله {تَبْغُونَها عِوَجا}: تبغون لها عوجا والهاء والألف اللتان في قوله: {تَبْغُونَها} عائدتان على السبيل، وأنثها لتأنيث السبيل.
وأما العِوَجُ: فهو الأوَدُ والميل، وإنما يعني بذلك الضلال عن الهدى يقول جلّ ثناؤه: ولِمَ تَصُدّون عن دين الله من صدّق الله ورسوله، تبغون دين الله اعوجاجا عن سننه واستقامته وخرج الكلام على السبيل، والمعنى لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحقّ عوجا، يقول: ضلالاً عن الحقّ وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة. والعِوَج بكسر أوله: الأود في الدين والكلام، والعَوَج بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم.
{وأنْتُمْ شُهَدَاءُ}: شهداء على أن الذي تصدّون عنه من السبيل حق تعلمونه وتجدونه في كتبكم. {وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْلَمُونَ}: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعلمونها مما لا يرضاه لعباده، وغير ذلك من أعمالكم حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجلة، أو يؤخر ذلك لكم، حتى تلقوه، فيجازيكم عليها.
وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله: {يا أهْلِ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ} والآيات بعدهما إلى قوله: {فأُولَئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ} نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء، فعنفه الله بفعله ذلك وقبح له ما فعل ووبخه عليه، ووعظ أيضا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف... عن زيد بن أسلم، قال: مرّ شاس بن قيس، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جماعتهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم لها من قرار فأمر فتى شابا من اليهود وكان معه، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم وذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الاَن جَذَعَةً. وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة، والظاهرة: الحَرّة فخرجوا إليها وتحاور الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال: «يا مَعشرَ المسلِمينَ اللّهَ اللّهَ، أبدَعْوَى الجاهليّةِ وأنَا بينَ أظهرُكمْ بعدَ إذْ هداكُمُ اللّهُ إلى الإسلامِ، وأكرَمكُمْ بهِ، وقطعَ بهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجاهليّةِ، واستنقذكُمْ بهِ مِنَ الكفرِ وألّفَ بهِ بَينَكُمْ، ترْجعونَ إلى ما كُنْتمْ عليهِ كُفّارا» فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا. ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوّ الله شاس بن قيس وما صنع، فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع: {يا أهلَ الكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآياتِ اللّهِ واللّهُ شَهِيدٌ على ما تَعْمَلُونَ يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجا}... الآية وأنزل الله عزّ وجلّ في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا مما أدخل عليهم شاس بن قيس من أمر الجاهلية {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا فَرِيقا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ كافِرينَ} إلى قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
وقيل: إنه عنى بقوله: {يا أهْلَ الكِتابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ} جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات والنصارى، وأن صدّهم عن سبيل الله كان بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم، هل يجدون ذكره في كتبهم أنهم لا يجدون نعته في كتبهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وما الله بغافل عما تعملون} هو حرف وعيد وتنبيه، لأن من علم [أن عليه رقيبا وحافظا] فيكون أحذر وأخوف ممن لم يكن عليه ذلك. وفيه أنه لا غفلة [عن الذي] يكون منكم، ولكن على علم لتعلموا أنه لا للحاجة خلقكم بل إظهار الغني والسلطان له، جل جلاله، وعم نواله...
إن قيل: قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم، فلا يصح لكم الاحتجاج بقوله: {لتكونُوا شُهَدَاءَ على النَّاسِ} [البقرة:143] في صحة إجماع الأمّة وثبوت حجته. قيل له: إنه جَلّ وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم، وقال هناك: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة:143] كما قال: {ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة:143] فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم؛ وقال في هذه الآية: {وأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} ومعناه غير معنى قوله: {شهداء على الناس} [البقرة:143] وقد قيل في معناه وجهان، أحدهما: {وأنْتُمْ شُهَدَاءُ} أنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى؛ وذلك في أهل الكتاب منهم. والثاني: أن يريد بقوله: {شُهَدَاءُ} عقلاء، كما قال الله تعالى: {أو ألقى السمع وهو شهيد} [ق:37] يعني: وهو عاقل؛ لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أنها سبيل الله التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلّ، أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم، عدول يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم أمورهم، وهم الأحبار...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
العِوج -بكسر العين-: ما كان في الأمور والحجج غير الأجرام، والعَوج -بفتح العين-، ما كان في الأجرام، كالجدار والعصا ونحو ذلك...
ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم ذكر بعد ذلك الإنكار عليهم في إضلالهم لضعفة المسلمين فقال: {قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من ءامن}...
ثم قال: {وما الله بغافل عما تعملون} والمراد التهديد... وإنما ختم الآية الأولى بقوله {والله شهيد} وهذه الآية بقوله {وما الله بغافل عما تعملون} وذلك لأنهم كانوا يظهرون الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يظهرون إلقاء الشبه في قلوب المسلمين، بل كانوا يحتالون في ذلك بوجوه الحيل فلا جرم قال فيما أظهروه {والله شهيد} وفيما أضمروه {وما الله بغافل عما تعملون} وإنما كرر في الآيتين قوله {قل يا أهل الكتاب} لأن المقصود التوبيخ على ألطف الوجوه، وتكرير هذا الخطاب اللطيف أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريقتهم في الضلال والإضلال وأدل على النصح لهم في الدين والإشفاق...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
كرر الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع ونفي العذر لهم، وإشعارا بأن كل واحد من الأمرين مستقبح في نفسه مستقل باستجلاب العذاب...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قيل: وفي قوله: {وأنتم شهداء} دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لأنه تعالى سماهم شهداء، ولا يصدق هذا الاسم إلا على من يكون له شهادة. وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض، وهو قول أبي حنيفة وجماعة. والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم استأنف إيذاناً بالاستقلال تقريعاً آخر لزيادتهم على الكفر التكفير فقال: {قل يا آهل الكتاب} أي المدعين للعلم واتباع الوحي، كرر هذا الوصف لأنه مع أنه أبعد في التقريع أقرب إلى التلطف في صرفهم عن ضلالهم {لم تصدون} أي بعد كفركم {عن سبيل الله} أي الملك الذي له القهر والعز والعظمة والاختصاص بجميع صفات الكمال، وسبيله دينه الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه اهتماماً به. ثم ذكر المفعول فقال: {من أمن} حال كونكم {تبغونها} أي السبيل {عوجاً} أي بليكم ألسنتكم وافترائكم على الله...
ولما ذكر صدهم وإرادتهم العوج الذي لا يرضاه ذو عقل قال موبخاً: {وأنتم شهداء} أي باستقامتها بشهادتكم باستقامة دين إبراهيم مع قيام أدلة السمع والعقل أنها دينه وأن النبي والمؤمنين أولى الناس به لانقيادهم للأدلة. ولما كان الشهيد قد يغفل، وكانوا يخفون مكرهم في صدهم، هددهم بإحاطة علمه فقال: {وما الله} أي الذي تقدم أنه شهيد عليكم وله صفات الكمال كلها {بغافل} أي أصلاً {عما تعملون *}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يسجل الله تعالى عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به، ويصدون الناس عنه: (وأنتم شهداء).. مما يجزم بأنهم كانوا على يقين من صدق ما يكذبون به، ومن صلاح ما يصدون الناس عنه. وهو أمر بشع مستنكر، لا يستحق فاعله ثقة ولا صحبة، ولا يستأهل إلا الاحتقار والتنديد! ولا بد من وقفة أمام وصفة تعالى لهؤلاء القوم بقوله: (لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا...؟) إنها لفتة ذات مغزى كبير.. إن سبيل الله هو الطريق المستقيم. وما عداه عوج غير مستقيم. وحين يصد الناس عن سبيل الله؛ وحين يصد المؤمنون عن منهج الله، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها، والموازين كلها تفقد سلامتها، ولا يكون في الأرض إلا العوج الذي لا يستقيم. إنه الفساد. فساد الفطرة بانحرافها. وفساد الحياة باعوجاجها.. وهذا الفساد هو حصيلة صد الناس عن سبيل الله وصد المؤمنين عن منهج الله.. وهو فساد في التصور. وفساد في الضمير. وفساد في الخلق. وفساد في السلوك. وفساد في الروابط. وفساد في المعاملات. وفساد في كل ما بين الناس بعضهم وبعض من ارتباطات. وما بينهم وبين الكون الذي يعيشون فيه من أواصر.. وإما أن يستقيم الناس على منهج الله فهي الاستقامة والصلاح والخير، وإما أن ينحرفوا عنه إلى أية وجهة فهو العوج والفساد والشر. وليس هنالك إلا هاتان الحالتان، تتعاوران حياة بني الإنسان: استقامة على منهج الله فهو الخير والصلاح، وانحراف عن هذا المنهج فهو الشر والفساد!...
هب أنكم خبتم في ذواتكم، وحملتم وزر ضلالكم؛ فلماذا تحملون وزر إضلالكم للناس؟
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
من خلال هاتين الآيتين نكتشف طبيعة الأسلوب التقريري، الذي يريد أن يقرّر الحقيقة للآخرين في نوعية مواقفهم بطريقة توجيه الخطاب إليهم، لتنكشف اللعبة من خلال كشف اللاعبين أمام أنفسهم وأمام الآخرين، في جوّ من التهديد الخفيّ الذي يشعرون معه بأنَّ أعين اللّه النفاذة إلى الأعماق لا تغفل عن كلّ ذلك، مهما كان حجمه ومهما كانت نتائجه، ليعيشوا القلق الروحي الذي قد يدفعهم إلى التراجع عن مواقفهم، ويمنعهم عن الامتداد بعيداً في ما يمتدون به من خطوات الغيّ والضلال، أو يفضحهم في عيون الآخرين، فلا يستطيعون أن يُضللوا ويُفسدوا في أقوالهم وأفعالهم.