الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قُلۡ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ تَبۡغُونَهَا عِوَجٗا وَأَنتُمۡ شُهَدَآءُۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (99)

قوله تعالى : { لِمَ تَصُدُّونَ } : " لِمَ " متعلقٌ بالفعلِ بعده ، و " مَنْ آمن " مفعولٌ ، وقولُه " يَبْغُونها " يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً أَخْبَرَ عنهم بذلك ، وأَنْ تَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال ، وهو أظهرُ من الأول لأنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ جِيء بعدها بجملةٍ حاليةٍ أيضاً وهي قوله : { وأنتم تَشْهَدون } فتتفقُ الجملتان في انتصابِ الحال عن كل منهما ، ثم إذا قلنا بأنها حالٌ ففي صاحبِها احتمالان ، أحدُهما : أنه فاعل " تَصُدُّون " ، والثاني : أنه " سبيل الله " وإنما جاز الوجهان لأن الجملةَ اشتملَتْ على ضميرِ كلٍّ منهما .

والعامة على " تَصُدُّون " بفتح التاء من صَدَّ يَصُدُّ ثلاثياً ، ويستعمل لازماً ومتعدياً . وقرأ الحسن : " تُصِدُّون " بضمِّ التاء من أَصَدَّ مثل أَعَدَّ ، ووجهُه أَنَّ يكونَ عَدَّى " صَدَّ " اللازم بالهمزة ، قال ذو الرمة :

أُناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهمُ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

و " عِوَجا " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ به ، وذلك أن يُراد تبغون : تَطْلُبون ، قال الزجاج والطبري : " تطلبون لها اعوجاجاً ، تقول العربُ : " ابغِني كذا " بوصلِ . الألف أي : اطلبه لي و " أَبْغني كذا " بقطع الألف أي : أَعِنِّي على طلبه ، قال الأنباري : " البَغْيُ يُقْتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك : بَغَيْتُ المال والأجر والثواب ، وههنا أريد : يبغون لها عوجاً ، فلمَّا سَقَطَتِ اللامُ عَمِلَ الفعلُ فيما بعدَها كما قالوا : " وَهَبْتُك درهماً " يريدون : وَهَبْتُ لك ، ومثلُه : " صُدْتُكَ ظَبْياً " أي : صُدْتُ لك ، قال الشاعر :

فَتَولَّى غلامُهمْ ثم نادَى *** أَظَلِيماً أَصِيدُكم أَمْ حِمارا

يريد : أَصِيدُ لكم ظَلِيماً ومثلُه : " جَنَيْتُكَ كَمْأَةً وجَنَيْتُك رُطَباً " والأصلُ : جَنَيْتُ لك ، فَحَذَفَ ونَصَبَ " .

والثاني : أنه حالٌ من فاعل " يَبْغُونَها " وذلك أَنْ يُرادَ ب " تَبْغُون " معنى تتعَدَّوْن ، والبَغْيُ التعدِّي ، والمعنى : تَبْغُون عليها أو فيها . قال الزجاج : " كأنه قال : تَبْغُونها ضالِّين " .

والعِوَج بالكسر والعَوَج بالفتح المَيْلُ ، ولكنَّ العرب فَرَّقوا بينهما ، فَخَصُّوا المكسورَ بالمعاني والمفتوحَ بالأعيانِ ، تقول : في دينه وكلامِه عِوَجٌ بالكسر ، وفي الجِدارِ عِوَجٌ بالفتح . قال أبو عبيدة : " العِوَج بالكسر المَيْلُ في الدين والكلام والعمل ، وبالفتح في الحائط والجذع " وقال أبو إسحاق : " بالكسر فيما لا ترى له شخصاً ، وبالفتح فيما له شخصٌ وقال صاحب " المجمل " :

" بالفتح في كلِّ منتصبٍ كالحائط ، والعِوج يعني بالكسر ما كان في بساطٍ أو دين أو أرض أو معاش " فقد جعل الفرقَ بينهما بغير ما تقدم . وقال الراغب : " العِوَجُ : العَطْفُ عن حالِ الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعيرَ بزِمامه ، وفلان ما يَعُوجُ عن شيءٍ يَهُمُّ به أي يَرْجَع ، والعَوَج يعني بالفتح / يقال فيما يُدْرك بالبصر كالخشب المنتصِب ونحوه ، والعِوَج يقال فيما يدرك بفكرٍ وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عِوَج فيُعرف تفاوتُه بالبصيرة وكالدين والمعاش " قلت : وهذا قريبٌ من قول ابنِ فارس لأنه كثيراً ما يَأْخذ منه .

وقد سأل الزمخشري في سورة طه عند قوله { لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [ طه : 107 ] حاصلُه يرجع إلى أنه كيف قيل : عِوَج بالكسر في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني ؟ وأجاب هناك بجواب حسن سيأتي بيانه إن شاء الله ، والسؤال إنما يجيء على قول أبي عبيدة والزجاج المتقدم ، وأمَّا على قول ابن فارس والراغب فلا يَرِدُ .

ومِنْ مجيءِ العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملةُ قولُه :

تَمُرُّون الديارَ ولم تَعُوجوا *** كلامُكُمُ عليَّ إذاً حَرامُ

وقولُ امرىء القيس :

عُوجا على الطَّلَلِ المُحيل لأننا *** نبكي الديارَ كما بكى ابنُ حِذَامِ

أي : ولم تميلوا ، ومِيلا . وأَمَّا قولهم : " ما يَعيج زيدٌ بالدواء " أي : ما ينتفِعُ به فمِنْ مادةٍ أخرى ومعنى آخر . والعاجُ : هذا العظمُ ألفُه مجهولةٌ ، لا نعلم : أمنقلبةٌ عن واو أو ياء ، وفي الحديث : أنه قال لثوبان " اشترِ لفاطمةَ سِواراً من عاج " قال القتيبي : " العاجُ : الذَّبْلُ " ، وقال أبو خراش الهذلي في امرأة :

فجاءَتْ كخاصِي العَيْر لم تَحْلَ جاجةً *** ولا عاجةً منها تلوحُ على وَشْمِ

قال الأصمعيّ : " العاجةُ : الذَّبْلَةُ ، والجاجة : تخمينُ خرزةٍ ما يساوي فلساً ، وقوله كخاصي العَيْر : هذا مَثَلٌ تقوله العرب لِمَنْ جاء مُسْتَحْيِياً من أمرٍ فيقال : " " جاء كخاصِي العَيْر " والعَيْر : الحِمار ، يعنون جاء مستحيياً .

ويقال : عاجَ بالمكانِ وعَوَج به أي : أقام وقطن وفي حديث اسماعيل عليه السلام : " ها أنتم عَائجون " أي مقيمون ، وأنشدوا لجرير :

هَلَ انْتُمْ عائِجُونَ بِنَا لَغَنَّا *** نَرَى العَرَصاتِ أو أثرِ الخيامِ

كذا أنشدَ هذا البيتَ الهرويُّ مستشهداً به على الإِقامةِ ، وليس بظاهر ، بل المرادُ بعائجون في البيت مائِلُون وملتفتون ، وفي الحديث : " ثم عاجَ رأسَه إليها " أي التفت إليها .

و " ها " في " يَبْغُونها " عائدةٌ على سبيل ، والسبيل يُذكَّر ويؤنَّث كما تقدَّم ، ومن التأنيث هذه الآيةُ ، وقوله تعالى : { هَذِهِ سَبِيلِي } [ يوسف : 108 ] وقول الآخر :

فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتى أُناسٍ *** سيصبحُ سالكاً تلك السَّبيلا

قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } حال : إمَّا من فاعلٍ " تَصُدُّون " وإمَّا من فاعل " تَبْغُون " ، وإمَّا مستأنفٌ ، وليس بظاهرٍ ، وتقدَّم أنَّ " شهداء " جمعُ شهيد أو شاهد .