89- وحذر - أيها النبي - كفار قومك مما سيحصل يوم نُحضر من كل أمة شهيداً عليها ، هو نبيها الذي يكون بين أبنائها ، ليكون ذلك أقطع لعذرها ، ونجيء بك - أيها النبي - شهيداً على هؤلاء الذين كذبوك ، وعليهم أن يعتبروا من الآن ، قد نزلنا القرآن فيه بيان كل شيء من الحق ، وفيه الهداية ، وفيه الرحمة والبشرى بالنعيم ، للذين يذعنون له ويؤمنون به .
ثم أكد - سبحانه - أمر البعث ، وأنه آت لا ريب فيه ، فقال - تعالى - : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } .
والمراد بالشهيد هنا : كل نبي بعثه الله - تعالى - لأمة من الأمم السابقة كنوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وغيرهم من الأنبياء السابقين - عليهم الصلاة والسلام - .
والظرف { يوم } متعلق بمحذوف تقديره : اذكر .
والمعنى : واذكر - أيها العاقل لتتعظ وتعتبر - يوم القيامة - يوم نبعث في كل أمة من الأمم السابقة ، نبيها الذي أرسل إليها في الدنيا ، ليشهد عليها الشهادة الحق ، بأن يشهد لمؤمنها بالإِيمان ، ولكافرها بالكفر .
وقوله - سبحانه - : { من أنفسهم } ، أي : من جنسهم وبيئتهم ، ليكون أتم للحجة ، وأقطع للمعذرة ، وأدعى إلى العدالة والإنصاف .
قال الألوسي : ولا يرد لوط - عليه السلام - فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم - أيضا - .
وقال ابن عطية : يجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الأنبياء - عليهم السلام - .
وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة .
وقوله - سبحانه - : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريف والتكريم . أي : وجئنا بك - أيها الرسول الكريم - يوم القيامة شهيدا على هؤلاء الذين أرسلك الله - تعالى - لإِخراجهم من الظلمات إلى النور .
وإيثار لفظ المجيء على البعث ، لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير قوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، يعني : أمتك . أي : اذكر ذلك اليوم وهوله ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم ، والمقام الرفيع . " وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء ، فلما وصل إلى قوله - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حسبك " . فقال ابن مسعود : فالتفت فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان . أي : بالدموع . . . " .
والمراد بشهادته على أمته صلى الله عليه وسلم : تصريحه بأنه قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح لأمته ، وتزكيته لأعمال الصالحين منها ، ورجاؤه من الله - تعالى - في هذا اليوم العصيب أن يغفر للعصاة من هذه الأمة .
ويرى بعضهم أن المراد بهؤلاء في قوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاء } ، أي : على الأنبياء السابقين وأممهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى الصواب ؛ لأنه هو الظاهر من معنى الجملة الكريمة ، ولأن آية سورة النساء : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } تؤيده .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان ما أنزله عليه من وحي فيه الشفاء للصدور ، والموعظة للنفوس فقال - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
والتبيان : مصدر يدل على التكثير . قالوا : ولم يجئ من المصادر على هذه الزنة إلا لفظان : لفظ التبيان ، ولفظ التلقاء . أي : { ونزلنا عليك } - أيها الرسول الكريم - { الكتاب } الكامل الجامع ، وهو القرآن الكريم ، { تبيانا } ، أي : بيانا بليغا شاملا ، { لكل شيء } ، على سبيل الإِجمال تارة ، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى .
وقوله : { وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } ، صفات أخرى للكتاب .
أي : أنزلنا عليك القرآن ليكون تبيانا لكل شيء ، وليكون هداية للناس إلى طريق الحق والخير ، ورحمة لهم من العذاب ، وبشارة لمن أسلموا وجوههم لله - تعالى - وأحسنوا القول والعمل ، لا لغيرهم ممن آثروا الكفر على الإِيمان ، والغيّ على الرشد .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، أي : بيانا بليغا ، فالتبيان أخص من مطلق البيان ، على القاعدة : أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى .
وهذا التبيان إما في نفس الكتاب ، أو بإحالته على السنة لقوله - تعالى - : { . . . وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ . . . }
أو بإحالته على الإجماع كما قال - تعالى - : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى . . . }
أو على القياس كما قال : { فَاعْتَبِرُواْ يأُوْلِي الأَبْصَارِ } ، والاعتبار : النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس .
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلها مذكورة في القرآن ، فكان تبيانا لكل شيء ، فاندفع ما قيل : كيف قال الله - تعالى - : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ، ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصا ، كعدد ركعات الصلاة ، ومقدار حد الشرب ، ونصاب السرقة وغير ذلك . . . .
وبعد أن مدح - سبحانه - القرآن الكريم ، بأن فيه تبيان كل شيء ، وأنه هداية ورحمة وبشرى للمسلمين ، أتبع ذلك بآيات كريمة أمرت المسلمين بأمهات الفضائل ، وبجماع مكارم الأخلاق ، ونهتهم عن الفواحش والرذائل لتكون كالدليل على ما في هذا الكتاب من تبيان وهدى ورحمة ، فقال - تعالى - : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . . . } .
ثم يخصص السياق موقفا خاصا للرسول [ ص ] مع قومه :
( ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) . .
وفي ظل المشهد المعروض للمشركين ، والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء فيه شركاءهم ، ويستسلمون لله متبرئين من دعوى عبادهم الضالين ، يبرز السياق شأن الرسول مع مشركي قريش يوم يبعث من كل أمة شهيد . فتجيء هذه اللمسة في وقتها وفوتها : ( وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ) . . ثم يذكر أن في الكتاب الذي نزل على الرسول ( تبيانا لكل شيء )فلا حجة بعده لمحتج ، ولا عذر معه لمعتذر . ( وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) . . فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل أن يأتي اليوم المرهوب ، فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون . .
وهكذا تجيء مشاهد القيامة في القرآن لأداء غرض في السياق ، تتناسق مع جوه وتؤديه .
{ ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } ، يعني : نبيهم ، فإن نبي كل أمة بعث منهم . { وجئنا بك } يا محمد { شهيدا على هؤلاء } على أمتك . { ونزّلنا عليك الكتاب } ، استئناف ، أو حال بإضمار قد . { تبيانا } ، بيانا بليغا . { لكل شيء } ، من أمور الدين ، على التفصيل أو الإجمال ، بالإحالة إلى السنة أو القياس . { وهدى ورحمة } ، للجميع ، وإنما حرمان المحروم من تفريطه . { وبشرى للمسلمين } ، خاصة .
وقوله تعالى : { ويوم نبعث } الآية ، هذه الآية في ضمنها وعيد ، والمعنى واذكر يوم نبعث في كل أمة شهيداً عليها ، وهو رسولها الذي شاهد في الدنيا تكذيبها وكفرها ، وإيمانها وهداها ، ويجوز أن يبعث الله شهيداً من الصالحين مع الرسل ، وقد قال بعض الصحابة : إذا رأيت أحداً على معصية فانهه ، فإن أطاعك وإلا كنت شهيداً عليه يوم القيامة ، { من أنفسهم } ، بحسب أن بعثة الرسل كذلك في الدنيا ، وذلك أن الرسول الذي من نفس الأمة في اللسان والسير ، وفهم الأغراض والإشارات ، يتمكن له إفهامهم ، والرد على معانديهم ، ولا يتمكن ذلك من غير من هو من الأمة ، فلذلك لم يبعث الله قط نبياً إلا من الأمة المبعوث إليهم ، وقوله : { هؤلاء } ، إشارة إلى هذه الأمة . و { الكتاب }ن القرآن ، وقوله : { تبياناً } ، اسم وليس بالمصدر ، وهو كالنقصان ، والمصادر في مثل هذا ، التاء فيها مفتوحة كالترداد والتكرار{[7399]} ، ونصب { تبياناً } على الحال{[7400]} .
وقوله : { لكل شيء } ، أي : مما يحتاج في الشرع ، ولا بد منه في الملة ، كالحلال والحرام ، والدعاء إلى الله ، والتخويف من عذابه ، وهذا حصر ما اقتضته عبارات المفسرين ، وقال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء قد بين لنا في القرآن ، ثم تلا هذه الآية .