ثم لما أنكر [ عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار ] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين ، فقال : { قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ } ؟
" لم " : متعلق بالفعل بعده ، و " من آمن " مفعوله والعامة على " تُصِدُّون " - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً .
وقرأ الحسن{[1]} " تُصِدُّونَ " - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى " صَدَّ " اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [ الطويل ]
أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ *** . . . {[2]}
قال الفراء : يقال : صَدَدتُه ، أصُدُّه ، صَدًّا . وأصْدَدتهُ ، إصْداداً .
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين ، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم .
قوله : { تَبْغُونَهَا } يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً ، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال ، وهو أظهر من الأول ؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله : { وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } . { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } . [ البقرة : 84 ] .
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قُلْنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنه فاعل " تَصُدُّونَ " .
والثاني : أنه { سَبِيلِ اللَّهِ } .
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما .
والضمير في { تَبْغُونَهَا } يعود على { سَبِيلِ } فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] .
فَلاَ تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ *** سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا{[3]}
أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يُراد ب " تَبْغُونَ " تطلبون .
قال الزجَّاج{[4]} والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً .
تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : اطْلُبه لي ، وأبْغِني كذا - بقطع الألف - أي : أعِنِّي على طلبه .
قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب .
وههنا أريد يبغون لها عوجاً ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها ، كما قالوا وهبتك درهماً ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صِدْتُك ظبياً ، أي : صدت لك .
فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى *** أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا{[5]}
ومثله : " جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا " ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب " .
والثاني : أنه حال من فاعل " تَبْغُونََهَا " وذلك أن يُراد ب " تبغون " معنى تتعدّون ، والبغي : التَّعَدِّي .
والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها .
قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح - المَيْل ، ولكن العرب فرَّقوا بينهما ، فخَصُّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح .
قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر . المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ ، وبالفتح في الحائط والجِذْع .
وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً ، وبالفتح فيما له شَخْصٌ .
وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعِوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم .
وقال الراغب{[6]} : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع ، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب ، ونحوه ، و العِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس ؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه .
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى : { لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [ طه : 107 ] - سؤالاً ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني ؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله .
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [ الوافر ]
تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا *** كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ{[7]}
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا *** نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ{[8]}
وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر .
والعاجُ : العَظْم ، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان : " اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج " .
قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل ؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [ الطويل ]
فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْ تَحْلَ عَاجَةً *** وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ{[9]}
قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً .
وقوله : كَخَاصِي العير ، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ ، فيقال : جاء كخاصي العير .
والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحياً . ويقال : عاج بالمكان ، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن ، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام - : " ها أنتم عائجون " أي مقيمون .
هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا *** نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ ؟{[10]}
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب " عائجون " في البيت : سائلون ومُلْتفتون .
وفي الحديث : " ثم عاج رأسه إليها " أي : التفت إليها .
والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق ، وهو بَيِّن العَوَج . والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب . والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً ، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج .
قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } حال ، إما من فاعل " تَصُدُّونَ " ، وإما من فاعل " تَبْغُونهَا " ، وإما مستأنف وليس بظاهر و " شهداء " جمع شهيد أو شاهد كما تقدم .
ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد .
وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله ، وهذا على أنَّ " عِوَجاً " في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضَالينَ .
قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام{[11]} . وقيل : وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صلى الله عليه وسلم .
وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ .
وقيل : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } عُدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويُعوّلون على شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ ، والضلالِ والإضلالِ ؟
ثم قال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله : { وَاللَّهُ شَهِيدٌ } ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره : { وَاللَّهُ شَهِيدٌ } ، وختم هذه الآيةَ بقوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير .
وكرر في الآيتين قوله : { قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ } ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.