110- ولا تستبطئ يا محمد نصري ، فإن نصري قريب أكيد ، وقد أرسلنا من قبلك رسلا فاقتضت حكمتنا أن يتراخى عنهم نصرنا ، ويتطاول عليهم التكذيب من قومهم ، حتى إذا زلزلت نفوس واستشعرت القنوط أدركهم نصرنا ، فأنعمنا بالنجاة والسلامة على الذين يستأهلون منا إرادة النجاة وهم المؤمنون ، وأدرنا دائرة السوء على الذين أجرموا بالعناد وأصروا على الشرك ، ولا يدفع عذابنا وبطشنا دافع عن القوم المجرمين .
ثم حكى - سبحانه - سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا . . . }
وفى قوله { قَدْ كُذِبُواْ } وردت قراءتان سبعيتان إحداهما بتشديد الذال والثانية بالتخفيف .
وعلى القراءتين فالغاية في قوله - تعالى - { حتى إِذَا استيأس الرسل } غاية لكلام محذوف دل عليه السياق .
والمعنى على القراءة التي بالتشديد . لقد أرسلنا رسلنا لهداية الناس ، فأعرض الكثيرون منهم عن دعوتهم ، ووقفوا منهم موقف المنكر والمعاند والمحارب لهدايتهم ، وضاق الرسل ذرعاً بموقف هؤلاء الجاحدين ، حتى إذا استيأس الرسل الكرام من إيمان هؤلاء الجاحدين ، وظنوا - أى الرسل - أن أقوامهم الجاحدين قد كذبوهم في كل ما جاءوهم به لكثرة إعراضهم عنهم ، وإيذائهم لهم .
. . أى : حتى إذا ما وصل الرسل إلى هذا الحد من ضيقهم بأقوامهم الجاحدين جاءهم نصرنا الذي لا يتخلف .
والمعنى على القراءة الثانية التي هي بالتخفيف : حتى إذا يئس الرسل من إيمان أقوامهم يأساً شديداً ، وظن هؤلاء الأقوم أن الرسل قد كذبوا عليهم فيما جاءوهم به ، وفيما هددوهم به من عذاب إذا ما استمروا على كفرهم . .
حتى إذا ما وصل الأمر بالرسل وبالأقوام إلى هذا الحد ، جاء نصرنا الذي لا يتخلف إلى هؤلاء الرسل ، فضلاً منا وكرماً . . .
فالضمير في قوله { كُذِّبواْ } بالتشديد يعود على الرسل ، أما على قراءة التخفيف { كُذِبوا } فيعود إلى الأقوام الجاحدين .
ومنهم من جعل الضمير - أيضاً - على قراءة { كذبوا } بالتخفيف يعود على الرسل ، فيكون المعنى : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم ، وظنوا - أى الرسل - أن نفوسهم قد كذبت عليهم في تحديد موعد انتصارهم على أعدائهم لأن البلاء قد طال . والنصر قد تأخر . . جاءهم - أى الرسل - نصرنا الذي لا يتخلف .
قال الشيخ القاسمى في بيان هذا المعنى : قال الحكيم الترمذى : ووجهه - أى هذا القول السابق - أن الرسل كانت تخاف بعد أن وعدهم الله النصر ، أن يتخلف النصر ، لا عن تهمة بوعد الله ، بل عن تهمة لنفوسهم أن تكون قد أحدثت حدثاً ينقض ذلك الشرط ، فكان النصر إذا طال انتظاره واشتد البلاء عليهم ، دخلهم الظن من هذه الجهة .
وهذا يدل على شدة محاسبة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لنفوسهم ، وحسن صلتهم بخالقهم - عز وجل - .
وقوله - سبحانه - { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } معطوف على ما قبله ، ومتفرع عليه .
أى : جاءهمنصرنا الذي وعدناهم به ، بأن أنزلنا العذاب على أعدائهم ، فنجا من نشاء إنجاءه وهم المؤمنون بالرسل ، ولا يرد بأسنا وعذابنا عن القوم المجرمين عند نزوله بهم .
ثم يصور ساعات الحرج القاسية في حياة الرسل ، قبيل اللحظة الحاسمة التي يتحقق فيها وعد الله ، وتمضي فيها سنته التي لا تتخلف ولا تحيد :
( حتى إذا استيأس الرسل ، وظنوا أنهم قد كذبوا ، جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) .
إنها صورة رهيبة ، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل ، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود . وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل ، وتكر الأعوام والباطل في قوته ، وكثرة أهله ، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة .
إنها ساعات حرجة ، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر . والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض . فتهجس في خواطرهم الهواجس . . تراهم كذبوا ؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا ؟
وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر . وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ؟ . . . ) ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس ، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة ، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات ، وما يحس به من ألم لا يطاق .
في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة . . في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا :
( جاءهم نصرنا ، فنجي من نشاء ، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ) . .
تلك سنة الله في الدعوات . لا بد من الشدائد ، ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة . ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس . يجيء النصر من عند الله ، فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون . ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمرا ماحقا لا يقفون له ، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير .
ذلك كي لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا . فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا . أو تكلفه القليل . ودعوات الحق لا يجوز أن تكون عبثا ولا لعبا . فإنما هي قواعد للحياة البشرية ومناهج ، ينبغي صيانتها وحراستها من الأدعياء . والأدعياء لا يحتملون تكاليف الدعوة ، لذلك يشفقون أن يدعوها ، فإذا ادعوها عجزوا عن حملها وطرحوها ، وتبين الحق من الباطل على محك الشدائد التي لا يصمد لها إلا الواثقون الصادقون ؛ الذين لا يتخلون عن دعوة الله ، ولو ظنوا أن النصر لا يجيئهم في هذه الحياة !
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل ؛ إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه الأرض ، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة ! والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات الجاهلية - والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعةوالاتباع في أي زمان أو مكان - يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة ، ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل ! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون القوة والمال ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيض والأبيض أسود ! ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله ، باستثارة شهواتها وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات ! . . ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة التكاليف ، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا . وأنه من ثم لا تنضم إليها - في أول الأمر - الجماهير المستضعفة ، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله ، التي تؤثر حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة ، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا . وأن عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا .
ولكن الله يفتح بينهم وبين قومهم بالحق ، بعد جهاد يطول أو يقصر . وعندئذ فقط تدخل الجماهير في دين الله أفواجا .
{ حتى إذا استيأس الرسل } غاية محذوف دل عليه الكلام أي لا يغررهم تمادي أيامهم فإن من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا ، أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفهين متمادين فيه من غير وازع . { وظنوا أنهم قد كُذبوا } أي كذبتم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون ، أو كذبهم القوم بوعد الإيمان . وقيل الضمير أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم بالدعوة والوعيد . وقيل الأول للمرسل إليهم والثاني للرسل أي وظنوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم . وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم الله من النصر ، إن صح فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب عن طريق الوسوسة . هذا وأن المراد به المبالغة في التراخي والإمهال على سبيل التمثيل . وقرأ غير الكوفيين بالتشديد أي وظن الرسل أن القوم قد كذبوهم فيما أوعدوهم . وقرئ { كذبوا } بالتخفيف وبناء الفاعل أي وظنوا أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به عند قومهم لما تراخى عنهم ولم يروا له أثرا . { جاءهم نصرنا فنُنجي من نشاء } النبي والمؤمنين وإنما لم يعينهم للدلالة على أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم لا يشاركهم فيه غيرهم وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب على لفظ الماضي المبني للمفعول وقرئ فنجا { ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } إذا نزل بهم وفيه بيان للمشيئين .
ويتضمن قوله تعالى : { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوا أممهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات ، صاروا في حيز من يعتبر بعاقبته ، فلهذا المضمن حسن أن تدخل { حتى } في قوله : { حتى إذا استيأس الرسل }{[6867]} .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والحسن وعائشة - بخلاف - وعيسى وقتادة ومحمد بن كعب والأعرج وأبو رجاء وابن أبي مليكة «كُذّبوا » بتشديد الذال وضم الكاف ، وقرأ الباقون «كُذِبوا » بضم الكاف وكسر الذال{[6868]} وتخفيفها - وهي قراءة علي بن أبي طالب وأبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطلحة والأعمش وابن جبير ومسروق والضحاك وإبراهيم وأبي جعفر ، ورواها شيبة بن نصاح عن القاسم عن عائشة - وقرأ مجاهد والضحاك وابن عباس وعبد الله بن الحارث - بخلاف عنهم - «كَذَبوا » بفتح الكاف والذال ، فأما الأولى فتحتمل أن يكون الظن بمعنى اليقين ، ويكون الضمير في { ظنوا } وفي { كذبوا } للرسل ، ويكون المكذبون مشركي من أرسل إليه ؛ المعنى : وتيقن الرسل أن المشركين كذبوهم وهموا على ذلك وأن الانحراف عنه ويحتمل أن يكون الظن على بابه ، والضميران للرسل ، والمكذبون مؤمنو من أرسل إليه ، أي مما طالت المواعيد حسب الرسل أن المؤمنين أولاً قد كذبوهم وارتابوا بقولهم .
وأما القراءة الثانية - وهي ضم الكاف وكسر الذال وتخفيفها - فيحتمل أن يكون المعنى - حتى إذا استيأس الرسل من النصر أو من إيمان قومهم - على اختلاف تأويل المفسرين في ذلك - وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوءة ، أو فيما توعدوهم به من العذاب - لما طال الإمهال واتصلت العافية - فلما كان المرسل إليهم - على هذا التأويل - مكذبين - بني الفعل للمفعول في قوله : «كُذِبوا » - هذا مشهور قول ابن عباس وابن جبير - وأسند الطبري : أن مسلم بن يسار قال لسعيد بن جبير : يا أبا عبد الله ، آية بلغت مني كل مبلغ : { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } فهذا هو أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مخففة . فقال له ابن جبير : يا أبا عبد الرحمن ؛ إنما يئس الرسل من قومهم أن يجيبوهم ، وظن قومهم أن الرسل كذبتهم ، فحينئذ جاء النصر . فقام مسلم إلى سعيد فاعتنقه وقال : فرجت عني فرج الله عنك .
قال القاضي أبو محمد : فرضي الله عنهم كيف كان خلقهم في العلم{[6869]} . وقال بهذا التأويل - في هذه القراءة - ابن مسعود ومجاهد ، ورجح أبو علي الفارسي هذا التأويل ، وقال : إن رد الضمير في { ظنوا } وفي «كذبوا » على المرسل إليهم - وإن كان لم يتقدم لهم ذكر صريح - جائز لوجهين .
أحدهما : أن ذكر الرسل يقتضي ذكر مرسل إليه .
والآخر : أن ذكرهم قد أشير إليه في قوله : { عاقبة الذين } ، وتحتمل هذه القراءة أيضاً أن يكون الضمير في { ظنوا } وفي { كذبوا } عائد على الرسل ، والمعنى : كذبهم من أخبرهم عن الله ، والظن على بابه - وحكى هذا التأويل قوم من أهل العلم - والرسل بشر فضعفوا وساء ظنهم - قاله ابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن جبير - وقال : ألم يكونوا بشراً ؟ وقال ابن مسعود لمن سأله عن هذا هو الذي نكره . وردت هذا التأويل عائشة أم المؤمنين وجماعة من أهل العلم ، وأعظموا أن توصف الرسل بهذا . وقال أبو علي الفارسي : هذا غير جائز على الرسل .
قال القاضي أبو محمد : وهذا هو الصواب ، وأين العصمة والعلم ؟
وأما القراءة الثالثة - وهي فتح الكاف والذال - فالضمير في { ظنوا } للمرسل إليهم ، والضمير في «كذبوا » للرسل ، ويحتمل أن يكون الضميران للرسل ، أي ظن الرسل أنهم قد كذبوا من حيث نقلوا الكذب وإن كانوا لم يتعمدوه ، فيرجع هذا التأويل إلى المعنى المردود الذي تقدم ذكره .
وقوله : { جاءهم نصرنا } أي بتعذيب أممهم الكافرة ، ثم وصف حال مجيء العذاب في أنه ينجي الرسل وأتباعهم ، وهم الذين شاء رحمتهم ، ويحل بأسه بالمجرمين الكفرة .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي «فنُنْجي » - بنونين - من أنجى . وقرأ الحسن : «فننَجي » - النون الثانية مفتوحة ، وهو من نجى ينجّي . وقرأ أبو عمرو أيضاً وقتادة «فنجّي » - بنون واحدة وشد الجيم وسكون الياء - فقالت فرقة : إنها كالأولى أدغمت النون الثانية في الجيم ؛ ومنع بعضهم أن يكون هذا موضع إدغام لتنافر النون والجيم في الصفات لا في المخارج ، وقال : إنما حذفت النون في الكتاب لا في اللفظ وقد حكيت هذه القراءة عن الكسائي ونافع . وقرأ عاصم وابن عامر «فنجيَ » بفتح الياء على وزن فعل . وقرأت فرقة «فننجيَ » - بنونين وفتح الياء - رواها هبيرة عن حفص عن عاصم - وهي غلط من هبيرة{[6870]} . وقرأ ابن محيصن ومجاهد «فنجى » - فعل ماض بتخفيف الجيم وهي قراءة نصر بن عاصم والحسن بن أبي الحسن وابن السميفع وأبي حيوة ، قال أبو عمرو الداني : وقرأت لابن محيصن «فنجّى » - بشد الجيم - على معنى فنجى النصر .
و «البأس » : العذاب . وقرأ أبو حيوة «من يشاء » - بالياء - وجاء الإخبار عن هلاك الكافرين ، بقوله : { ولا يرد بأسنا*** } الآية - إذ في هذه الألفاظ وعيد بين ، وتهديد لمعاصري محمد عليه السلام . وقرأ الحسن «بأسه » ، بالهاء .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القُرى، فدعوا من أرسلنا إليهم، فكذّبوهم، وردّوا ما أتوا به من عند الله، "حتى إذا استيأس الرسل "الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدّقوهم فيما أتوهم به من عند الله، وظنّ الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذّبة أن الرسل الذين أرسلناهم، قد كذبوهم فيما كانوا أخبروهم عن الله من وعده إياهم نصرهم عليهم، "جاءهم نصرنا"...
والقراءة على هذا التأويل الذي ذكرنا في قوله: "كُذِبُوا" بضم الكاف وتخفيف الذال، وذلك أيضا قراءة بعض قرّاء أهل المدينة وعامّة قرّاء أهل الكوفة.
وإنما اخترنا هذا التأويل وهذه القراءة، لأن ذلك عقيب قوله: "وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ أهْل القُرَى أفَلَم يَسِيرُوا في الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" فكان ذلك دليلاً على أن إياس الرسل كان من إيمان قومهم الذين أهلكوا، وأن المضمر في قوله: "وظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا" إنما هو من ذكر الذين من قبلهم من الأمم الهالكة، وزاد ذلك وضوحا أيضا إتباع الله في سياق الخبر عن الرسل وأممهم قوله: "فَنُجّيَ مَنْ نَشاءُ" إذ الذين أهلكوا هم الذين ظنوا أن الرسل قد كذبتم، فكَذّبُوهم ظنّا منهم أنهم قد كَذَبُوهم.
وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة إلى غير التأويل الذي اخترنا، ووجهوا معناه إلى: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم، وظنت الرسل أنهم قد كذبوا فيما وعدوا من النصر... قرأ ابن عباس: "حتى إذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وَظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا" قال: كانوا بشرا ضعفوا ويئسوا...
وهذا تأويلٌ، وقولٌ غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب، وخلافه من القول أشبه بصفات الأنبياء والرسل، إن جاز أن يرتابوا بوعد الله إياهم ويشكوا في حقيقة خبره مع معاينتهم من حجج الله وأدلته ما لا يعاينه المرسَل إليهم، فيعذروا في ذلك أن المرسل إليهم لأولى في ذلك منهم بالعذر، وذلك قول إن قاله قائل لا يخفى أمره. وقد ذكر هذا التأويل الذي ذكرناه أخيرا عن ابن عباس لعائشة، فأنكرته أشدّ النكرة فيما ذُكر لنا...
عن ابن أبي مليكة، قال: قرأ ابن عباس: حتى إذَا اسْتَيْأَسَ الرّسُلُ وظَنّوا أنّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فقال: كانوا بشرا ضعفوا ويئسوا، قال ابن أبي مليكة: فذكرت ذلك لعروة، فقال: قالت عائشة: معاذ الله، ما حدّث الله رسوله شيئا قطّ إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكن لم يزل البلاء بالرسل، حتى ظنّ الأنبياء أن من تبعهم قد كذبوهم. فكانت تقرؤها: «قد كُذّبوا» تثقلها...
فهذا رُوي في ذلك عن عائشة، غير أنها كانت تقرأ: «كُذّبوا» بالتشديد وضمّ الكاف، بمعنى ما ذكرنا عنها، من أن الرسل ظنت بأتباعها الذين قد آمنوا بهم أنهم قد كذبوهم، فارتدّوا عن دينهم، استبطاءً منهم للنصر.
وقد بيّنا أن الذي نختار من القراءة في ذلك والتأويل غيره في هذا الحرف خاصة.
وقال آخرون ممن قرأ قوله: «كُذّبُوا» بضم الكاف وتشديد الذال، معنى ذلك: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم ويصدّقوهم، وظنت الرسل: بمعنى واستيقنت أنهم قد كذّبهم أممُهم جاءت الرسلَ نُصْرَتُنا وقالوا: الظنّ في هذا بمعنى العلم...
وأما قوله: "فَنُجّيَ مَنْ نَشاءُ" فإن القرّاء اختلفت في قراءته، فقرأه عامة قرّاء أهل المدينة ومكة والعراق: «فَنُنَجّي مَنْ نَشاءُ» بنونين، بمعنى: فننجي نحن من نشاء من رسلنا والمؤمنين بنا، دون الكافرين الذين كذّبوا رسلنا إذا جاء الرسلَ نصرُنا... عن ابن عباس: «فَنُنَجّي مَنْ نَشاءُ» فننجّي الرسل ومن نشاء، "وَلا يُرَدّ بأْسُنا عَنِ القَوم المُجْرِمِينَ" وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث الرسل، فدعَوا قومهم. وأخبروهم أنه من أطاع نجا ومن عصاه عُذّب وغَوَى.
وقوله "وَلا يُرَدّ بأْسُنا عَن القَوْمِ المُجْرِمِينَ" يقول: ولا تردّ عقوبتنا وبطشنا بمن بطشنا به من أهل الكفر بنا عن القوم الذين أجرموا، فكفروا بالله وخالفوا رسله وما أتوهم به من عنده.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل استيآسهم من إيمانهم لكثرة ما رأوا من اعتنادهم الآيات وتفريطهم بردها، أيسوا من إيمانهم، أو كان إياسهم بالخبر عن الله أنهم لا يؤمنون كقوله: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) الآية [هود: 36] وأمثاله...
قال بعضهم: وظن الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم لكثرة ما أصابهم من الشدائد، وطال عليهم البلاء، واستأخر النصر، فوقع عند الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم لكثرة ما أصابهم، وإن كان من الأعداء، فقد استيقن الرسل أنهم قد كذبوهم...
وقال بعضهم: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسل) من إيمان قومهم (وظنوا أنهم قد كذبوا) وظن قومهم أن الرسل قد كذبوا في ما وعدوا من العذاب أنه نازل لما أبطأ عليهم العذاب.
وقال بعضهم: (وظنوا أنهم) أي ظن قومهم أن رسلهم قد كذبوهم خبر السماء (جاءهم نصرنا)...
فإن كانت الآية في أتباع الرسل على ما ذكر بعضهم فهو كقوله: (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) [البقرة: 214] وإن كانت في غيرهم من المكذبين فقد جاء الرسلَ نصرُ الله...
{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} اليأس انقطاع الطمع؛ وقوله: {كُذِبُوا} قرئ بالتخفيف وبالتثقيل، فإذا قرئ بالتخفيف كان معناه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك قالوا:"ظنّ الأمم أن الرسل كَذَبُوهم فيما أخبروهم به من نصر الله تعالى لهم وإهلاك أعدائهم"...
ومن قرأ: "كُذِّبوا "بالتشديد كان معناه: أيقنوا أن الأمم قد كذّبوهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أن الرسل لما يئسوا من فلاح القوم وعلموا أن القوم لقوهم بالتكذيب ونسبوهم إلى الكذب؛ لأن التكذيب نسبة القائل إلى الكذب، وضده التصديق، "جاءهم نصرنا "أي أتاهم نصر الله بإهلاك من كذبهم...
اعلم أنه قرأ عاصم وحمزة والكسائي {كذبوا} بالتخفيف، وكسر الذال والباقون بالتشديد. ومعنى التخفيف من وجهين:
أحدهما: أن الظن واقع بالقوم، أي حتى إذا استيأس الرسل من إيمان القوم فظن القوم أن الرسل كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر. فإن قيل: لم يجر فيما سبق ذكر المرسل إليهم فكيف يحسن عود هذا الضمير إليهم؟ قلنا: ذِكر الرسل يدل على المرسل إليهم، وإن شئت قلت إن ذكرهم جرى في قوله: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} فيكون الضمير عائدا إلى الذين من قبلهم من مكذبي الرسل والظن ههنا بمعنى التوهم والحسبان. والوجه الثاني: أن يكون المعنى أن الرسل ظنوا أنهم قد كذبوا فيما وعدوا وهذا التأويل منقول عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قالوا: وإنما كان الأمر كذلك لأجل ضعف البشرية إلا أنه بعيد، لأن المؤمن لا يجوز أن يظن بالله الكذب، بل يخرج بذلك عن الإيمان، فكيف يجوز مثله على الرسل؟ وأما قراءة التشديد ففيها وجهان:
الأول: أن الظن بمعنى اليقين، أي وأيقنوا أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر منهم الإيمان بعد ذلك، فحينئذ دعوا عليهم فهنالك أنزل الله سبحانه عليهم عذاب الاستئصال. وورود الظن بمعنى العلم كثير في القرآن قال تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} أي يتيقنون ذلك.
والثاني: أن يكون الظن بمعنى الحسبان، والتقدير: حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم فظن الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم. وهذا التأويل منقول عن عائشة رضي الله عنها وهو أحسن الوجوه المذكورة في الآية...
{جاءهم نصرنا} أي لما بلغ الحال إلى الحد المذكور...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي هذا تذكير لكفار قريش بأن سنته تعالى في عباده واحدة لا ظلم فيها ولا محاباة وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم حلّ بهم من العذاب ما حلّ بأمثالهم من أقوام الرسل كما قال في سورة القمر: {أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر} [القمر: 43]... ولا يخفى ما في الآية من التهديد والوعيد لكفار قريش ومن على شاكلتهم من المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يخبر تعالى: أنه يرسل الرسل الكرام، فيكذبهم القوم المجرمون اللئام، وأن الله تعالى يمهلهم ليرجعوا إلى الحق، ولا يزال الله يمهلهم حتى إنه تصل الحال إلى غاية الشدة منهم على الرسل. حتى إن الرسل -على كمال يقينهم، وشدة تصديقهم بوعد الله ووعيده- ربما أنه يخطر بقلوبهم نوع من الإياس، ونوع من ضعف العلم والتصديق، فإذا بلغ الأمر هذه الحال {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} وهم الرسل وأتباعهم.
{وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} أي: ولا يرد عذابنا، عمن اجترم، وتجرأ على الله {فما لهم من قوة ولا ناصر}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنها صورة رهيبة، ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل، وهم يواجهون الكفر والعمى والإصرار والجحود. وتمر الأيام وهم يدعون فلا يستجيب لهم إلا قليل، وتكر الأعوام والباطل في قوته، وكثرة أهله، والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة. إنها ساعات حرجة، والباطل ينتفش ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الأرض. فتهجس في خواطرهم الهواجس.. تراهم كذبوا؟ ترى نفوسهم كذبتهم في رجاء النصر في هذه الحياة الدنيا؟ وما يقف الرسول هذا الموقف إلا وقد بلغ الكرب والحرج والضيق فوق ما يطيقه بشر. وما قرأت هذه الآية والآية الأخرى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟...) ما قرأت هذه الآية أو تلك إلا وشعرت بقشعريرة من تصور الهول الذي يبلغ بالرسول هذا المبلغ، ومن تصور الهول الكامن في هذه الهواجس، والكرب المزلزل الذي يرج نفس الرسول هذه الرجة، وحالته النفسية في مثل هذه اللحظات، وما يحس به من ألم لا يطاق. في هذه اللحظة التي يستحكم فيها الكرب، ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل، ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة. في هذه اللحظة يجيء النصر كاملا حاسما فاصلا: (جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين). تلك سنة الله في الدعوات. لا بد من الشدائد، ولا بد من الكروب، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة. ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة التي يتعلق بها الناس. يجيء النصر من عند الله، فينجو الذين يستحقون النجاة، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين، وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون. ويحل بأس الله بالمجرمين، مدمرا ماحقا لا يقفون له، ولا يصده عنهم ولي ولا نصير...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{حَتَّى إِذَا اسْتيأسَ الرُّسُلُ} واستنفذوا كل التجارب، واستعملوا كل الأساليب، وواجهوا الناس من كل جانب، وعلى أكثر من صعيد، ولم يستجب لهم أحد، بل قابلهم الناس من حولهم، بالجحود والنكران، ولاحظوا كل ما يحيط بهم من أجواء مظلمة، وأوضاع صعبة، {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} في ما شاهدوه من الدلائل والظواهر حتى وصل الأمر بهم إلى مستوى اليقين، ووقفوا بين يدي الله، يشكون إليه أمرهم، وينتظرون أمره، ويأملون نصره، {جَآءهُمْ نَصْرُنَا} فنعذب من نشاء ممن حقّت عليه كلمة العذاب، ونثيب من استحق الغفران {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} من عبادنا ورسلنا الصالحين، {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} بل ينالهم العذاب من كل جانب ومكان...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تشير هذه الآية إلى أدقّ وأصعب لحظة في حياة الأنبياء فنقول: إنّ الأنبياء يواجهون دائماً مقاومة عنيفة من قبل أقوامهم وطواغيت زمانهم حتّى يصل الحال بالأنبياء إلى اليأس إلى حدّ يظنّون أنّ أتباعهم المؤمنين القليلين قد كذبوا عليهم وتركوهم وحدهم في مسيرتهم في الدعوة إلى الحقّ، وفي هذه الأثناء حيث انقطع أملهم في كلّ شيء أتاهم نصرنا. وفي نهايتها تشير إلى عاقبة المجرمين (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين). فهذه سنّة الله في الذين أصرّوا على أعمالهم وأغلقوا باب الهداية على أنفسهم، فهم وبعد إتمام الحجّة عليهم ينالهم العذاب الإلهي فلا تستطيع أي قوّة أن تردّه. في تفسير هذه الجملة من الآية: (ظنّوا أنّهم قد كذبوا) ومن المقصود بها، هناك عدّة آراء للمفسرين:
إنّ كثيراً من علماء التّفسير يرون ما قلناه سابقاً، وخلاصته: إنّ عمل الأنبياء يصل إلى درجة يعتقدون فيها أنّ كلّ الناس سوف يكذبوهم، حتّى تلك المجموعة التي تظهر إيمانها ولكنّها غير راسخة في عقيدتها.
ويحتمل في تفسير الآية أنّ فاعل «ظنّوا» هم المؤمنون، وإنّ المشاكل والاضطرابات تصل إلى حدٍّ بأن يسوء ظنّهم بما وعدهم الأنبياء من النصر ويخيل إليهم أنّه خلاف الواقع؟ وليس بعيداً سوء الظنّ هذا من الأفراد الذين آمنوا حديثاً.
وبعض آخر أعطى تفسيراً ثالثاً للآية، وخلاصته: إنّ الأنبياء بدون شكّ كانوا بشراً، فحين يُزلزلوا زلزالا شديداً وتبدوا جميع الأبواب أمامهم موصدة ظاهراً، ولا يُرى في الأفق فرج، والحوادث المتتالية تعصف بهم، وصرخات المؤمنين الذين نفذ صبرهم تصل إلى أسماعهم، نعم في هذه الحالة وبمقتضى الطبع البشري قد يتبادر إلى أذهانهم أنّ الوعد بالنصر بعيد عن الصحّة! أو أنّ النصر الموعود له شروطه التي لم تتحقّق بعد، ولكن سرعان ما يتغلّبون على هذه الأفكار ويبعدونها عن أذهانهم ويشع في قلوبهم بصيص الأمل، ومن ثمّ تتّضح لهم بشائر النصر. وشاهدهم على هذا التّفسير الآية (214) سورة البقرة: (حتّى يقول الرّسول والذين آمنوا معه متى نصر الله). ولكن مجموعة أُخرى من المفسّرين أمثال العلاّمة «الطبرسي» في مجمع البيان و «الرازي» في تفسيره الكبير، بعد ما ذكروا هذا الاحتمال قالوا ببطلانه لأنّه حتّى هذا المقدار من التوهّم ليس من مقام الأنبياء، وعلى أيّة حال فالأصحّ هو التّفسير الأوّل...