اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (99)

ثم لما أنكر [ عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار ] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين ، فقال : { قُلْ يأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ } ؟

" لم " : متعلق بالفعل بعده ، و " من آمن " مفعوله والعامة على " تُصِدُّون " - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً .

وقرأ الحسن{[1]} " تُصِدُّونَ " - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى " صَدَّ " اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [ الطويل ]

أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ *** . . . {[2]}

قال الفراء : يقال : صَدَدتُه ، أصُدُّه ، صَدًّا . وأصْدَدتهُ ، إصْداداً .

وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين ، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم .

قوله : { تَبْغُونَهَا } يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً ، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال ، وهو أظهر من الأول ؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله : { وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } . { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } . [ البقرة : 84 ] .

فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قُلْنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان :

أحدهما : أنه فاعل " تَصُدُّونَ " .

والثاني : أنه { سَبِيلِ اللَّهِ } .

وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما .

والضمير في { تَبْغُونَهَا } يعود على { سَبِيلِ } فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] .

وقول الشاعر : [ الوافر ]

فَلاَ تَبْعَدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ *** سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا{[3]}

قوله ( عوجاً ) فيه وجهان :

أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يُراد ب " تَبْغُونَ " تطلبون .

قال الزجَّاج{[4]} والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً .

تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : اطْلُبه لي ، وأبْغِني كذا - بقطع الألف - أي : أعِنِّي على طلبه .

قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب .

وههنا أريد يبغون لها عوجاً ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها ، كما قالوا وهبتك درهماً ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صِدْتُك ظبياً ، أي : صدت لك .

قال الشاعر : [ الخفيف ]

فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى *** أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا{[5]}

يريد : أصيد لكم ظليماً ؟

ومثله : " جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا " ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب " .

والثاني : أنه حال من فاعل " تَبْغُونََهَا " وذلك أن يُراد ب " تبغون " معنى تتعدّون ، والبغي : التَّعَدِّي .

والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها .

قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح - المَيْل ، ولكن العرب فرَّقوا بينهما ، فخَصُّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح .

قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر . المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ ، وبالفتح في الحائط والجِذْع .

وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً ، وبالفتح فيما له شَخْصٌ .

وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعِوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم .

وقال الراغب{[6]} : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع ، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب ، ونحوه ، و العِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس ؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه .

وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى : { لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [ طه : 107 ] - سؤالاً ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني ؟

وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله .

والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [ الوافر ]

تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا *** كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ{[7]}

وقول امرئ القيس : [ الكامل ]

عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا *** نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ{[8]}

أي : ولم تميلوا ، ومِيلاَ .

وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر .

والعاجُ : العَظْم ، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان : " اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج " .

قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل ؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [ الطويل ]

فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْ تَحْلَ عَاجَةً *** وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ{[9]}

قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً .

وقوله : كَخَاصِي العير ، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ ، فيقال : جاء كخاصي العير .

والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحياً . ويقال : عاج بالمكان ، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن ، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام - : " ها أنتم عائجون " أي مقيمون .

وأنشدوا للفرزدق : [ الوافر ]

هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا *** نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ ؟{[10]}

كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب " عائجون " في البيت : سائلون ومُلْتفتون .

وفي الحديث : " ثم عاج رأسه إليها " أي : التفت إليها .

والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق ، وهو بَيِّن العَوَج . والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب . والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً ، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج .

قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } حال ، إما من فاعل " تَصُدُّونَ " ، وإما من فاعل " تَبْغُونهَا " ، وإما مستأنف وليس بظاهر و " شهداء " جمع شهيد أو شاهد كما تقدم .

فصل

ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد .

وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله ، وهذا على أنَّ " عِوَجاً " في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضَالينَ .

قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام{[11]} . وقيل : وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صلى الله عليه وسلم .

وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ .

وقيل : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } عُدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويُعوّلون على شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ ، والضلالِ والإضلالِ ؟

ثم قال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله : { وَاللَّهُ شَهِيدٌ } ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره : { وَاللَّهُ شَهِيدٌ } ، وختم هذه الآيةَ بقوله : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير .

وكرر في الآيتين قوله : { قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَبِ } ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[2]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/605) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[3]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/612، 613) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (/605) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[4]:أخرجه البخاري (4/301)، كتاب: فضل ليلة القدر، باب: التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (2015)، ومسلم (2/822)، كتاب: الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها... رقم (205- 1165).
[5]:تقدم.
[6]:سقط من: ب.
[7]:تقدم.
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.